تبدأ رواية ربيع علم الدين في بيروت عام 2023، حيث يعيش رجا، البالغ من العمر 63 سنة، ويدرس الفلسفة لطلاب المرحلة الثانوية، أولئك الذين يصفهم مازحاً بـ”أولاده الأشرار”، بينما يكنون له، في الواقع، مودة صادقة. انتقلت والدته زلفة، ذات الـ85 سنة للعيش معه أخيراً بعدما سرق شقيقه مدخراتها. غير أن لسانها السليط وتدخلها الدائم في شؤونه يدفعانه إلى التشبث بما تبقى له من خصوصية، خصوصية تراها هي تمرداً عليها، فتلاحقه في حياته اليومية: تصادق طلابه، تحضر التظاهرات، بل وتنسج علاقات مع رجال عصابات.
من هنا تنطلق الرواية الصادرة عن دار غروف برس (Grove Press) في نحو 336 صفحة، لتروي حكاية بلد بأكمله من خلال شخصية رجا الساذج وأمه. تبدأ برسالة إلكترونية تدعو رجا إلى قضاء ثلاثة أشهر في ولاية فرجينيا ضمن زمالة للكتابة، تشمل السفر والإقامة ومنحة قدرها 9 آلاف دولار، مع تغطية كاملة للنفقات. تبدو الفرصة مثالية: مهرباً موقتاً من بيروت المثقلة بالخراب، ومن أم لا تعرف الصمت. لولا أن رجا يفاجئ القارئ بحقيقة مربكة: أنه ليس كاتباً. “لم أكن أعمل على شيء… ولم أعمل على شيء لأكثر من 25 عاماً، ولم تكن لدي أي نية للعمل على شيء في المستقبل أيضاً. لقد كتبت كتاباً واحداً قبل 25 عاماً، لكنني لست كاتباً، ليس حقاً. كتبت كتاباً، وانتهى الأمر، كان ذلك حادثاً”.
ارتباك مؤشر البوصلة
بعد فصل قصير، لا يتقدم الزمن إلى الأمام، بل يرتد إلى الوراء، ستة عقود تتداخل وتتشابك: الحرب الأهلية اللبنانية، حادثة اختطاف تركت أثراً عميقاً في نفس رجا، أعوام التعايش مع الانهيار اليومي، جائحة كوفيد، ثم انفجار مرفأ بيروت الذي أودى بحياة أكثر من 200 شخص وآلاف الجرحى. يقول رجا: “إذا قلت لك إن الأمور حدثت بسرعة بحيث لم يكن لدى أمي أو لدي أي فكرة عما نفعل، ولم يكن لأي منا أي ذكرى عما فعلناه خلال تلك اللحظة متناهية الصغر التي انقلب فيها عالمنا والمدينة رأساً على عقب، فأنا أقول الحقيقة”.
هكذا تترك الرسالة جانباً لندخل في نسيج من الاستطرادات والحكايات المتداخلة، تنبثق من بعضها وتفضي إلى بعضها، كأن عجلة الزمن فقدت اتزانها وراحت تدور في كل الاتجاهات. “إذا قلت لك إن الزمن توقف، وإننا عرفنا ما سيحدث قبل جزء من الألف من الثانية وتصرفنا بمهارة ودقة قدامى المحاربين، فسأكون أيضاً أقول الحقيقة”.

الروائية الفائزة (أمازون)
يصف الناقد ديفيد إل. أولين هذا البناء بأنه شبيه بدمى متداخلة أو بأكورديون سردي، إذ يضع علم الدين فصلين قصيرين في الزمن الراهن (عام 2023) كإطار خارجي، ثم يفتح المساحة بينهما ليرسل السارد ذهاباً وإياباً عبر ستة عقود من حياته: “ظننت أنني نسيت البريد الإلكتروني الذي بدأت به هذه الحكاية، أليس كذلك؟” يسأل رجا نحو ثلث الرواية. “أفترض أنك على الأرجح فعلت، فالحكاية لها ذيول كثيرة ورؤوس كثيرة، خصوصاً إذا كانت حقيقية. مثل الحياة، هي نهر له فروع وجداول وروافد، سأصل إلى كل شيء، أعدك”.
بهذا المعنى، لا تتعلق الرواية بمادة الحكاية وحدها، بقدر ما تتعلق بالحكاء نفسه وبفعل الحكي بوصفه عملية واعية. يكتب أولين: “تخيل شهرزاد في القرن الـ21، متجسدة في هيئة معلم فلسفة بيروتي مثلي يبلغ الـ63 من عمره يدعى رجا، ينسج القصص ليبقي نفسه ووالدته ذات الـ85 على قيد الحياة في عالم مضطرب وخطر”.
شر البلية ما يضحك
تنتمي الرواية إلى نمط سردي يعرف باسم التراجيديكوميديا (Tragicomedy)، وهو شكل يقوم على تداخل واعٍ بين التراجيديا والكوميديا، بحيث لا تستخدم الفكاهة لتخفيف وطأة المأساة، ولا تستدعى المأساة لفض مجلس الضحك، بل يعمل الاثنان معاً على كشف هشاشة التجربة الإنسانية وتعقيدها. منذ أن وصف الكاتب الروماني بلاوتوس مسرحيته أمفيتريون في القرن الثاني قبل الميلاد بأنها عمل “لا هو تراجيديا ولا كوميديا”، مروراً بذروة هذا النمط لدى ويليام شكسبير في مسرحياته المتأخرة مثل العاصفة، ظل هذا الشكل السردي مرتبطاً بلحظات تاريخية يعجز فيها الحزن الخالص أو الضحك الخالص عن احتواء الواقع. وتميل شخصيات هذا النمط إلى الواقعية: لا أبطال ملحميون ولا ضحايا مطلقون، بل كائنات تجمع بين النبل والضعف، وتتحرك داخل شبكة من المفارقات اليومية التي لا يمكن فهمها إلا عبر السخرية.
من هذا المنظور، يمرر علم الدين أكثر موضوعاته قسوة، الاختطاف، والاغتصاب، ومتلازمة ستوكهولم في سياق الحرب الأهلية اللبنانية، عبر قوس قزح، كآلية بقاء تشكلت عبر عقود من الاضطراب السياسي والخسارات الشخصية، في بلد يعيش حال فوضى مزمنة. لذلك وصفها النقاد بأنها “ملحمة من الكوميديا السوداء”، فيما أشارت مجلة Time إلى أن الكوميديا العائلية في الرواية تعمل كقناع سردي يخفي تحته أسئلة أعمق عن العنف السياسي والانهيار وسعي الإنسان نحو حياة أكثر أصالة وسط الخراب.
يتجلى هذا المنطق التراجيكوميدي بوضوح في شخصية “رجا”، الذي يناقش مع طلابه قضايا فلسفية كبرى حول “معنى الوجود” و”طبيعة الحقيقة”، بينما يضطر في الوقت نفسه إلى الوقوف لساعات في طوابير للحصول على كيس خبز أو سحب مبلغ زهيد من البنك. وفي رد فعل الأم “زلفة” على الكوارث المحيطة بها، ومدى تأثيرها في نظافة الشقة وترتيب الأثاث، مولدة ضحكاً هستيرياً يبدو كآلية للدفاع.
وتبلغ هذه الفكاهة ذروتها في المشاهد التي يصف فيها “رجا” رحلته العبثية لتأمين أدوية والدته المسنة وسط انهيار المنظومة الصحية، حين يتحول البحث عن “علبة دواء” إلى مسار كافكاوي مليء بالمواقف المضحكة مع الصيادلة والسوق السوداء.
لفت علم الدين إلى أن كثيراً من التبادلات بين الأم والابن، وكذلك بين شخصيات مثل مدام طويل وزلفة، تجعل القارئ يضحك. وأضاف أن الضحك مهم، لأنه يساعد على مواجهة عبثية العالم، وفهم الواقع السياسي والاجتماعي بسخرية بدل الجدية المفرطة. وختم بالقول إن الفكاهة تصل إلى الناس أكثر من الجدية الثقيلة، وأن الحياة من دون القدرة على الضحك تجعلها بائسة.
راوٍ غير موثوق منه
في نهاية المطاف، ما الذي يدفع رجلاً اختطف في حرب أهلية، وعايش الانهيار، والوباء، والموت اليومي، إلى أن يصر على وصف نفسه بـ”الساذج”؟ وهل السذاجة هنا نقيض للفطنة، أم باتت سمة للإنسان المعاصر؟ أن تصف نفسك بالساذج يعني أن تسبق العالم بخطوة إلى السخرية من ذاتك، وأن تحول هزائمك – أو بالأحرى خيباتك – إلى مادة مثيرة للضحك.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولنذهب أبعد من ذلك، ما الذي يعنيه حقاً أن تترافق السذاجة مع الكذب؟ إن علم الدين يتعمد تقويض سلطة سارده، إذ يعترف البطل في كثير من المواضع، على رغم توكيده الذي يشبه القسم في العنوان، “أبدأ هذه الحكاية بالكذبة”، وبعد صفحات قليلة يعود لينقض أقواله تباعاً، سواء عن دعوة الزمالة أو عن ماضيه أو حتى عن رصيده البنكي المتلاشي: “حسناً، هذا لم يكن صحيحاً أيضاً”.
على الفور، يبرز أوسكار، بطل غونتر غراس في طبل الصفيح (The Tin Drum)، الذي جسد التاريخ الكارثي لأوروبا الوسطى، بروح كوميدية وعبر قصة يكتبها نزيل إحدى المصحات العقلية؟ فمن أين يلتمس القارئ الحقيقة حقاً؟
تقترح الرواية أن الحقيقة ليست معطى ثابتاً، بل بناء ذاتي يتشكل عبر السرد، وهو ما يجعل الكتابة فعل مراوغة بقدر ما هي فعل كشف، فالنظام الذي يبدو أن الحكاية تتجه نحوه لا يتكون إلا بأثر رجعي، بينما لا يوجد في لحظة العيش سوى الفوضى. في عالم كهذا، تصبح الثقة عملة نادرة، ولا يبقى ثابتاً يمكن الاتكاء عليه سوى حب الأم، بوصفه الحقيقة الوحيدة غير القابلة للتكذيب. ومع كل السوءات، أجمع النقاد على أن شخصية زلفة هي واحدة من أعظم إبداعات علم الدين، إذ وصفت بأنها أم “فريدة” و”شرسة” ترفض أن تكون مجرد شخصية ثانوية في حياة ابنها حتى لو اضطرت إلى الشجار معه ليل نهار، فهذه الشتائم والانفعالات هي لغتها الخاصة في التعبير عن حبها وحسرتها على ابن لن يجرب هذه العاطفة السامية. يحكي الراوي بعض المواقف التي تتجلى فيها مشاعر الأمومة الفطرية كما في حادثة أسره واغتصابه لأشهر على يد الميليشيات في فترة المراهقة، وعودته إلى المنزل لا ينفصل عن قط بري أشعث. أراد شقيقه ووالده إخراج القط من المنزل، لكن والدته تنازلت عن غرفتها حتى يتمكن من الاحتفاظ بالقط.
في حوار سابق، يقر ربيع علم الدين أن السبب وراء بروز شخصية الأم في روايته هي والدته وما تمر به في الوقت الحالي. مضيفاً أن كل ما يفعله أو يفكر فيه يؤثر في كتاباته، حتى ممارسته كرة القدم لمدة 50 عاماً. على رغم ذلك، أشار إلى أنه لم يكتب مباشرة عن نفسه، فالرواية مستوحاة جزئياً من حياته وتجربته، لكنها ليست انعكاساً مباشراً له، مؤكداً أن والدته، البالغة من العمر 84 سنة، تتمتع بصحة جيدة لكنها بدأت تفقد الذاكرة، وهو أمر صعب عليه. في النهاية، كما يقول بطل روايته رجا، “تمكنا من العيش معاً لأننا فهمنا أننا إذا فعلنا ما تريده، سنكون أكثر سعادة”.
