في فجر هادئ وقبل أن يبدأ الصخب اليومي، يقف “آدم” أمام المرآة في الممر. يمرر يده على شعره، يعدل ياقة قميصه، ثم يخطف ابتسامة قصيرة، كأنه يطمئن إلى صورة في ذاكرته أكثر مما يتأكد من انعكاسها في الزجاج.

وعلى بعد أحياء قليلة، تسحب “سارة” الستارة ليتسلل الضوء إلى مرآتها الخشبية العتيقة. تداعب ثوبها، تلمس وجنتها برفق، وتبتسم كمن يلقى صديقا يطمئنه كل صباح.

اقرأ أيضا list of 2 itemsend of list

المرآة هنا ليست جمادا، بل هي مساحة مواجهة مع الذات، وعين ثالثة ترى ما وراء الملامح، وتفتح بصمت باب الحوار الداخلي الذي يبدأ قبل الخروج إلى العالم.

أنت أمام نفسك

في علم النفس يسمّى النظر في المرآة “لقاء الذات”، وهو لحظة يومية تختبر فيها هويتك الشخصية، وتقيس توافق الصورة المرئية مع صورتك الداخلية. إنها ثوان مشبعة بصدق لا تمنحه لك الكاميرات أو مجاملات الآخرين.

يشير فصل بعنوان “الثقافة في المرآة: المحددات الاجتماعية والثقافية لصورة الجسد” من كتاب (صور الجسد: التطور، الانحراف، والتغيير) الصادر عن دار غيلفورد للنشر، إلى أن النساء يقضين وقتا أطول في أنشطة مرتبطة بالمظهر الخارجي مقارنة بالرجال، مما يعكس أثر معايير الجمال الثقافية على السلوك اليومي، بما في ذلك التفاعل مع المرآة.

المرأة والمرآةالنساء أكثر حساسية للمظهر الخارجي أمام المرآة (غيتي إيميجز)صورة الجسد.. مرآة الداخل

تحكي سارة “في الأيام الهادئة أشعر أن المرآة تمنحني طاقة، وكأنها تتبادل معي الابتسامة. أما حين أكون قلقة أو مرهقة فأبحث عن العيوب فورا”، أما آدم، الرياضي ذو القوام الرشيق، فيصف الأمر قائلا “هي أداة قياس قبل بطولة أو عرض عمل، أقف أكثر لأدخل في الجو”.

وتشير دراسة نفسية نُشرت عام 2021 في مجلة “فرونتييرز إن سايكولوجي” (Frontiers in Psychology) بعنوان “الفروق بين الجنسين في صورة الجسد وعلاقتها بأنواع ومستويات النشاط البدني”، إلى أن النساء أكثر حساسية تجاه معايير المظهر الخارجي، وأكثر سعيا لمقارنة أنفسهن بالآخرين والنقد الذاتي المرتبط بالصورة الجسدية مقارنة بالرجال، خاصة في البيئات التي تفرض معايير صارمة للجمال.

وأوضحت الدراسة أيضا أن نوع ومستوى النشاط البدني يرتبطان بمدى رضى المرء عن صورته الجسدية، إذ تميل النساء إلى أن تكون استجابتهن أكثر تأثرا بالعوامل الاجتماعية والثقافية.

كيف يتفاعل الدماغ مع المرآة

ووجدت دراسة باستخدام التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي نُشرت في مجلة “نيوروإيمج” (NeuroImage) عام 2005 بعنوان “الفروق بين الجنسين في نشاط الدماغ أثناء التعرف على الوجه”، أن النساء يظهر لديهن نشاط أكبر في الفص الحوفي (منطقة في الدماغ مسؤولة عن السلوك والعواطف)، بينما يظهر لدى الرجال نشاط أكبر في الفص الجداري، وهو جزء من الدماغ مسؤول عن المعالجة البصرية المكانية واتخاذ القرارات العملية.

وبلغة الحياة اليومية، فإن المرأة تميل إلى “الشعور” بالصورة، بينما الرجل “يقيّمها” أو “يحللها” كما يقيّم خريطة أو خطة.

حين يطول النظر.. ثقة أم قلق؟

يطلق الباحثون على هذه الظاهرة مصطلح “التأمل أمام المرآة”، وقد أظهرت دراسة نُشرت في مجلة أبحاث الطب النفسي عام 2010، بعنوان “التحديق في المرآة.. اضطراب تشوه صورة الجسد”، أن النظر المطوّل في المرآة يمكن أن يزيد من القلق وعدم الرضا عن المظهر، ويؤدي إلى تفاقم أعراض اضطراب تشوه صورة الجسد، خاصة لدى النساء، إذ يرتبط ذلك بارتفاع مستوى الحساسية والقلق المتعلقين بالمظهر الخارجي.

كما أشار الباحثون القائمون على الدراسة المذكورة إلى أن بعض الأشخاص قد يستخدمون التحديق في المرآة طقسا لتحفيز الذات قبل خوض تحديات أو أحداث مهمة، غير أن هذه الممارسة قد تتحول إلى سلوك قهري لدى المصابين بهذا الاضطراب.

بعض الأشخاص قد يستخدمون التحديق في المرآة باعتباره طقسا لتحفيز الذات قبل خوض تحديات أو أحداث مهمةبعض الأشخاص قد يستخدمون التحديق في المرآة طقسا لتحفيز الذات قبل خوض تحديات مهمة (غيتي إيميجز)المرآة في الثقافة والإعلام

أظهر بحث نُشر في مجلة دراسات النوع الاجتماعي عام 2015، بعنوان “الوجه المتغير للرجولة في الإعلانات”، تحول صورة الرجل من نموذج القوة الصلبة في إعلانات التسعينيات إلى صورة أوسع تشمل العناية الذاتية والمظهر الخارجي، وحتى إظهار لحظات الهشاشة والانفتاح العاطفي، مما يعكس تغير المعايير الثقافية والاجتماعية المرتبطة بالرجولة.

وفي السياق النفسي تكشف دراسة موثقة في قاعدة بيانات المكتبة الوطنية للصحة بالولايات المتحدة بعنوان “الفروق بين الجنسين في التعرف على الذات: دراسة تتبع العين” -نُشرت عام 2012 في مجلة “فيجن ريسيرش” (Vision Research)- عن اختلافات واضحة في طريقة التفاعل مع الانعكاس على المرآة؛ إذ تميل النساء إلى التركيز بشكل أكبر على ملامح الوجه وإظهار استجابات عاطفية أقوى، بينما يتعامل الرجال مع انعكاسهم باعتباره معلومة بصرية، مع ميل أكبر للمعالجة البصرية المكانية للملامح والصورة العامة.

المرآة في السينما والدراما

منذ بدايات الفن السابع استخدم المخرجون المرآة أداة بصرية تحمل دلالات تتجاوز كونها عنصرا من الديكور. في أفلام الشاعر السينمائي الفرنسي جان كوكتو كانت المرآة بوابة بين العوالم ورمزا للتحول الداخلي والعبور إلى المجهول، وهي فكرة تكررت في معظم أعماله، حتى إنه قال إن “المرايا وظيفتها كشف ما هو خلف الواقع”.

في السينما الحديثة قد لا تكون المرآة دائما أداة سردية مباشرة، لكنها تُستخدم أحيانا عبر تقنيات بصرية مشابهة. ففيلم “سينما براديزو” (Cinema Paradiso)، الذي أنتجه عام 1988 المخرج جوسيبي تورناتوري، يوظف الانعكاسات الضوئية وتقنيات الإسقاط لإيصال صورة الفيلم إلى خارج قاعة العرض، في حل بصري يذكّر المشاهد بوظيفة المرآة في إعادة توجيه الصورة، وإن لم تكن هناك مرآة مادية حقيقية في المشهد.

أما في الدراما المعاصرة، فتبرز المرآة بشكل خاص في ما يُعرف بـ”الدراما الجندرية”، وهي الأعمال الفنية التي تتناول ما يعرف بـ”قضايا الهوية والنوع الاجتماعي”، مثل صراع الشخصيات مع تصورات المجتمع حول الجنس أو الجسد.

في هذه الأعمال تصبح المرآة أداة مواجهة حادة أو لحظة مراجعة للذات، إذ يرى البطل (أو البطلة) في انعكاس المرآة صورة تتقاطع مع هويته الحقيقية أو تتناقض معها، فيكشف الانقسام النفسي أو يؤكد الهوية المكتشفة.

وتتجسد هذه “الدراما الجندرية” في أمثلة بارزة مثل “الفتاة الدانماركية” (The Danish Girl) -الذي أنتج عام 2015- إذ يستخدم المرآة لتوثيق المرحلة البصرية والنفسية التي يمر بها البطل أثناء رحلته نحو التحول الجندري، فتسجل التغيرات في المظهر جزءا من المواجهة مع الذات والمجتمع.

وفي فيلم “امرأة رائعة” (A Fantastic Woman) -الذي أنتج 2017- تصبح المرآة انعكاسا دائما لصراع البطلة مع نظرة المجتمع إلى هويتها، إذ تعكس لحظات القوة والضعف في مواجهة الرفض أو القبول.

أما في الدراما النفسية، فتتخذ المرآة شكلا أكثر حدة، ففي فيلم “البجعة السوداء” (Black Swan) -الذي أنتج عام 2010- تتحول المرآة إلى أداة لتمثيل تفتت الهوية، إذ ترى البطلة انعكاسا مختلفا عنها في إشارة إلى الانقسام الداخلي وضغط الطموح الفني، وفي “سائق التاكسي” (Taxi Driver) -الذي أنتج عام 1976 – يصبح مشهد البطل أمام المرآة مسرحا داخليا يكشف مكنون الشخصية.

بهذا المعنى تظل المرآة في السينما والدراما أداة مركبة، فهي رمز سردي ووسيلة جمالية قادرة على كشف المستور أو تضليله، وبإمكانها جعل الجمهور شريكا في لحظة مواجهة الذات التي يعيشها البطل على الشاشة.

النظر في المرآة بالنسبة للبعض طقس للمراجعة الذاتية أشبه بـ”صلاة داخلية” وللبعض الآخر اختبار قاس (بيكسلز)قبل أن تُولد المرآة

قبل أن يصنع الإنسان الزجاج الفضي في القرن الأول الميلادي، كان يرى صورته في مياه الأنهار والبِرَك أو على صفائح المعادن المصقولة مثل النحاس والبرونز والفضة.

وتشير الأدلة التاريخية إلى أن المرايا المعدنية ظهرت منذ نحو 3 آلاف عام قبل الميلاد في مصر وبلاد ما بين النهرين، بينما استخدمتها الحضارات اليونانية والصينية القديمة باعتبارها سلعا فاخرة نادرة تُخصص أحيانا للطقوس أو رموزا للمكانة الاجتماعية والنقاء. وكانت مواجهة الذات عبر المرآة حدثًا استثنائيًا، يختلط فيه شعور الدهشة برهبة الاكتشاف.

المرآة أداة للعلاج النفسي

في علم النفس ليست المرآة مجرد سطح عاكس، بل هي فضاء يكشف ما لا يُرى: القلق والثقة والرضا أو النقد الذاتي. أحيانا تتحول المواجهة معها إلى حوار داخلي يطرح أسئلة الهوية: من أنا الآن؟ هل يشبهني هذا الوجه؟ ولهذا تتغير استجابتنا لها بحسب المزاج، فهي للبعض طقس للمراجعة الذاتية أشبه بـ”صلاة داخلية” وللبعض الآخر اختبار قاس.

وفي العلاج النفسي يؤكد بحث نُشر عام 2018 في مجلة علم النفس الإكلينيكي (Clinical Psychology Review) أن العلاج بالتعرض للمرآة يُستخدم لإعادة بناء الثقة بعد الصدمات الجسدية أو النفسية، ولتحسين تقدير الذات والتقليل من النقد الذاتي، بما يساعد المريض على تقبّل مظهره والقول لنفسه “هذا أنا، وأتقبل نفسي”.

كما توضح دراسة نفسية نُشرت في مجلة “فرونتييرز” عام 2022 أن التحديق في المرآة يمكن أن يثير تفاعلات عصبية-عاطفية مرتبطة بالهوية الذاتية، ويُستخدم في بعض البرامج العلاجية لتعزيز التعاطف مع الذات ومواجهة القلق أو النقد الذاتي.