بين أكذوبة المثالية وعبثية الوجود، يتأسّس الخيال العبثي أصلًا على فكرة المفارقة؛ المفارقة بين توق الإنسان الدائم للعثور على معنى وغاية، وبين واقع يبدو فيه الكون فوضويًا، غير منسجم، وعديم الجدوى، وقد تجلّى هذا المفهوم بوضوح في الأدب والمسرح والسينما العبثية، التي بنت رؤيتها على أن الحياة غير قابلة للتوقع أو التفسير، وأنها متخمة بعدم التناسق وغياب المعنى.
من هذا المنطلق يمكن النظر إلى فيلم «السادة الأفاضل» للمخرج كريم الشناوي، وتأليف مصطفى صقر ومحمد عز الدين وعبد الرحمن جاويش. يبدأ الفيلم من واقعة وفاة الحاج جلال أبو الفضل، التي تتداعى معها سلسلة من التفاصيل والمفارقات داخل العائلة، جميعها مشبعة بالكذب والالتفاف والتزوير والسرقة. وحتى واقعة الموت ذاتها تبيّن أنها أكذوبة وتمثيلية دبّرها الأب وابنه الأكبر لتصريف مومياء فرعونية عثرا عليها في أرض يملكانها.
منذ العتبة الأولى—العنوان—يلعب الفيلم على المفارقة العبثية؛ فـ «السادة الأفاضل» لا يوجد بينهم فاضل واحد، كلهم انتهازيون، وصوليون، وكاذبون، العنوان هنا ليس مجرد مفارقة لفظية، بل فضحٌ رمزي لقيم اجتماعية متناقضة، ومثالية زائفة تتستر خلف خطاب أخلاقي هش، المجتمع الذي يشير إليه الفيلم مجتمع يتزيّن بالهيبة والوقار، لكنه محكوم بمنطق المادة، وبالابتزاز والطمع والاستغلال والجشع والإحساس المفرط بالاستحقاق.
منذ اللحظة الأولى، يقودنا كريم الشناوي إلى مفارقات بصرية واضحة، فمشهد وفاة جلال أبو الفضل «التمثيلي» يُمهَّد له بمحاكاة مباشرة للوحة «خلق آدم» للفنان مايكل أنجلو. يظهر جلال على الجانب الأيسر، وأبناؤه على الجانب الآخر. هذه الإحالة البصرية ليست استعارة ساخرة فحسب، بل حيلة فنية يُسقط بها الشناوي على الإنسان الحديث الذي فقد قيمه وبداهته الأصلية وسط زحام الطمع والتظاهر بالمثالية، عبر هذا التوظيف، يورّط المخرج المشاهد في اللعبة البصرية ويجعله حاضرًا داخل المنظومة الأخلاقية المختلة، فيصبح الجميع متورطًا—حتى لو ادّعى الفضيلة.
هكذا يجد المتلقّي نفسه داخل سلسلة لا نهائية من المفارقات التي تتوالى دون انقطاع؛ جرائم متصلة–منفصلة لا يجمع بينها إلا قاسم واحد: الجشع والاستغلال. فالابن الأصغر، الطبيب الذي يعيش في القاهرة، وقد اكتسب هوية المدينة وتبنّى نظرتها المتعالية على أهله وبدى وكأنه يتنصل من زضعهم الريفي، نسي أنه جزء من هذه الأسرة ذاتها، لكنه بمجرد إن يصل إلى البيت حتى ينكشف له أوّل قناع، والده الذي كان يراه رمزًا للفضيلة والأخلاق، يدخّن الحشيش جهرًا، ومع توالي الأحداث تتكشّف له حقائق أكثر خطورة؛ تجارة والده في الآثار، ثم زواجه من سيدة أخرى طوال سنوات دون علم أحد، وصولًا إلى أكذوبة الموت نفسها.
في هذا المستوى من السرد، تتساقط الأقنعة واحدًا تلو الآخر، وتظهر الوجوه على حقيقتها، الجميع فاسدون، الجميع كاذبون، ولا قيمة أخلاقية تحكمهم، فالعم الأكبر استغل جثمان أخيه الراقد ليستولي على بصماته ويوقّع عقودًا تضمن تحويل ممتلكات وأراضٍ إلى اسمه، فسادٌ عائليّ متجذّر لا يختلف كثيرًا عن الفساد الخارجي الذي يلفّ القرية بأكملها.
عائلة أبو الفضل، إذن، ليست سوى نموذج داخل منظومة اجتماعية أوسع، يحكمها التوحّش القيمي والمثالية الزائفة، فالجميع خارج البيت غارقون في السرقة والتزوير والاحتيال، هنا لا تبدو هذه الوقائع مجرد أدوات لتمرير حبكة درامية، بل إسقاط مباشر على مجتمع تسوده العشوائية والفساد وانهيار المعايير، بدءًا من مباراة كرة القدم التي تُشترى فيها ذمم اللاعبين، مرورًا ببائعة الهوى التي أقامت علاقات مع معظم شباب القرية، وانتهاءً بزواجها من «محمود العويل»، الذي يفقد وعيه باستمرار بسبب تعاطيه المواد المخدّرة والكحول.
في بنية الفيلم تتجلى بعض تمثّلات «مسرح العبث» في رسم الشخصيات وبناء المواقف وتكوين ردود الفعل، يتبدى ذلك من خلال الغلظة الواضحة في العلاقات، ومن انعدام التواصل الحقيقي بين الأجيال، ومن إسقاط كل فرد لأزماته الخاصة على الآخرين، في إحالة مباشرة إلى روح العصر التي تهيمن عليها الفردانية وتسلسل الزيف الاجتماعي، ومع توالي الأحداث تُثار تساؤلات جوهرية تمسّ مركز الأزمة الأخلاقية والوجودية، إذ تلجأ بعض الشخصيات إلى حيل وخيارات تنفلت من الإطار اليومي المألوف، وتتخطى المسارات الآمنة إلى مقاربات هزلية وغير منطقية.
على هذا النسق، يظهر الجميع مبتذلين أو كاريكاتوريين في لغتهم وأفعالهم، كما في شخصية طارق؛ فطريقة إدارته للأمور بعد اصطناع واقعة وفاة والده تكشف أنه شريك أصيل في الأكذوبة الكبرى، ويتجلى الطابع العبثي أيضًا في السلوك الانتهازي للطفل الصغير الذي لا ينشغل بوفاة جده بقدر انشغاله بطلب «العيدية»، وهي إحالة رمزية يمرّر بها صُنّاع الفيلم رؤيتهم لمستقبل مجتمع تشوهت أوضاعه، فالصغار، مثل الكبار، يرثون الشعور بالاستحقاق ويغرقون في الاستغلال من دون وعي بقيمة ما يفعلون.
هكذا يتوارث الجميع قيمًا مشوّهة، مغلّفة بأقنعة من الفضيلة سرعان ما تتساقط عند أوّل اختبار، ويصبح هذا التلازم بين الشخصيات والأحداث إحالة رمزية واضحة إلى طبيعة العلاقات داخل هذا العالم العبثي؛ عالمٍ غارق في الوهم والكذب، يدّعي أفراده المثالية بينما يتقوّض الواقع تحت وطأة النفاق والانهيار الأخلاقي.
تمثيليًا، نجح أبطال العمل في التعايش والانسجام مع الشخصيات التي يجسدونها، واستطاعوا التنقّل بين المشاعر والتفاصيل بصورة مقنعة، ويبرز هنا أداء محمد ممدوح (طارق)، الذي اعتمد عليه كتّاب الفيلم في تحريك كثير من الأحداث، فنجح في تقديم ردود أفعال دقيقة تتناسب مع كل موقف داخل السياق الدرامي، وبناء شخصية مضطربة ومتورطة دون أن يفقد صدقيته.
وعلى مستوى الكوميديا، تألق طه دسوقي وميشيل ميلاد وعلى صبحي؛ إذ قدّموا أداءً يجمع بين الخفة والسخرية، وظهروا جميعًا أقرب إلى شخصيات كاريكاتورية تستمد ملامحها من مجتمع مشوّه يقوم على “الفهلوة” والاستغلال والكذب كآليات يومية للعيش، هؤلاء الممثلون—مثل بقية الشخصيات—يظهرون في صورة تحمل مزيجًا من العبث والزيف الأخلاقي، كأنهم انعكاس مباشر للقيم المتآكلة في العالم الذي يصوّره الفيلم.
في النهاية، ينجح الفيلم في تعرية صورة مجتمع غارق في الفساد والاستغلال، مجتمعٍ يدّعي المثالية وهو أبعد ما يكون عنها. يقدّم العمل رؤية تكشف بوضوح تآكل القيم وتشوه المبادئ، ويعرض واقعًا تتهاوى فيه الأخلاق تحت وطأة الجشع والتواطؤ والزيف، وهكذا يتحول الفيلم إلى مرآة حادّة تعكس انهيار البنية الأخلاقية للمجتمع، وتُظهر كيف تتوارث الأجيال ذاتها ذات القيم المضلِّلة، لتستمر الحلقة نفسها من العبث والانحدار.
