منذ أكثر من أربعة أعوام، يتأرجح مسار التفاوض بين لبنان وصندوق النقد الدولي بين جولات غير مكتملة وصيغ إصلاحية لم تترجم تنفيذاً، في واحدة من أطول وأعقد عمليات التفاوض المالي في تاريخ البلاد. وفي كل مرة يعود فيها هذا الملف إلى الواجهة، يظهر السؤال نفسه بصيغ مختلفة: هل يملك لبنان قراراً موحداً يتيح له التقدم نحو اتفاق فعلي؟ أم أن الانقسام الداخلي لا يزال يحكم مقاربته للأزمة؟

في هذا السياق، تبرز مسودة مشروع قانون “الفجوة المالية” كإحدى الركائز الأساسية المطلوبة لاستئناف التفاوض، لا بوصفها إجراء تقنياً لتوحيد أرقام الخسائر فحسب، بل كاختبار سياسي – اقتصادي يحدد كيفية توزيع هذه الخسائر وتحديد المسؤوليات بين الدولة ومصرف لبنان والقطاع المصرفي، وما إذا كان لبنان مستعداً لتحمل كلفة خياراته السابقة أو الاستمرار في ترحيلها. وبحسب معلومات مطلعة في وزارة المال دخلت المسودة المتداولة مراحلها شبه النهائية، وسط مقاربة لا تحمل الدولة أعباء مباشرة، في مقابل نقل القسم الأكبر من الخسائر إلى مصرف لبنان والمصارف التجارية والمودعين. مقاربة تثير جدلاً واسعاً، ليس فقط حول عدالتها الاقتصادية، بل حول مدى انسجامها مع شروط صندوق النقد، ولا سيما في ما يتعلق بمبدأ توزيع الخسائر، واستدامة الدين العام، ومستقبل القطاع المصرفي.

 

صندوق النقد.png

أكد المتخصص الاقتصادي والمالي نسيب غبريل أن مسار تفاوض لبنان مع صندوق النقد الدولي ليس جديداً (أ ف ب)

وفي ظل غياب رؤية اقتصادية شاملة ومعلنة، تتعاظم الشكوك حول إمكان بناء مسار تعافٍ قابل للحياة من دون قطاع مصرفي قوي وقادر على استعادة الثقة وتأمين التمويل، في وقت يعاد فيه طرح وعود تحقيق نمو بنسبة خمسة في المئة عام 2026، وهو نمو يفترض، وفق المعطيات المتداولة، أن يكون مدفوعاً بالقطاع الخاص، لا بإصلاحات بنيوية مكتملة أو بإعادة هيكلة واضحة للقطاع المالي.

هكذا، يصبح قانون “الفجوة المالية” أكثر من بند تقني على طاولة التفاوض، ليغدو مرآة لمسار لبنان مع صندوق النقد الدولي برمته: تفاوض طويل، وأرقام متنازع عليها، ومسؤوليات لم تحسم بعد، في أزمة لم تعد أزمة سيولة أو دين فحسب، بل أزمة نظامية تطاول أسس الدولة والحوكمة والاقتصاد.

تفاوض متعثر

في السياق أكد المتخصص الاقتصادي والمالي نسيب غبريل أن مسار تفاوض لبنان مع صندوق النقد الدولي ليس جديداً، إذ سبق للبنان أن بدأ أول محاولة عام 2020 خلال حكومة الرئيس حسان دياب (رئيس حكومة سابق)، التي سعت إلى اتفاق تمويلي – إصلاحي، لكن لم تكن هناك نية جدية للتوصل إلى اتفاق. وتكرر المشهد عام 2021 مع حكومة الرئيس نجيب ميقاتي (رئيس حكومة سابق)، إذ أطلقت مفاوضات جديدة فور تسلمها السلطة، وأسفرت في أبريل (نيسان) عام 2022 عن اتفاق على مستوى الموظفين تضمن تسعة إجراءات أولية، لم يطبق منها سوى إجراءين فقط.

شروط الصندوق

وأوضح غبريل أن “حكومة الرئيس نواف سلام، فور تشكيلها، أعادت فتح قنوات التواصل مع صندوق النقد بهدف إحياء مفاوضات برنامج إصلاحي وتمويلي جديد، أو التوصل مجدداً إلى اتفاق على مستوى الموظفين”، ولفت إلى أن المفاوضات الحالية تستغرق وقتاً طويلاً، لأن صندوق النقد يعتمد معايير ومنهجية ثابتة “لا يزيح عنها”، ولا يعترف بأي “خصوصيات لبنانية” أو خصوصيات لدول أخرى تتفاوض معه، وأشار إلى أن الحكومة اللبنانية طلبت برنامجاً إصلاحياً بقيمة تراوح ما بين 3 و4 مليارات دولار، “مما يعني أن لبنان، كدولة راغبة في الاستدانة، ملزم لزوماً كاملاً بمعايير الصندوق”، وأكد أن “هناك محاولات من الجانب اللبناني لتقديم خصوصيات محلية على أنها أساس للتفاوض، ومنها قانون إعادة انتظام العمل المصرفي الذي أقره مجلس النواب الصيف الماضي، الذي يصر مصرف لبنان على ضرورة تعديله ليتوافق مع المعايير الدولية”، وتطرق إلى مشروع قانون الفجوة المالية أو “مشروع تحديد مصير الودائع”، الذي وصل اليوم إلى نسخته الـ11، بعد سلسلة تعديلات أدخلت استناداً إلى ملاحظات صندوق النقد، وقال إن هذه النسخة أرسلت إلى الصندوق الذي يدرس مضمونها، وهي تعكس حجم الفوارق في وجهات النظر بينه وبين السلطات اللبنانية ومصرف لبنان والوزارات المعنية.

توزيع الخسائر

وأشار غبريل إلى أن عدم التوافق بين صندوق النقد والجانب اللبناني يتمحور حول نقاط أساسية، أبرزها “موضوع شطب رؤوس أموال المصارف التجارية كخطوة أولى في معالجة الفجوة، في حين يقترح مصرف لبنان البدء بشطب الودائع المرتفعة التي جرى التعامل بها بين عامي 2015 و2019، وكذلك معالجة الحسابات التي لم يطالب بها أصحابها، وحسابات أنشئت بصورة اصطناعية من خلال تجارة الشيكات خلال الأزمة. التباين في مقاربة الحسابات المحولة من الليرة إلى الدولار بعد الـ21 من أكتوبر (تشرين الأول) عام 2019. الخلاف بين مصرف لبنان ووزارة المالية حول اعتبار مبلغ 16.4 مليار دولار ديناً على الدولة، إذ لا تعترف الوزارة بهذا الدين، ولا يعتبره صندوق النقد جزءاً من الدين العام”، وأضاف أن “الصندوق يصر على أن يتحمل مصرف لبنان والمصارف التجارية، ومن ثم المودعون، العبء الأكبر من الفجوة المالية المقدرة بنحو 71 مليار دولار، رافضاً تحميل الدولة أي جزء منها، لأن الاتفاق المستقبلي سيفتح الباب أمام ديون جديدة على لبنان بقيمة قد تصل إلى 7 أو 8 مليارات دولار من مؤسسات دولية، إضافة إلى قرض الصندوق، لذا يريد التأكد من أن الدولة قادرة على سداد ديونها الجديدة، مما يدفعه إلى المطالبة بخفض التزاماتها السابقة”، وتابع أن “السلطات اللبنانية من جهة، وصندوق النقد من جهة أخرى يحاولان تقريب وجهات النظر للتوصل إلى اتفاق، خصوصاً أن هناك توافقاً داخلياً بين الحكومة ومصرف لبنان ورئاسة الجمهورية على ضرورة الوصول إلى برنامج مع الصندوق، إلا أن التأخير في إصدار القوانين المطلوبة، ومنها قانون الفجوة المالية، أرجأ الاتفاق المتوقع من يوليو (تموز) إلى سبتمبر (أيلول)، ثم إلى ما بعد نهاية السنة، مع اقتراب موعد الانتخابات النيابية، مما يزيد من احتمالات التأجيل”، ولفت إلى أن “التأخير في التفاهم مع الصندوق ينعكس على الاقتصاد اللبناني، خصوصاً أن لبنان أمام فرصة عابرة للتأجيل منذ انتخاب الرئيس جوزاف عون (رئيس الجمهورية) وتشكيل حكومة الرئيس نواف سلام، وما رافق ذلك من دعم دبلوماسي وسياسي عربي ودولي لم يترجم بعد إلى دعم مالي أو استثماري”، وربط غبريل هذا الجمود بوجود شقين أساسيين ينتظرهما المجتمع الدولي “الأول يتعلق بسلاح ’حزب الله‘، والثاني بالإصلاحات البنيوية في الإدارة والمالية العامة والحوكمة ومحاربة اقتصاد الظل”، وأفاد بأن “كل المؤسسات والدول الراغبة بدعم لبنان تنتظر اتفاقاً مبدئياً مع صندوق النقد قبل تقديم أي دعم مالي”، معتبراً أن استمرار المماطلة يزيد الشكوك حول إمكان التوصل إلى اتفاق قبل الانتخابات، وأكد أن السلطة اللبنانية أمام خيارين لا ثالث لهما “إما الإعلان بوضوح أن شروط الصندوق لا تناسب لبنان والاكتفاء بالدعم التقني، شرط تقديم رؤية إصلاحية كاملة، وإما الاعتراف بالحاجة إلى برنامج تمويلي والالتزام الكامل معايير الصندوق”، وأعاد التذكير بأن “تجربة عام 2022 لا تزال تلقي بظلها على المشهد، إذ وقعت السلطات اتفاقاً لم تنفذ بنوده، مما يعمق أزمة الصدقية”، وأضاف “إذا كانت الدولة تعتبر أن شروط الصندوق غير مناسبة، فلتعلن ذلك وتقدم برنامجها الخاص، أما إذا كانت مقتنعة بضرورة التمويل، فعليها التزام الشروط المرتبطة به”، واعتبر أن الحكومة لا تزال تكرر الخطأ نفسه بعدم شرح إيجابيات وسلبيات الاتفاق للرأي العام، مما يفتح الباب أمام اجتهادات وتخويف غير دقيق حول شطب الودائع وزيادة الضرائب والتقشف والانكماش.

وفي ما يتعلق بقانون الفجوة المالية، ذكر غبريل أن “الحكومة عدلت قانون السرية المصرفية كما طلب الصندوق، وأقرت قانون إعادة انتظام العمل المصرفي، وهي تعمل اليوم على النسخة الـ11 من مشروع الفجوة المالية، التي تدرس حالياً في صندوق النقد”، واعتبر أن ضخامة عدد النسخ خير دليل على حجم الخلافات بين مصرف لبنان والوزارات المعنية والصندوق، وأشار أيضاً إلى أن “الحكومة التزمت إحالة مشروع القانون إلى مجلس الوزراء قبل نهاية العام، تمهيداً لإرساله إلى مجلس النواب، إذ ستستغرق دراسته أسابيع طويلة ضمن اللجان المتخصصة”، وسأل عن مدى قدرة المجلس على إقرار القانون قبل الانتخابات، أو حتى عن إمكان إجراء الانتخابات في موعدها، معتبراً أن كل هذه العوامل تزيد من الضبابية، ومشدداً على أن “العبرة ليست فقط في إقرار القانون، بل في تنفيذه الفعلي”، متمنياً انتهاء الجدل وإقرار الإصلاحات المطلوبة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

أزمة نظامية

من ناحيته، رأى الكاتب والباحث في الشؤون المالية والاقتصادية مارون خاطر أن “المفاوضات بين لبنان وصندوق النقد معلقة فوق نظام مأزوم ومعقد. على امتداد أشهر طويلة، تبادل لبنان وصندوق النقد الدولي أكثر من 10 مسودات تفاوضية، يعكس هذا المسار عمق التعقيد الذي يحيط بالأزمة وتداعياتها، وإذا كانت أزمة لبنان قد صنفت ضمن أكبر ثلاث أزمات مالية في العالم، فذلك لأن الانهيار لم يقتصر على العملة أو الدين العام، بل شمل النظام المصرفي بأكمله، وشبكات الائتمان، والثقة المؤسساتية، وحركة رؤوس الأموال، وذلك يدل على أن الانهيار ضرب الاقتصاد في الصميم. في تجارب الصندوق غالباً ما تصمم برامج الإنقاذ على قاعدة حماية الدولة وضمان استدامة الدين العام، تجنباً لانهيارات شاملة تطاول الاقتصاد والمجتمع، غير أن الحالة اللبنانية مختلفة جوهرياً، فالأزمة هنا ليست أزمة سيولة أو فجوة مالية فحسب، بل أزمة نظامية بالمعنى الكامل”.

وأضاف خاطر “الأزمة النظامية هي تلك التي تصيب البنية بكاملها: المؤسسات، والقواعد الناظمة، والعلاقة بين الدولة والمصارف، وبين المالية العامة والسياسة النقدية، إنها أزمة تصيب الركائز التي يقوم عليها النظام الاقتصادي والمالي، وهي ليست مجرد اختلالات ظرفية يمكن معالجتها بتعديلات تقنية أو مالية، إلا أن هذا التشخيص لا يعفي أحداً من المسؤولية بل يضع الدولة، مصرف لبنان والمصارف أمام محاسبة بنيوية تطاول سوء الإدارة والخيارات الخاطئة المتراكمة. أزمة لبنان ليست نتيجة لكارثة طبيعية ولحدث كوني، بل لأفعال فاعلين ومن هنا يجب أن تكون البداية. يشدد صندوق النقد على أن السبب الجذري للانهيار اللبناني هو قصور في الحوكمة، لذلك، وبناء على ما تقدم، لا يمكن تحييد الدولة أو إعفاؤها من دورها الأساس في تحديد الفجوة المالية وتوزيعها بشكل عادل وواضح بينها وبين مصرف لبنان والمصارف من دون أي مساس بحقوق المودعين، فتوزيع الخسائر ليس عملية محاسبية، بل قرار سياسي يعكس حقيقة من يتحمل كلفة الانهيار ومن يملك القدرة على النهوض، أما الكلام عن إصدار سندات طويلة الأجل يكفلها مصرف لبنان فمرفوض لأنه يحمل تبعات الأزمة للمودعين ويحول الأزمة إلى أزمة ديون من دون أن يؤمن استعادة الثقة بلبنان وبقطاعه المصرفي بخاصة في ظل عدم البت بمصير سندات اليوروبوندز”.

خيار الدولة

ولفت خاطر إلى أن “المفاوضات مع صندوق النقد تترنح بين متطلبات الضرورة والإرادة السيادية، ليس تعدد المسودات بين بيروت والصندوق دليلاً على المراوحة ومحاولات شراء الوقت والهرب إلى الأمام من قبل البعض فحسب، بل يعكس أيضاً وجود تباينات حقيقية في تشخيص الأزمة وفي كيفية معالجتها، يظهر ذلك جلياً في صعوبة إقرار قانون الفجوة المالية وفي صعوبة الوصول إلى رقم موحد للخسائر، فلبنان ليس بلداً يمكن إسقاط نماذج جاهزة عليه، وخصوصيته تكمن في حجم التداخل بين السياسة والاقتصاد، وفي هشاشة نظامه المالي، وفي غياب الثقة الذي سبق الأزمة وتفاقم بعدها. التفاوض مع الصندوق هو خيار إلزامي لا مفر منه، فلبنان دخل في عزلة غير مسبوقة عن الأسواق العالمية بعد القرار الأسود بالتوقف عن سداد الديون في عهد حكومة الرئيس حسان دياب، لذلك، العودة إلى الخريطة المالية الدولية لا تتم عبر أموال الصندوق، التي تبقى متواضعة قياساً بحجم الفجوة، بل عبر الختم الدولي الذي يؤمنه والذي يتيح استعادة ثقة الجهات العربية والدولية المانحة، ويعيد قدرة لبنان على الوصول إلى أسواق المال، لكن الضرورة لا تعني الإذعان، فالدخول في برنامج مع صندوق النقد يجب أن يراعي طبيعة الأزمة اللبنانية وخصوصيتها وحدود قدرة المجتمع على تحمل الإصلاحات. في سياق متصل نشدد على أن الحفاظ على الصدقية شرط أساس لأي حل، فلا طائل من سلوك طريق تلميع الصورة أو إخفاء الحقائق أو تأجيل الاستحقاقات سبيلاً من أجل إنجاح المفاوضات مع الصندوق أو مع أي جهة مانحة. فالإصلاح الحقيقي يبدأ من المصارحة، ومن الاعتراف بحجم الكارثة، ومن إرادة فعلية في بناء سياسات مالية واقتصادية واضحة وشفافة وقابلة للتنفيذ، التسويف لا يرمم الثقة، ولا يؤسس لنهوض مستدام”.

وختم خاطر “يبقى أن الاستقرار السياسي هو الشرط الأول للنهوض ولدفع المفاوضات مع صندوق النقد قدماً. إن الجهود التي تبذلها الحكومة في تثبيت حد مقبول من الاستقرار السياسي تشكل خطوة في الاتجاه الصحيح. إن أي اختراق اقتصادي أو تفاوضي حقيقي يبقى مستحيلاً من دون استعادة الدولة دورها السيادي الكامل، فسيادة القانون، وحصرية السلاح، واستقلالية القرار المالي للدولة، وتفعيل القضاء والمحاسبة، وإعادة هيكلة القطاع المصرفي، وتطويق الاقتصاد النقدي وحل مشكلة الودائع واستعادة الثقة تشكل مجتمعة الإطار الحتمي لأي حلول ممكنة، مع الإشارة أخيراً إلى أن هذه المرتكزات تصب في مصلحة لبنان قبل أن تشكل قاعدة مشتركة لمعالجة أزماته كافة، ولتهيئة أرضية صلبة تتيح مفاوضات ناجحة وفاعلة مع صندوق النقد الدولي”.