كان داود عبد السيد (23 نوفمبر 1946 – 27 ديسمبر 2025)، ذا “علاقة ما” بالنبوة؛ أراد كل ما فيها، وصنع في الوقت نفسه، كل شيء ضدها.
ربما تحتاج مسيرة المبدع، الذي غيبه الموت عن 79 سنة، واعتزل قبل أربع سنوات، أن يُنظر إليها، على عكس رغبته، من منظور لاهوتي، فالمخرج الذي تخرج في المعهد العالي للسينما، عشية هزيمة 1967، وانتقد في عبد الناصر نموذج “القائد”، حمّل أبطاله كلهم وهم النبوة، ثم وضعهم في رحلة للـ”تطهر” منه.
بين يوحنا ويحيى
في حوار طويل، أجراه الشاعر علاء خالد، وضُمّن مادة كتابه “داود عبد السيد: سينما الهموم الشخصية” (2024-المرايا)، يرفض عبد السيد الطرح الذي يربط خمسة من أبطال أفلامه التسعة الطويلة بالأنبياء، لاشتراكهم معًا في أسماء “يحيى” و”يوسف” و”موسى”، قائلًا: “أنا لست مطالبًا بأن كل اسم تكون له دلالة ما. ممكن أن أسمي أبطالي أحمد (…) افرض أنني لم أسمه موسى أو آدم وسميته عبد الله”؛ ربما لأن الأسماء، وإن لم تخلُ من دلالة، ليست ما يربطهم!
يشبّه كثيرون ممن تناولوا فيلم “أرض الخوف” (1999) بالقراءة والنقد، يحيى المنقبادي (أحمد زكي) بأبي البشر “آدم”، ربما للتشابه بين علاقته بالضابط عمر الأسيوطي (عزت أبو عوف)، وبين مصير نبي الله وصراعه مع الشيطان، خصوصًا لقاءهما في مساحة خضراء واسعة تشبه الجنة التي طُرد منها آدم إلى الأرض ولم يعد باستطاعته العودة إليها مرة أخرى.
لكن قراءة تظن هذا التشابه، تضع يحيى المنقبادي في موقع القائد/ النبي، حتى وإن قام الاقتباس الديني على أساس المساءلة لا النقل الحرفي. بيد أن النبي لكي يكون نبيًا عليه أن يهزم “الظلم” أو “السلطة الجاهلة”https://www.almodon.com/”الضالة” في مرحلة ما من رحلته، ولا يضطلع أي من أبطال داود عبد السيد بهذه المهمة من الأساس حتى ينجح فيها أو يخفق في إدراكها، على العكس قد تهزمهم السلطة، ورغم ذلك، فهم لا يزالون على علاقة بالنبوة، لأنهم نقيضها.
يوصف يوحنا المعمدان في إنجيل لوقا بأنه: “يَكُونُ عَظِيمًا أَمَامَ الرَّبِّ، وَخَمْرًا وَمُسْكِرًا لاَ يَشْرَبُ، وَمِنْ بَطْنِ أُمِّهِ يَمْتَلِئُ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ (…) وَيَتَقَدَّمُ أَمَامَهُ بِرُوحِ إِيلِيَّا وَقُوَّتِهِ، لِيَرُدَّ قُلُوبَ الآبَاءِ إِلَى الأَبْنَاءِ، وَالْعُصَاةَ إِلَى فِكْرِ الأَبْرَارِ”؛ فهو ليس محصنًا ضد الدنس فحسب، بل يملك في الوقت نفسه القدرة على هداية الضال إلى غايته. وفعل بطلا “الكيت كات” الشيخ حسني ويوسف ابنه (الذي لسبب مجهول يرد اسمه على موقع السينما “يوسف النجار”)، وبطل “البحث عن سيد مرزوق” يوسف كمال، وبطلا “أرض الخوف” و”قدرات غير عادية” يحيى المنقبادي، كل شيء غير ذلك؛ تدنسوا، وخاضوا تائهين رحلة للبحث عن أنفسهم. ليس هم فقط، بل أبطال أعماله جميعهم، بمن فيهم “نرجس” (فاتن حمامة) بطلة الفيلم الذي لم يشترك في تأليفه “أرض الأحلام”.
ولعل تتبع شخصية الشيخ حسني تحديدًا، يحيل مباشرة إلى ذلك الوهم، فالشيخ الضرير لا يعترف أبدًا بعجزه، ويزعم معرفة تمنحه تحكمًا في كل الأمور، وقدرة على حل جميع المشاكل، و”إعادة الزوجة الضالة” إلى زوجها، غير أنه على العكس من ذلك لا يعرف شيئًا عن طموحات ابنه، أو حتى مصير البيت الذي يعيش فيه وباعه بالبخس إلى تاجر المخدرات. ومثله ينغمس يحيى في “أرض الخوف” داخل مجتمع الجريمة، الذي نذرته السلطة لتطهيره، لكن الأخيرة تنساه، فلا يستطيع العودة إليها أو الاستمرار في مجتمعه الجديد. كذلك هناك الأديب الذي يتوهم الإبداع في “مواطن ومخبر وحرامي”، والضائع الذي يفقد أسرته وعائله المادي ويوشك على فقدان بيته لكنه يظن أن العالم اصطفاه ليبث له رسائله في “رسائل البحر”.
إن “النبي الموهوم”، أو “المخلص الزائف”، أو الذين “لم يتركوا وراءهم شيئًا يمكن أن تُحفظ فيه سيرتهم”، لا يبدو عارضًا في أعمال المخرج الذي ينتمي إلى سينما المؤلف، وشكلته “النكسة”، ويرفض في عبد الناصر أنه “أخذ دور الأب”، ويجد الدين الرسمي -أي دين- “سلطويًا”، والذي تبدو خلفيته الفكرية والطبقية في الوقت نفسه أقرب إلى الفيلسوف منها إلى “الأخلاقي”.
نشأ داود في حي مصر الجديدة “المديني”، ابنًا وحيدًا لأب محاسب في بنك وأمٍ معلمة، ويُعد حسب تعبيره “نموذجًا جيدًا لابن الطبقة المتوسطة”، الذي تيسر له أن “ينفصل بنفسه قليلًا عن الآخرين وأيضًا يمتلك صفة الصبر. مثل الصياد الذي يتأمل بنظارته ما حوله كي يفهم”؛ ليبدو بشكل ما أقرب إلى تصور الأدبيات الفلسفية عن نشأتها، التي ترتبط وثيقًا بالمدينة حيث “الإنسان هناك غير مجبول على الشعور بتبعيته للطبيعة بذلك القدر من المباشرة والقوة، مما يتيح له البدء في العمل كملاحظ مستقل عنها”، والتي حين تنزوي فـ”تركز على القضايا الأخلاقية” تتحول إلى “الدين”.
يُشكل صاحب “قدرات غير عادية” بطله وفق هذه الصورة المضادة، التي تنزع إلى الفلسفة، وتسبح ضد الأخلاق بمفهومها السلطوي، أو حسبما يقول نفسه: “ربما أكون ضد الأخلاق بمعنى immoral وليس unmoral، أنا مع هذا النوع من الأخلاق الذي يتجاوز مجرد الأوامر والنواهي. أنا ضد الأخلاق السلطوية التي تتحول إلى سوط أو وسيلة لتعذيب البشر والحكم عليهم”.
في مصاف العبقرية وأدنى منها
تمتلك سينما داود عبد السيد ثراء معرفيًا وبصريًا، وتعكس قدرة فذة على امتلاكه أدواته كمخرج استطاع أن يوجه النجم وغير النجم، والمحترف وغير المحترف لخدمة أغراض النص، مما يصعب حصر منجزه، رغم قلة رصيده من الأفلام، في زاوية واحدة للنظر، لكنها رغم ذلك تفتح طريقًا لفهم التركيب الفني المعقد للنص ومبدعه معًا.
يجد صاحب “قدرات غير عادية” -الذي لا يفضل أدب نجيب محفوظ، واستقى نصين أدبيين في اثنين من أفلامه لخيري شلبي وإبراهيم أصلان- في يوسف إدريس نموذجًا للفنان الذي أراد أن يكونه، لأن الأخير امتلك خبرات متنوعة وضعته وموهبته في “مصاف العبقرية”، وهي خبرات لم تتح له الفرصة لامتلاكها لأنه يفضل العزلة، رغم ذلك فإنه في الوقت نفسه قد لا يسعى لمراكمتها. يحكي، مثلًا، في حواره المذكور آنفًا، أنه في أثناء تحضيره لفيلم أرض الخوف الذي يتناول عالم المخدرات: “بدأت بعمل جرد لنفسي ولمعلوماتي عن هذا العالم. وذهبت لضابط في الداخلية، وبدأت أشتغل بالخيال، نظرًا لقلة المعلومات، في صناعة أجواء هذا العالم. وعملت شخصية المعلم هدهد. لا أعرف كيف تكون المعلم هدهد، ربما تكوَّن من بائعي القوطة (البندورة) في السوق، ولكني لم أقم بعمل بحث، أنا كسول في هذه الناحية، لا أركب الحصان وأسافر”.
نبي العزلة
قبل 15 سنة، أتيحت لي الفرصة للالتقاء بداود في أثناء تصوير فيلمه “رسائل البحر”، وقادنا الحوار إلى سؤال عما يتمناه كمبدع. أذكر جيدًا أنه أخبرني وقتها عن رغبته في شراء جزيرة في المحيط، ولما أخبرته مازحًا أنها ستكون باهظة الثمن، أجابني جادًا أن ثمة جزرًا كثيرة متاحة في البحر المتوسط بأسعار مقبولة!
لم يكن صاحب “الصعاليك” غنيًا بالمعنى التقليدي أو يسعى للثراء، وربما كان حلم الجزيرة رغبة أكبر في الانعزال. رغم ذلك، لم يقدم داود عبد السيد في أعماله، التي يعتبرها “سينما ذاتية”، حوارًا أحاديًا لا يتعداه إلى غيره، مثل أعمال كثيرة وسمت ذلك النوع، خاصة في المحيط العربي، وبدت في معظمها كمراجعات شخصية تخص صانع العمل وحده؛ بينما صنع داود حوارًا دائمًا بينه وبين متفرج متخيل، لأنه جعل من ذاته مسرحًا يتسع لفهم الآخر المختلف: “كنت أحس دائمًا بأني قادر على الكتابة والتعبير عن الطبقات الشعبية. إحساس لا أعرف مصدره، ربما يكون قائمًا على الملاحظة المستمرة لحياتهم. ربما توجد حقيقة وراء هذا الإحساس؛ وهو أنك في النهاية عندما تتعرف على الإنسان الذي أمامك بشكل حقيقي، عندها ستكون قادرًا على الكتابة عنه. وأن معرفتك الحقيقية للبشر يمكنك أن تخضعها لبيئات ولطبقات مختلفة، ويمكن أن تكون صادقًا إلى حد ما في درجة التعبير عنها”.
هذا الحوار الذي يفترض في صياغته متفرجًا متخيلًا، يستتبع بالضرورة وجود متفرج حقيقي عند صدوره، لأن المبدع حينها يريد: “عندما أصرخ أن أجد من يسمعني، وعندما أغني أجد من يقول: الله”. لكن الملفت في هذه العلاقة المركبة -التي تعتريها رغبة نبوية في الوقت نفسه- أنه لم يسعَ لتقديم فيلمٍ تجاري، رغم اعتماده في كثير من الأحيان على نجوم الشباك، أو حتى الوجوه التي تفضلها الطبقات الشعبية مثل شعبان عبد الرحيم.
اعتزل داود عبد السيد في عام 2021، اعتراضًا على تنامي الاتجاه الرأسمالي في الصناعة، الذي أفضى إلى تغيير جذري في نوعية الجمهور القادر على ارتياد صالات السينما. كان يرضيه أن يكون جمهوره “فئة صغيرة”، لا شعبًا؛ جمهورًا مثل أبطاله، أنبياءَ موهومين.
ربما يتصدى النبي للدفاع عن الفقراء، وكان داود عبد السيد يكره السينما التي “تضع بصلًا في عين (المتفرج) لتجعله يبكي”. السينما في عينه كانت محاولة للفهم، رحلة يجب أن يمر بها المتفرج والبطل معًا؛ رحلة تسعى إلى نفض الوهم، تصرخ، وتبتغي في الوقت نفسه سماع “الله”، حتى وإن كانت في السر، لكنه لم تكن أبدًا في السر.
