Published On 25/12/202525/12/2025

|

آخر تحديث: 20:47 (توقيت مكة)آخر تحديث: 20:47 (توقيت مكة)

انقر هنا للمشاركة على وسائل التواصل الاجتماعي

share2

دأبت منصة “آبل تي في بلس” (Apple TV+) على تقديم أعمال لامعة، سواء من حيث أسماء الممثلين والممثلات المشاركين فيها، أو صناعها بشكل عام. وفي إطار النهج نفسه، تقدم في ختام عام 2025 أحدث أعمال الكاتب والمنتج الأميركي فينس غيليغان، المعروف بصناعة عوالم درامية معقدة في أعمال مثل “بريكنغ باد” (Breaking Bad) و”من الأفضل الاتصال بسول” (Better Call Saul).

مسلسل “بلوريبوس” (Pluribus) عمل درامي ينتمي إلى الخيال العلمي، تقوم ببطولته ريا سيهورن، التي تعاونت من قبل مع غيليغان في مسلسل “من الأفضل الاتصال بسول”، إلى جانب مجموعة من الممثلين، من بينهم ميريام شور وكارولينا فيدرا.

بلوريبوس بين اليوتوبيا والديستوبيا

يقدم “بلوريبوس” عالما يقف على الحافة بين اليوتوبيا والديستوبيا، حيث تدور أحداثه في عالم يتعرض لتغيير جذري بعد ظاهرة غامضة قادمة من الفضاء، تؤدي إلى اندماج البشر في وعي جماعي واحد، تختفي فيه الصراعات الفردية، ويحل محلها شعور عام بالسعادة والتناغم. غير أن هذا الاندماج العظيم لم يشمل عددا محدودا من البشر يبلغ حوالي 12 فردا، من بينهم شخصية كارول ستوركا، بطلة المسلسل، التي تجسدها ريا سيهورن، والتي ترفض هذا الاندماج وتقاوم فقدان ذاتها.

اقرأ أيضا list of 2 itemsend of list

وتختفي في هذا العالم الجديد الخلافات الفردية، ويعم البشر شعور بالرضا والسعادة، كما لو أن الإنسانية وجدت أخيرا حلا لكل أزماتها. وفي قلب هذا الواقع الجديد تقف شخصية كارول كامرأة عاجزة عن الاندماج الكامل مع هذا الوعي المشترك، بل رافضة ومقاومة له، لتبدأ مغامرتها في محاولة استعادة الوضع الأصلي، على الرغم من أن حياة البشر منذ بدايتها كانت مشوبة بالصعوبات والصراعات.

يضع المسلسل متفرجيه أمام خيار إزاء هذا العالم: هل هو يوتوبيا أم ديستوبيا؟ مدينة فاضلة غابت عنها الصراعات، أم واقع مرعب أزاح أهم ما يميز البشر، وهي فردانيتهم واختلافاتهم الضئيلة التي تميز أحدهم عن الآخر؟

يبدو الواقع الجديد بعد الاندماج كما لو أنه حلم إنساني طال انتظاره؛ عالم بلا صراعات، أو عنف، أو شعور بالوحدة، تحكمه سعادة جماعية وتناغم شبه كامل بين البشر. لكن خلف هذا الهدوء المثالي يزرع المسلسل شكا جوهريا حول طبيعة هذا العالم، ويطرح سؤالا مقلقا: هل السعادة التي لا تسمح بالاختلاف يمكن اعتبارها سعادة حقيقية؟ وهل السعادة التي يُجبر عليها البشر جميعا تُعد سعادة من الأساس؟

غياب الألم والقلق والصراعات في هذا العالم الجديد يقابله غياب الاختيار وذوبان الفرد داخل الكل، الأمر الذي يثير مخاوف فقدان الهوية والحرية الشخصية. وبهذا المعنى، لا يقدم المسلسل إجابة قاطعة، بل يترك المتفرج معلقا بين تصورين متناقضين: يوتوبيا من منظور الجماعة، وديستوبيا من منظور الفرد، أي كارول.

ويرسم مسلسل “بلوريبوس” تباينا واضحا بين موقف كارول، التي ترى في الاندماج الجماعي خللا وجوديا يجب إصلاحه، وموقف العشرة الآخرين الذين لم يندمجوا في الوعي المشترك، لكنهم في الوقت نفسه راضون عن المجتمع الجديد، ويفضلونه على العالم القديم.

وتنطلق كارول من إحساس عميق بفقدان المعنى، وتتعامل مع الاندماج بوصفه سلبا قسريا للهوية والقدرة على الاختيار، لذلك تحاول استعادة المجتمع إلى حالته الأصلية بما فيه من تناقضات وأخطاء وعنف قاد إلى حروب وقتل جماعي. في المقابل، يمثل الآخرون موقفا أكثر براغماتية وهدوءا؛ فهم يدركون أنهم خارج الجماعة، لكنهم لا يشعرون بالتهديد من ذلك، بل يرون في العالم الجديد مساحة آمنة خالية من الصراعات. ويرصد المسلسل هذا الانقسام الأخلاقي والفلسفي بين من يؤمن بالحرية الفردية، ومن يرى أن السلام والاستقرار أهم، حتى لو كانا على حساب الذات، كثمن مقبول لعالم أقل ألما.

 

بلوريبوس وعودة لبدايات فينيس غيليغان

تحمس الكثير من المتفرجين لمسلسل “بلوريبوس” بسبب اسم مبتكره فينس غيليغان، المسؤول عن اثنين من أفضل مسلسلات القرن الـ21، معتقدين أن أحدث أعماله سيتماشى مع الخط الدرامي نفسه والعوالم القاتمة القائمة على الجريمة والطموح والانحدار الأخلاقي. لذلك قد يخيب المسلسل آمال بعضهم، إذ يأتي بنبرة تأملية، ولا يعتمد على التصعيد العنيف أو الصراع المباشر، بل على القلق الوجودي والأسئلة الفلسفية، ما يجعله تجربة مختلفة إلى حد كبير عن المسلسلين السابقين لغيليغان، أو اللذين عرفه الجمهور من خلالهما.

غير أن بدايات غيليغان لم تكن في مسلسلات الجريمة؛ فقبل ذلك وُلد مشروعه الفني داخل عالم مسلسل الخيال العلمي الأيقوني “الملفات إكس” (The X-Files)، حيث عمل كاتبا ومنتجا منذ منتصف التسعينيات، وكتب عددا من الحلقات التي تُعد حتى اليوم من الأكثر تميزا في تاريخ المسلسل.

في تلك المرحلة، ظهرت ملامح أسلوبه المبكر بوضوح، من اهتمام بالأسئلة الأخلاقية أكثر من الحلول، إلى شخصيات تعيش صراعات داخلية صامتة، ونهايات تترك أثرا نفسيا بدلا من إجابات قاطعة، إضافة إلى تفكيك فكرة الشر، لا بوصفه قوة خارقة، بل كاختيار إنساني معقد.

ومع “بريكنغ باد”، لم يتخل غيليغان عن هذه السمات، بل جردها من إطارها الفانتازي، ليتحول الغموض الخارجي في “الملفات إكس” إلى غموض أخلاقي داخلي، وتُطرح الأسئلة الفلسفية ضمن مسار يتتبع كيف يمكن لشخص عادي أن ينحدر خطوة خطوة إلى الإجرام. وظل جوهر كتابته ثابتا، متمثلا في التشكيك في ثنائية الخير والشر، والاهتمام بما يحدث داخل الشخصيات أكثر مما يحدث حولها، ما يجعل مسيرته تبدو متصلة ومتطورة لا منفصلة بين مرحلتين.

وعند الانتقال إلى أحدث أعماله “بلوريبوس”، يتضح أن غيليغان يعيد اختبار هواجسه القديمة في سياق جديد تماما؛ فإن كان في “الملفات إكس” قد استخدم الخيال العلمي كعدسة لفحص الخوف والذنب والشر الكامن في الإنسان، وفي “بريكنغ باد” حول هذا الفحص إلى رحلة أخلاقية طويلة عن التحول والانحدار الفردي، فإنه في “بلوريبوس” ينقل السؤال إلى مستوى أكثر اتساعا: ماذا يحدث للإنسان عندما لا يكون مضطرا للاختيار أصلا؟ هنا لا يدور الصراع حول شخص يقرر أن يصبح أسوأ، بل حول عالم ألغى إمكانية الاختلاف من الأساس، وقدم السعادة بوصفها حالة جماعية مفروضة لا نتيجة لقرار شخصي.

العودة إلى ألباكيركي مختلفة

من الناحية البصرية، يواصل مسلسل “بلوريبوس” استعراض ارتباط فينس غيليغان بمدينة ألباكيركي، التي شكلت خلفية أيقونية لأحداث “بريكنغ باد” و”بيتر كول سول”، لكنه يعيد توظيف المكان هذه المرة بروح مختلفة. فبدلا من المساحات القاسية والطرق الخالية التي عكست في العملين السابقين العنف والتوتر، يعتمد المسلسل الأحدث على تصوير المناظر الطبيعية الهادئة في نيو مكسيكو، من سماء مفتوحة، وصحارى ساكنة، وضوء طبيعي يمنح الصورة إحساسا دائما بالسكينة.

هذا الهدوء البصري لا يأتي بوصفه عنصرا جماليا فقط، بل كامتداد مباشر لحالة الاندماج والانسجام التي يعيشها العالم بعد التحام البشر داخل وعي واحد، حيث يبدو كل شيء متوازنا وخاليا من الاضطراب. غير أن هذا الصفاء الظاهري يتحول إلى عبء نفسي على كارول، التي ترى في الهدوء المستمر علامة اختناق لا راحة؛ فبينما توحي الكادرات الواسعة والمساحات المفتوحة بالحرية في المعتاد، تصبح بالنسبة لبطلة المسلسل رمزا لفقدان حرية الاختيار، وكأن العالم سكن بلا حراك إلى الأبد.

في النهاية، يقدم مسلسل “بلوريبوس” رؤية لعالم يبدو مثاليا بعد اندماج البشر، لكنه يطرح في جوهره أسئلة عميقة عن الحرية والهوية ومعنى السعادة، وهكذا يواصل فينس غيليغان مشروعه الدرامي في تفكيك الإنسان، لكن هذه المرة عبر غياب الصراع لا عبر حضوره.