“قامة لبنانية أصيلة وركن من أركان الذاكرة الجماعية اللبنانية”… بهذه الكلمات وصف الرئيس اللبناني جوزيف عون الممثل اللبناني صلاح تيزاني، خلال تقليده وسام الاستحقاق “الفضي ذي السعف”، تكريمًا لمسيرته الفنية العريقة التي تمتد على مدى 65 عامًا.

ذلك الوسام، الذي جاء مفاجئًا للفنان صلاح تيزاني، ينضمّ إلى سلسلة من التكريمات التي حظي بها طوال مسيرته، فيما تشهد جدران منزله في العاصمة بيروت على تلك المحطات، وتُرسّخ ما قدّمه من أعمال فنية كوميدية راسخة، جميعها ضمن إطار فني ملتزم.

أبو سليم.. ذاكرة لبنان الحية

وبعمر ناهز 97 عامًا، يمكث الفنان اللبناني صلاح تيزاني في منزله، مستذكرًا حقبة فنية رسمت ملامح حياته، وجعلته “نجمًا” بين نجوم الفن في لبنان.

تيزاني ليس معروفًا باسمه الحقيقي بقدر ما هو معروف باسم “أبو سليم الطبل”، وهو اللقب الذي نُسب إليه منذ ستينيات القرن الماضي، فيما يسرد حكاية هذا الاسم ويكشف حيثياته التي يجهلها كثيرون.

“أبو سليم”، المنحدر من مدينة طرابلس شمال لبنان، والمولود فيها عام 1928، لم يكن ممثلًا عاديًا، بل كان كاتبًا ومخرجًا في آنٍ واحد. كما قاد “فرقة” من الممثلين، وتولى تمويل إنتاجه الفني بنفسه، وكان من الشخصيات التي ساهمت في انطلاقة “تلفزيون لبنان” في ستينيات القرن الماضي، كأول محطة تلفزيونية في الشرق.

كذلك، لا يُعدّ “أبو سليم” شخصية فنية عابرة، بل يُمثّل مخزونًا من الذاكرة الجماعية ومرآة تعكس الماضي، فيما كانت علاقاته مع العديد من الفنانين استثنائية، ولا سيما مع المطربة اللبنانية فيروز وزوجها الراحل الفنان عاصي الرحباني.

أسرار كثيرة يرويها “أبو سليم” عن حياته ومسيرته الفنية عبر موقع التلفزيون العربي، وغالبيتها تُكشف للمرة الأولى أمام الجمهور. ومن خلالها، يستعيد بذاكرة قوية تفاصيل وأحداثًا عاصرها، وكان لها وقع كبير في مسيرته.

فماذا كشف من أسرار عن مشواره الفني؟ وماذا يقول عن فنه وبداياته؟ وكيف تحدّث عن فيروز وتجربته معها؟ وماذا روى عن الحرب اللبنانية وخفاياها؟ وما رأيه في الدولة اللبنانية وعلاقتها بالفنانين؟

كيف قادت الصدفة “أبو سليم” إلى عالم الكوميديا؟

يتحدّث “أبو سليم” عن بداياته الفنية، فيقول في حديثٍ خاص لموقع التلفزيون العربي إنّ انخراطه في مجال التمثيل والكوميديا جاء محض صدفة، ولم يكن مخطّطًا له مسبقًا. ففي مطلع شبابه، لم يكن “أبو سليم” ممثلًا، ولا شخصًا يدرس التمثيل أو المسرح، بل كان يعمل في مجال النجارة والموبيليا، أي في مهنة حرفية تقوم على تشكيل الخشب وتصميمه.

يفتح “أبو سليم” دفاتر الانطلاقة، ويقول إن “البداية كانت من رحاب كشافة الجرّاح”، مشيرًا إلى أنه كان يشارك في حفلات الكشاف ويقدّم خلالها لوحات فكاهية وكوميدية طريفة.

“كان ذلك بين أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، وقد أظهرت حينها براعة عفوية في تأدية العروض الكوميدية، ومن هناك بدأت خطوط الانطلاقة التي لم أكن أعلم أنها ستقودني إلى عالم الفن الواسع”.

ويلفت “أبو سليم” إلى أنّ نشاطه ضمن كشافة الجرّاح كان يتركّز في مدينة طرابلس، مشيرًا إلى أن أول مسرحية قدّمها ضمن مشاركاته مع “الكشاف” كانت بعنوان “المسافر”. ويقول: “كانت مسرحية قصيرة تدور قصتها حول شخص ينوي السفر جوًّا، فيتجمّع أهل قريته حوله لإرسال مواد غذائية وبضائع معه، ظنًّا منهم أنه قادر على حمل كل شيء”.

“بأسلوب فكاهي، استطعت إيصال فكرة أنّ كثيرين لم تكن لديهم أي معرفة بالسفر الجوي آنذاك، وأن بعضهم كان يعتقد بإمكان وضع الأغراض فوق الطائرة كما لو كانت باخرة”.

أبو سليم يروي قصته وبداياته مع الفن والكوميديا والمسرح والتلفزيون – خاص موقع التلفزيون العربي

ويتابع: “حرصتُ على أن يجمع قالب المسرحية بين الرسالة والكوميديا في آنٍ واحد، ومن خلالها لفتُّ أنظار عدد من الفنانين، ولا سيما عبد الكريم عمر وعوني المصري، اللذين أبلغانني بأن تلفزيون لبنان يبحث عن مواهب كوميدية، وشجّعاني على التوجّه لتقديم طلب والانخراط في مجال التمثيل”.

ويقول “أبو سليم” إنه في تلك الفترة كان يمتلك فرقة صغيرة من الممثلين، إذ كان يقدّم معهم عروضًا كوميدية خلال حفلات الكشاف، وهؤلاء أنفسهم رافقوه طوال مسيرته الفنية، ومن بينهم الفنانون عبد الله حمصي، أحمد ضابط، زكريا عرداتي، وزكي العامودي، وغيرهم.

ويضيف: “في ذلك الوقت، كان تلفزيون لبنان قد فتح أبوابه حديثًا عام 1959. وكانت التجربة جديدة بالنسبة لنا، فالتلفزيون كان ظاهرة غريبة ومفاجئة آنذاك. كما تشجّعنا أكثر لأننا كنا نطمح إلى الخروج من إطار طرابلس، وأن تصل صورتنا ورسالتنا الكوميدية إلى مناطق أخرى في لبنان، وربما إلى بلدان أخرى”.

ويتابع: “توجّهتُ حينها مع الفرقة الخاصة بي إلى تلفزيون لبنان في منطقة تلة الخياط في بيروت. كان موعدنا، على ما أذكر، يوم الإثنين عند الساعة الثانية بعد الظهر، لكننا وصلنا عند الساعة الثامنة صباحًا. أخبرنا البوّاب آنذاك، أبو حنّا، بأننا جئنا في وقت مبكر، وعليْنا الانتظار حتى الساعة الثانية. وبالفعل، بقينا في محيط مبنى التلفزيون حتى الموعد المحدّد، ثم دخلنا وقدّمنا فقرة كوميدية كتجربة أولى، ومن هناك كانت الانطلاقة”.

أشخاص من الفضاء ولهجة الشمال

يسردُ “أبو سليم” تفاصيل بداياته في “تلفزيون لبنان”، ويقول إنها كانت تجربة فريدة من نوعها، مشيرًا إلى أن الناس كانوا مذهولين بالتلفزيون عند انطلاقته. ويضيف: “أول برنامج قدمناه في التلفزيون كان اعتبارًا من عام 1960 واستمر حتى عام 1970، لكن الأمر الأساسي هو أننا كنا نصوّر الحلقات عبر الهواء مباشرة. وبعد ذلك، توالت البرامج الكوميدية التي قدمناها على مرّ السنوات، ومنها: سيارة الجمعية، أبو سليم 2000، فندق السعادة، وغيرها”.

ويتحدث “أبو سليم” عن موقف طريف حصل معه بعد دخوله التلفزيون، إذ يقول إنه صادف أشخاصًا عاديين ذات مرة، وكان لدى هؤلاء اعتقاد بأنه وفرقته قد أتوا من الفضاء، إذ لم يصدقوا أن الشخصيات التي كانت تظهر في التلفزيون حقيقية وليست خيالية. ويضيف: “ما عزّز هذا الاعتقاد أننا كنا نستخدم لهجة بدت غريبة بالنسبة لهم”.

“في الأساس، كان إرسال التلفزيون وتردده يقتصران في بداياته على بيروت وضواحيها، بينما كنا نستخدم اللهجة الطرابلسية والشمالية، التي كانت نوعًا ما غريبة على كثيرين في بيروت. ولهذا، وبما أن التلفزيون كان أمرًا جديدًا، وبما أننا كنا نتحدث بلهجة طرابلسية وشمالية في أعمالنا، اعتقد الناس أننا غرباء، حتى إن بعضهم ظنّ أننا من الفضاء”.

ويتابع: “في ذلك الوقت، لم تكن أجهزة التلفزيون منتشرة بين الناس، وإن وُجدت فكانت لدى أشخاص معدودين فقط. لكن لاحقًا بدأت أجهزة التلفاز تنتشر في بيروت، وكان يتم وضعها في واجهات المتاجر. آنذاك، كانت هذه خطوة تهدف إلى التعريف بالتلفزيون وتشجيع الناس على متابعته. ولهذا الغرض، تم نشر 100 جهاز تلفزيون في بيروت، وكانت تُعرض من خلالها صور متحركة”.

ويُكمل: “كان الناس مذهولين بما يشاهدونه عبر هذا الجهاز الغريب. وبعد ذلك، أُطلق عرض يقضي بأن من يرغب في امتلاك تلفاز في منزله عليه أن يدفع 250 ليرة لبنانية ثمنًا له، مع إمكانية تقسيط المبلغ على دفعات شهرية تبلغ قيمة كل واحدة منها 15 ليرة لبنانية. هذه الخطوة شجعت كثيرين على شراء التلفزيون، وهذا ما حصل في بيروت، حيث بدأت الأجهزة تُباع تدريجيًا، وتطور الأمر حتى بات كثيرون يشترون الجهاز مع اللاقط الخاص به ليصبح صالحًا للاستخدام داخل منازلهم”.

ويضيف: “آنذاك، كان للتلفزيون مواعيد محددة للبث، فتارة يعرض موسيقى، وتارة صورًا متحركة، ونشرة أخبار، وفيلمًا أجنبيًا، ثم يُغلق إرساله حتى اليوم التالي. في الواقع، كانت تلك الأيام جميلة بما حملته من غرابة، لكن اللافت أن الناس كانوا حريصين على مواكبة كل جديد، ومع الوقت بدأ التلفزيون ينتشر في المنازل والمقاهي”.

تاريخ حافل بالتكريمات والإنجازات في مسيرة أبو سليم الفنية – خاص موقع التلفزيون العربي

“أبو سليم الطبل”.. سرّ التسمية

يقولُ “أبو سليم” إن عمله في التلفزيون كان زاخرًا بالإنتاج الفني، مشيرًا إلى أنه كان يكتب ويقدّم حلقات تلفزيونية مختلفة ومتنوعة. ويضيف: “نظرًا لكثرة عدد الحلقات المطلوبة في التلفزيون، وجدتُ أن هناك شُحًّا في الأفكار، فيما فكّرتُ بترجمة بعض الأعمال الأجنبية، لكن الشخص الذي أردنا الاستعانة به طلب مبلغًا كبيرًا، يتجاوز قيمة الحلقة الواحدة التي كانت تبلغ نحو 250 ليرة، وهو مبلغ كان يُقسَّم على الفرقة بأكملها”.

“لذلك، وجدتُ أن الأنسب هو ترجمة عاداتنا وتقاليدنا إلى حلقات تلفزيونية، ولهذا السبب بدأت أكتب سيناريوهات وقصصًا تدور في فلك تلك العادات. وكانت أول فرقة شكّلناها رسميًا في التلفزيون هي فرقة كوميديا لبنان”.

ويكمل: “آنذاك، كنت قد التقيت بالإذاعي الفلسطيني الشهير رشاد البيبي، الذي كان له دور مرتبط بتلفزيون لبنان. حينها، طلب مني البيبي أن أجد تسمية جديدة للفرقة التي كنت أقودها. وفي ذلك الوقت، كانت لفظة (أبو) رائجة جدًا في الأوساط الفنية، مثل أبو ملحم وغيرها، فكان الخيار أن نسير في هذا المسار لاختيار اسم الفرقة انطلاقًا من لفظة (أبو)”.

ويلفت “أبو سليم” إلى أنه بدأ يبحث عن اسم لا يكون استفزازيًا لأي أحد، ويضيف: “كنت أُولي هذه النقطة اهتمامًا كبيرًا، وأردت ألا يكون اسم الفرقة مرتبطًا بأسماء تدل على طائفة معينة، تجنبًا لأي إشكاليات قد تعترض طريقنا. كذلك، اخترت تسمية أعضاء الفرقة بأسماء لا ترتبط بجماعة دينية أو طائفية، تداركًا لأي حساسيات. وعليه، اخترت أسماء: فهمان، درباس، مشكاح، أسعد، فيما اخترت لنفسي اسم أبو سليم”.

“في إحدى الحلقات، قررنا إطلاق تسمية جديدة لفرقتنا، وجاء ذلك من خلال مشهد كوميدي قمنا بإعداده، يتمثل بذهابي إلى مركز الأمن العام للحصول على جواز سفر. وكانت هذه الخطوة تتطلب وجود شهود معي، فأخذتُ شخصين هما فهمان (الفنان محمود مبسوط) وأسعد (الفنان عبد الله حمصي). وقبل الذهاب إلى المركز، قلت لهما إنه يجب أن نتفق على تسمية واحدة تخصني ليتم تدوينها في شهادتهما، وهي: أبو سليم الطبل”.

ويتابع: “ذهبنا وقابلنا الضابط، فسألني عن اسمي وتفاصيلي الشخصية. وحين جاء الدور على فهمان، سأله الضابط عن اسمه، فقال: فهمان. فسأله: فهمان ماذا؟ فأجاب: فهمان أبو الفهم. عندها، نظر الضابط إلى الدفتر وقال: أهلًا أهلًا بك، إننا نبحث عنك، وعليك محضر مخالفة بقيمة 75 ليرة”.

ويضيف: “عندها، وبأسلوب فكاهي، صرخ فهمان قائلاً: خربتلي بيتي يا أبو سليم، فقمت بطمأنته بأنني سأدفع المبلغ. لكن الأمر لم ينتهِ هنا، إذ سأل الضابط أسعد عن هويتي. ونظرًا لخوفه مما حصل مع فهمان، قال أسعد بأسلوب كوميدي إنه لا يعرفني. عندها، رفعتُ نبرة صوتي وقلت له: الآن لم تعد تعرفني يا أسعد؟ أنا أبو سليم شو؟”.

ويتابع: “قمتُ بتحريك يديّ للإشارة إلى الطبل كي يفهم أسعد المقصود ويتذكر الاسم، لكن لشدة خوفه قال للضابط إن اسمي هو أبو سليم دربكة. عندها، اكتمل المشهد الفكاهي، خصوصًا حين دخلت في حوار كوميدي مع أسعد لتصحيح الموقف والاسم، كي يتم توثيق الشهادات والحصول على جواز السفر. ومنذ ذلك الحين، تم اعتماد اسم أبو سليم الطبل، انطلاقًا من تلك الحلقة”.

لحظات فنية فارقة في حياة الفنان اللبناني صلاح تيزاني أبو سليم

سر اللقاء مع فيروز الأيقونة الفنية

في حديثه عبر موقع التلفزيون العربي، يستذكر “أبو سليم” كيف التقى الفنانة اللبنانية الشهيرة فيروز، وشارك معها في مسرحية أيام فخر الدين عام 1966، كاشفًا أن لهذا اللقاء سردية خاصة ومفاجئة. ويضيف: “بدأت القصة حين جاء إليّ المخرج حسيب شمس وقال إنه يريد تصوير فيلم سينمائي لفرقة أبو سليم، فوافقنا على ذلك، وأنتجنا عملًا سينمائيًا بعنوان أبو سليم في المدينة”.

“تم تصوير هذا الفيلم في ستينيات القرن الماضي، وعُرض في سينما الأوبرا في ساحة البرج بوسط بيروت (ساحة الشهداء حاليًا). في الواقع، أثار الفيلم ضجة كبيرة في أوساط الناس، وبدأ المواطنون يتوافدون إلى السينما بالعشرات ثم بالمئات لمشاهدته”.

ويكمل: “في أحد الأيام، وبينما كان محيط السينما يعج بالحاضرين، وقفتُ على شرفة دار السينما، فشاهدت شخصًا يسير بين الجموع ومعه طفل صغير، وتبيّن أنهما الفنان الراحل عاصي الرحباني ونجله الفنان الراحل زياد الرحباني”.

ويتابع: “عندها، توجهنا إلى عاصي الرحباني ودعوناه لحضور الفيلم، فأبدى إعجابه بما شاهده. وبعد فترة، تلقيت اتصالًا من شخص يعمل مع عاصي أبلغني فيه بأن الأخير يرغب في مقابلتي في منطقة بدارو ببيروت. ذهبت إلى هناك، وعُرض عليّ أن أشارك في مسرحية أيام فخر الدين للأخوين عاصي ومنصور الرحباني، وبطولة فيروز، وهو ما تحقق فعليًا”.

ويضيف: “بعد ذلك، توالى التعاون، فشاركت في فيلمي سفر برلك (إنتاج عام 1967) وبنت الحارس (إنتاج عام 1968)، وهما من بطولة فيروز أيضًا”.

ويلفت “أبو سليم” إلى أن علاقة مودة واحترام جمعته بفيروز، مشيرًا إلى أن شخصيتها كانت عفوية ولطيفة جدًا، لكنه يوضح أن حياتها العائلية كانت شديدة الخصوصية. ويقول: “ذات مرة، وأثناء تقديمنا مسرحية ناس من ورق، مررتُ مسرعًا قرب غرفة فيروز وكان بابها مفتوحًا قليلًا، وفجأة سمعتها تناديني. دخلت وجلست، فقالت لي: شفتك شفتك.. خبرني شو عندك من نكتة. عندها، بدأت أتحدث، وبدأت فيروز تضحك بعفوية”.

“كانت فيروز سيدة عظيمة في شخصيتها، وأنا أحبها كثيرًا وأحترم مسيرتها النقية. لقد كانت تملك قلب طفل صغير، وفي كل مرة كان يلتقيني عاصي الرحباني، كان يسألني عن سرّ تقدير فيروز لي، لأنها كانت تتحدث عني بإيجابية باستمرار”.

ويقول: “فيروز تمثل أيقونة فنية، والعمل معها كان ممتعًا للغاية، حتى إن الأعمال التي شاركت فيها إلى جانبها شكّلت نقلة نوعية بالنسبة لي ولفرقتي. ولهذا السبب، أعتبر أن مشاركتي مع فيروز كانت من أهم المحطات في حياتي الشخصية والفنية”.

“أبو سليم” والحرب.. أسرار فنية وسياسية

يعود “أبو سليم” بالذاكرة إلى حقبة الحرب الأهلية اللبنانية. ويقولُ إن تلك الفترة كانت قاسية جدًا وصعبة، لكنه في الوقت نفسه آثر عدم التوقف عن تقديم الأعمال الفنية، راسمًا من خلالها رسالة وطنية لنبذ الحرب ووقفها وإعادة توحيد البلاد بعد انقسامها.

صلاح تيزاني ووسام الاستحقاق الفضي – موقع التلفزيون العربي

ويلفت “أبو سليم” إلى أن الحرب دفعته لإنتاج برامج مثل “سوا سوا” و”خلصنا بقا”، والهدف منها هو التأكيد على رسالة الوطنية ووقف الاقتتال الداخلي بين اللبنانيين. ويقول: “طيلة فترة الحرب، لم نوقف عملنا.. لقد كانت الفرقة تأتي إلى التلفزيون وتقدم ما لديها من انتاج فني على اعتبار أن الرسالة النبيلة لا تهزها ظروف صعبة ولا توقفها حروب”.

يكشف “أبو سليم” عن تفاصيل تتعلق بما واجهه خلال الحرب، قائلًا إن منزله في محلة الطريق الجديدة في بيروت تعرّض للتخريب نتيجة الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982. ويضيف: “عملتُ مرارًا وسيطًا بين أطراف لبنانية لتحرير موقوفين كان يتم توقيفهم عند خطوط التماس التي قسمت بيروت إلى شطرين: شرقي حيث مناطق المسيحيين، وغربي حيث مناطق المسلمين”.

ويكمل: “ذات مرة، كنتُ أمرّ بالقرب من حاجز إسرائيلي وكان ابني معي، فطُلب مني التوقف فورًا. توجه إليّ جندي إسرائيلي وقال إنه رآني من قبل، فأجبته بأنه ربما يكون قد رآني داخل السجن”.

ويتابع: “تذمّر الجندي من كلامي، فقلت له إنني أعمل في التلفزيون وأقدّم شخصية أبو سليم على الشاشة. عندها، ذُهل الجندي وقال لي: أنا أشاهدك وأعرفك، وتردد التلفزيون يصل إلى إسرائيل”.

ويضيف: “ما قاله أصابني بالذهول، وبعد ذلك تجاوزت الحاجز. ومن خلال معرفتي المتواضعة بالجانب التقني، تبيّن أن تردد التلفزيون يمكن أن يصل إلى خارج لبنان، باعتبار أن محطة الإرسال كانت تقع على تلة مواجهة للبحر، ما يجعل المدى واسعًا ومفتوحًا، خصوصًا في ظل غياب الحواجز الطبيعية في البحر، وبالتالي يمكن أن يصل البث إلى بلدان أخرى”.

ويستذكر “أبو سليم” أيضًا حادثة جمعته بضابط سوري في لبنان، خلال فترة الوجود العسكري السوري، ويقول: “كان الضابط يُدعى خالد عليو، وقد أرسل سيارة إلى منزلي لاصطحابي إلى مكتبه. وعندما وصلت إلى أحد المراكز في بيروت، استقبلني بحرارة، وقال لي إنه كان يدرس في الجامعة الأميركية في بيروت ويتابع برنامجي الذي كنت أقدّمه يوم السبت، وأعرب عن إعجابه بي، مؤكّدًا أنه كان يتمنى لقائي، وهو ما حصل”.

“أبو سليم الطبل”، هو اللقب الذي نُسب إلى صلاح تيزاني منذ ستينيات القرن الماضي

ويضيف: “بعد الاجتماع، طلب مني الضابط الدخول إلى غرفة مليئة بالأدوات الكهربائية، من برادات وتلفزيونات، وأبلغني أن أختار ما أشاء منها. وتبيّن أن هذه الأدوات كان الجنود السوريون يحصلون عليها كهدايا من أشخاص كثر. وبعد إلحاح وإصرار منه، قلت له إنني أكتفي بالحصول على تلفاز صغير، وكان ذلك”.

كما يتوقف “أبو سليم” عند حادثة أخرى حصلت معه خلال الحرب الأهلية اللبنانية، مشيرًا إلى أنه كان يجتاز حاجزًا عسكريًا للجيش اللبناني عند نقطة المتحف الوطني، متجهًا إلى جلّ الديب، حيث كان يتابع عملًا فنيًا في مسرح الشاتو دو تريانو.

ويوضح أن توقيت المرور عبر الحاجز كان محددًا، وأن العبور بعد الساعة السادسة مساءً كان ممنوعًا، ويضيف: “ذات مرة، لم نتمكن من العودة قبل السادسة مساءً، فقررنا التوجه إلى مكتب قائد الجيش آنذاك ميشال عون، الذي تولّى لاحقًا رئاسة لبنان بين عامي 2016 و2022. ذهبتُ مع المنتج يوسف الحاج، فسألني عون عن وضعي في ظل الحرب، وطلبتُ منه تصريحًا يسمح لي بالمرور ليلًا نظرًا لارتباطنا بعمل فني في جلّ الديب. فوافق على ذلك، وطلب إبلاغ الحاجز الأمني بالسماح لي بالمرور في أي وقت من دون عوائق”.

ويكشف “أبو سليم” أن فنانين آخرين تساءلوا عن سبب سماح الحاجز له بالمرور في حين كانوا يواجهون صعوبات بسبب التوقيت، ومن بينهم الفنان اللبناني الراحل إبراهيم مرعشلي والفنانة الراحلة فريال كريم، مضيفًا: “حينها، أخبرتهم بكيفية المرور، وقلت لهم إنه عند السؤال عليهم أن يجيبوا بأنهم من فرقة أبو سليم، كي يتمكنوا من العبور بسلاسة”.

أبو سليم.. الفنان يُترك لمصيره

تُمثّل الأسرار الفنية والسياسية التي قدّمها “أبو سليم” عن مسيرته ذاكرةً نادرةً في لبنان، ولا سيما أنه الفنان الوحيد الذي لا يزال على قيد الحياة من بين أبناء جيله.

ويُعدّ “أبو سليم” واحدًا من الفنانين الذين يقدّمون رؤية عميقة للفن، إلا أنه يُبدي عتبًا شديدًا على الدولة اللبنانية، معتبرًا أنها لا تُولي الفنانين وشؤونهم الاهتمام الكافي، ومشيرًا إلى أن “الفنان يُترك لمصيره من دون أي ضمانات، ومن دون أي راتب تقاعدي يليق به ويُوفيه جزءًا من حقه بعد مسيرة طويلة من العطاء في سبيل صورة لبنان وفنّه”، على حدّ قوله.