بريجيت باردو: حزنٌ هذا في عينيها أم نظرة ثاقبة لمآل عالم وحياة؟ (Getty)

بحسب النسخة الفرنسية من ويكيبيديا، يُفترض على بريجيت باردو الراحلة يوم أمس، عن 91 عاماً (مواليد 28 سبتمبر/أيلول 1934)، أنْ تظهر مجدّداً عبر فيلم سينمائي، سيكون وثائقياً، بعنوان “باردو” لآلان برلينيه، المعروض أولاً في الاختيار الرسمي للدورة الـ78 (13 ـ 24 مايو/أيار 2025) لمهرجان كانّ السينمائي، ثم في صالات تجارية مختلفة، بدءاً من الثالث من الشهر الحالي. فيلمٌ يُعيدها إلى الشاشة الكبيرة بعد غيابٍ متعمَّد منذ عام 1973، ذاك العام الذي تلتقي فيه روجيه فارديم مجدّداً، في “دون خوان 73″، الذي له عنوان آخر: “دون خوان أو دون خوان كان امرأة”. لن يمرّ وقتٌ قبل التنبّه إلى أنّ عنواناً كهذا يُحيل إلى رائعة فاديم نفسه، “وخلق الله المرأة” (1956)، الذي سيُعتبر دائماً، نقدياً وسينيفيلياً، وربما جماهيرياً، فيلم شهرتها، بكل أنواع الشهرة التي تستحقها.
لكن، أيجوز حصر امرأة مثلها في دور كهذا، فيجري التغاضي عن أدوار أخرى، قبل (وبعد) براعة فاديم في إظهار ما لديها من حيوية أدائية، تحوِّل جمال الشكل إلى روعة التمثيل؟ بل إلى بهاء الإقامة في ذاكرة فردية، وأخرى جماعية، سنين مديدة؟ فالممثلة، التي تبدأ سيرة مهنية مطلع خمسينيات القرن العشرين، تصنع صورة أخرى لبلدٍ وسينما وتاريخ، بمزجها جمال الجسد بحيوية عطاءٍ، وهذا لن يكون كلاماً تنظيرياً عاطفياً، بقدر ما يعكس شيئاً من إمكانياتها التي تبدو، حينها على الأقلّ، غير محدودة. صُورٌ فوتوغرافية كثيرة لها، منشورة في صحفٍ ومجلات ومواقع في أعوام كثيرة، تقول إنّ فيها حيوية تتمثّل بضحك ونظرات تخفي في طياتها ما يُفترض به أن يكون انفعالاً أو رأياً أو موقفاً، فإذا بالمخفيّ في الطيات يُصبح جوهر حكايتها: إنّها امرأة تكسر قيوداً وتخترق حدوداً، وإنْ “يفشل” الفنّ في تحقيق ذلك (!)، فالانسحاب من عالمه، بما فيه من دهاليز وصفقات ومصالح وإبداع أيضاً، يكون الخيار الأسلم والأفضل.
ألن يكون قولٌ لها خلاصةَ اختبار حياتي، موزّع في التمثيل والصناعة السينمائية والغناء والعلاقات المهنية (وفي العلاقات تلك ما سيكون أبعد من المهنة، غالباً؟): “منحتُ شبابي وجمالي للرجال. سأمنح خبرتي والأفضل فيّ إلى الحيوانات”؟. ما الحاصل، مطلع سبعينيات القرن الماضي، الذي يُسبّب وضع حدٍّ لمهنة، من أجل تفرّغ كلّي لكائنات حيّة، تراها أهمّ وأجمل وأفضل من الرجال، الذين بغالبيتهم الساحقة يهيمون بها، جمالاً وإغراءً وجاذبية وسحراً، يوظَّف بعضُ هذا في تمثيلٍ، يُضيف إلى هذا كلّه سحراً وجاذبية وإغراءً وجمالاً؟
اطّلاعٌ متأنٍ على عددٍ خاص من “باري ماتش” (مجلة أسبوعية فرنسية)، مخصّص بها (لا تاريخ معلناً، لكنّ السلسلة معروفة بـ Hors – Serie, Collection A La Une)، كفيلٌ بتبيان مسار حياتي ومهني عبر وفرة الصُور الفوتوغرافية، والتعليقات ـ الكتابات تجهد في إضفاء جديدٍ على ما تكشفه صُورها تلك من بهاء ونضارة وتقلّبات وعشقٍ، وتفاصيل تجعل المهنيّ أخفّ وطأة إزاء ما تملكه من حضور يليق بملكات أزمنة منقرضة، بينما يتجلّى بهاؤها الأقصى في علاقتها بحيوانات، تُكرِّس لها أعواماً أكثر من تلك المخصّصة بالتمثيل. وصُورها تلك، إن تظهر فيها عارية أو شبه عارية (وهذا جزءٌ أساسي من صُنع أسطورتها، لشدّة ما في العري من جمال غير موصوف)، تقول أحوالاً وحالات، وتكشف، لمن يتمعّن فيها بعيداً عن كلّ ميلٍ جنسي غريزي، كم أنّ ذاتها وروحها عصيّتان على الفهم الصحيح، أو التعرّف الأعمق. كأنّها، بفضل جمالها الأسطوري هذا، تُفعِّل جدراناً تقيها أهوال مهنة وحياة بين الناس، فتعثر في حيواناتها الكثيرة على أمان صائب في ابتكار حياة متكاملة.

لكنّها، رغم كلّ شيءٍ، ستكون وفيّة لمن تعتبره الأقرب إليها. فإهداء مذكّراتها، Initiales B.B (نسبة لأغنية شهيرة كتبها لها سيرج غينسبورغ الذي ارتبط بعلاقة معها لفترة)، (منشورات غراسيه، باريس، 1996)، كافٍ لمعرفة شفافيتها وشغفها اللذين يتكامل أحدهما مع الآخر في ارتباطات مع أفراد: “أشكر جميع الذين أحبّوني بإخلاص وعمق، (ومع أنّهم) قليلو العدد، سيعرفون أنّني أقصدهم”، كما أنّها تشكر أولئك الذين علّموها العيش “بالركلات”، والذين بخيانتهم إياها واستغلالهم سذاجتها (كما تكتب) “رموني في قاع اليأس الذي خرجت منه بأعجوبة”. تكتب أيضاً أنّ “النجاح يُبنى من خلال التجارب، إنْ لم نمت (قبلاً)”. ألن يكفي هذا “المختصر المفيد” ليكون عنوان حياتها السابقة على الاعتزال من أجل الحيوانات؟ ألن تُبيّن جملها القليلة، التي تتصدّر سيرة ـ مذكرات (560 صفحة من الحجم الكبير)، فتختزلها بأقلّ الجُمل، وأعمق المعاني؟
إذاً، بعد ثلاثة أشهر فقط على احتفالها بعيد ميلادها الـ91، تُغادر بريجيت باردو، التي يستمرّ حضورها الأبهى في أجيال لاحقة على اعتزالها، أي أولئك الذين يريدون معرفة الماضي وفهمه، عبر أفلامٍ وحكايات وكواليس. ورغم هذا، سيُطرح سؤالٌ ربما يردّ البعض عليه بقسوة: هل تمتلك باردو، فعلياً، أدوات التمثيل السينمائي المحترف، أمْ أنّ جمالها كافٍ، حينها، لـ”استغلالها” في صناعة أفلامٍ، تدرّ أرباحاً، وبعضها يقول شيئاً مفيداً خارج التجارة والاقتصاد؟ هذا يحتاج إلى نقاشٍ، يُفترض به ألّا يتعطّل بموتها، رغم أنّه مُعطّل سنين طويلة قبل رحيلها. 
الآن، يعلن رحيل بريجيت باردو نهاية فصلٍ آخر من تاريخ وسيرة وحياة، في زمنٍ يشهد انهيارات كارثية. أيكون غيابها في هذه اللحظة إنذاراً إضافياً بأنّ الخراب يزداد تفشّياً، في عالمٍ بائس كهذا؟