في أحد حواراته روى الشاعر والمسرحي الراحل، فادي أبو خليل، أنه قبيل انتفاضة 6 شباط 1984 وخلالها وبعدها، بدت الأمور كأن البساط يُسحب من تحت أقدام رواد المقاهي الثقافية. عاش أبو خليل مشاهد تفتيت عالم المقاهي من الاكسبرس وغيره، وتصدع فضاء بيروت وتبدل أهواءها. عاد إلى بيروت “الشرقية”، انكفأ على نفسه، عاش في عزلة بيتية شبه كاملة لأشهر، اكتشف أن الحياة الثقافية أهم عنده من الثقافة المحض، ربما يلتقي هنا مع صديقه الشاعر جوزف عيساوي الذي كتب عن صداقته مع الشاعر الراحل إسكندر حبش أيام إصداره نشرة “الأخير اوّلاً” الشعرية في منتصف الثمانينيات في “بيروت الشرقيّة”، كان اسكندر حبش يجمع قصائد الشعراء اللبنانيين والعراقيين والسوريين والفلسطينيين من “بيروت الغربية”، ويقرأها لعيساوي على التلفون لينشرها، وإذا لم يستطع كان فادي أبو خليل يقطع على “الغربيّة” يأتي بها. ويخلص عيساوي إلى القول كانت صداقتنا التي ولدت على التلفون، بدفع من عباس بيضون، ومن الشغف بالشعر، أجمل من الشعر نفسه، ومن الحياة، وقضايا الحروب كلها. وعلى هذا لم يكن غريباً أن يأخذ “اختفاء” فادي أبو خليل عن شارع الحمرا والحياة الثقافية الكثير من الاهتمام، ذلك أن جوهر بيروت يكمن في مختبرها وفضائها وفتنتها وحكايتها وأضوائها، ومن دون هذا المختبر والفضاء تولد الكتب والأفلام والفنون والمسرحيات ميتة. كان فادي أبو خليل ابن المقهى، وابن الثقافة اليومية، ابن الحانة الصغير، يقرأ ويكتب ويتابع ويتكاسل وينظر، ويوم اختفى بدأ كأنه أول حبة من عنقود شارع الثقافة الذي فرط تباعاً…

كان فادي نموذجاً فردياً في مدينة مكسورة متصدعة متهافتة، في عزلته بعد 6 شباط كتب مجموعته الشعرية “غيوم طويلة، أنني أتذكر”، أصدرها على حسابه الخاص، وفيها جانب كبير من السيرة الذاتية، وقد وصف الشاعر عباس بيضون القصائد فيها بأنها “السماء بكلام الأرض والبحر بلغة التراب”. لقاء أبو خليل بالشعر أتى تعويضاً عن حلم سينمائي مكسور، وعلاقته بالشعر مشوبة بشيء من التذبذب، بشيء من الحب الكراهية في الوقت نفسه، كان لديه ولعاً في سرد سيرته الناقصة، كتب عن طفولته ومراهقته، ونقل جزءاً من الخيط الدرامي -الروائي في شعره. يروي فادي في جانب سيرته القصيرة المنشورة في كتاب “فيديو” أنه مع تلاشي حرارة صيف 1982، نزل إلى الغربية، إلى أمكنة النقاشات التي كان المثقفون يسقطونها عبر الصحف، أدمن الجلوس في مقاهيها والمراقبة والتأمل، واستلزم الشعر وقتا لمزاولته، فبعد عام على معاشرة عالم المقاهي الثقافية، وجد نفسه يدوّن بعض السطور، يكتب في السيارة، يمارس الكتابة في الخفاء، ملبداً بحوافز ثقيلة مفادها أن يكون لقصائده وقعها لحظة إعلانها، عندما أصدر مجموعته الأولى كانت الحرب، وكان يحارب الحرب بالصمت أو “يرفض الحرب برفض منظورها” (يمنى العيد)، لكنّ حرب الجبل كانت تتحرّك في خلفية المقهى والكتابة والحياة. 
 

وفي مجموعته الثانية “لا شيء تقريباً” تكملة للمجموعة الأولى، وفيها ينحاز إلى التفاصيل والتفاصيل الصغيرة والأشياء واللقطات وسيكولوجية الامحاء والفلاشات التصويرية، يحاول أن ينقذ لمحات ذاكرته من النسيان والمحو. في مجموعته “فيديو” يحاول القول إن القصيدة مجرد مشهد قصير، ومع مسرحية “راديو وشعر وحديث” افتتح تجربة جديدة متقدمة، “حَسَر الشعر عن مقاصده المعهودة وضمّه إلى درامية هي مزيج من تجارب مسرحية متطلعة وإيقاعات سينمائية من حيوية الهامشيين والسريين، وإيمائيات مقتصدة كثفت المعاني والايحاءات” (بول شاوول).

لا يفهم القارئ قصائد ومزاج الشاعر الراحل فادي أبو خليل، المولود في الأول من نيسان عام 1958، إلا من خلال متابعة مسار مراهقته وبداياته وشقائه وعلاقته بوالديه وجدته البرغمانية (نسبه إلى انغمار برغمان) وشوارع الاشرفية في حرب السنتين وحزب الكتائب، وتعرّفه إلى الفكر الشيوعي المثالي وشارع الحمرا. وكان نموذجاً لكسر الحواجز بين “البيروتين”، لكن هذا التوجه، وإن تضمن الكثير من التطلعات، لكنه ترافق مع الكثير من الصدمات، خصوصاً بسبب مسار الحروب اللبنانية. 
كأن فادي أبو خليل كتب في حياته العادية، سيرة ذاتية سينمائية، من علاقته بوالديه وجدته إلى علاقته بالأحزاب والحرب والمقاهي وبيروت والمسرح والشعر والشعراء، وأخيراً عزلته الشهيرة التي تشبه “صمت” رامبو، إلى جنازته الحزينة التي تبدو أيضا كأنها مشهد في فيلم سينمائي.