في الرابع والعشرين من كانون الأول، لا نحتفل فقط بولادة يسوع المسيح، بل نقف أمام معنى يتجاوز الطقوس والزينة: معنى الرجاء في زمن الانهيار، ومعنى الولادة في وطن يبدو عالقًا بين العتمة والانتظار.

وُلد المسيح في زمن قهر وخوف واضطراب، في عالمٍ كانت تسوده القوة والغلبة، ويبحث فيه الإنسان عن خلاصه وسط أنظمة ظالمة وواقع إنساني قاسٍ. ومع ذلك، لم تأتِ ولادته صاخبة ولا من قصور السلطة، بل من بساطة المغارة، هادئةً ومتواضعة، حاملةً ثورة أخلاقية قبل أن تكون حدثاً دينياً. ثورة قامت على الحقيقة، والعدل، وكرامة الإنسان، لتعلن أن الخلاص الحقيقي يبدأ من الإنسان نفسه، ومن صون كرامته قبل أي شيء آخر.

من هنا، يصبح الميلاد رسالة سياسية بامتياز.

لبنان اليوم يشبه تلك المغارة، لكن بفارق مؤلم.

العتمة عندنا ليست قدرًا بل نتيجة خيارات.

والفقر ليس امتحانًا إلهيًا، بل ثمرة منظومة عطّلت الدولة، وشرّعت الانهيار، وبدّدت الثقة باسم التسويات والتوازنات الوهمية.

نعيش في وطن مُنهك: دولة غائبة، مؤسسات مشلولة، اقتصاد منهار، وعدالة معلّقة. لكن الأخطر من كل ذلك هو محاولة تطبيع هذا الواقع، وكأن ضياع الدولة تفصيل، وغياب السيادة وجهة نظر، وكرامة اللبناني بنداً قابلاً للتفاوض.

رسالة الميلاد تضعنا أمام حقيقة لا يمكن تجاوزها.

لا خلاص بلا حقيقة،

ولا قيامة بلا محاسبة،

ولا دولة بلا سيادة.

لبنان الذي نطمح إلى ولادته من جديد لا يُبنى بالشعارات ولا بالخطب، بل بإعادة الاعتبار لفكرة الدولة نفسها: دولة واحدة، بسلطة واحدة، وقرار واحد نابع من الدستور والمؤسسات، لا من موازين القوة ولا من الوقائع المفروضة.

نريد لبنان الذي تحميه مؤسساته لا التسويات، ويحكمه القانون لا الأمر الواقع، وتُصان فيه الشراكة الوطنية لا تُستعمل غطاءً للمحاصصة أو الهيمنة.

في زمن الميلاد، لا بد من التذكير بأن يسوع لم يساوم على الحق، ولم يهادن الظلم، ولم يطلب سلامًا على حساب الحقيقة. وهذا بالضبط ما يحتاجه لبنان اليوم: قيادات لا تختبئ خلف خطاب الخوف، ولا تبرّر السلاح غير الشرعي، ولا تقايض السيادة باستقرار وهمي.

لبنان الجديد الذي ننتظره هو لبنان العدالة لا الإفلات من العقاب، لبنان الدولة لا الدويلات، لبنان الاقتصاد المنتج لا اقتصاد التهريب والانهيار، لبنان الانفتاح والحرية لا العزلة والمحاور، لبنان الرسالة… لا الساحة.

في جمعة الميلاد، لسنا أمام مناسبة دينية عابرة، بل أمام امتحان وطني.

إما أن نختار ولادة لبنان السيّد، الحر، المستقل،

أو نستمر شركاء في دفن الدولة، قطعةً قطعة، تحت عناوين كاذبة.

الميلاد هذا العام ليس زينة ولا كلمات مطمئنة ولا خطابات خشبية.

هو موقف.

إما مع دولة تولد من رحم الحقيقة،

أو مع وطن يُستكمل اغتياله على مهل.

وحده الرجاء المبني على الحقيقة يولد.

ووحده لبنان الذي يحترم إنسانه، كرامته، وسيادته…

يستحق الميلاد!