Published On 29/12/202529/12/2025

|

آخر تحديث: 21:47 (توقيت مكة)آخر تحديث: 21:47 (توقيت مكة)

انقر هنا للمشاركة على وسائل التواصل الاجتماعي

share2

منذ صدور فيلم “أفاتار” (Avatar) عام 2009، لم تتعامل سلسلة المخرج جيمس كاميرون مع نفسها بوصفها مجرد حكاية تُروى، بل باعتبارها عالما يُخاض؛ عالم يقوم في المقام الأول على التجربة البصرية والإبهار التقني، وعلى إحساس دائم بأن السينما تتقدم خطوة إلى الأمام على مستوى الشكل، حتى لو ظل المضمون محل نقاش دائم.

وبينما استقبل الجمهور الجزأين الأولين بزخم جماهيري ضخم، ظل السؤال معروضا: هل “أفاتار” تجربة بصرية خالصة، أم مشروع سردي قادر على طرح أسئلة فكرية وأخلاقية متماسكة؟

اقرأ أيضا list of 2 itemsend of list

فيلم “أفاتار: النار والرماد” (Avatar: Fire and Ash)، الجزء الثالث من سلسلة “أفاتار”، من إخراج وتأليف جيمس كاميرون، وبطولة سام ورثينغتون، وزوي سالدانا، وكيت وينسلت، وعدد كبير من الممثلين والممثلات الآخرين. وتُعد سلسلة “أفاتار” من الأعلى إيرادا في تاريخ السينما، حيث يحتل الجزء الثاني “أفاتار: طريق الماء” (Avatar: The Way of Water) المركز الثالث عالميا بأكثر من 2.3 مليار دولار منذ عرضه عام 2022، بينما لا يزال الجزء الأول الأعلى بإجمالي نحو 2.9 مليار دولار عالميا.

إشكالية “المنقذ”: نقد الاستعمار الذي يعيد إنتاجه

لم يكن “أفاتار” يوما فيلما قائما على حبكة قوية أو شخصيات معقدة، فقوته الأساسية كانت دوما في كونه تجربة بصرية مختلفة. فالجزء الأول، الذي صدر عام 2009، قدّم عالما جديدا ومؤثرات بصرية مبهرة، بينما الجزء الثاني لم يهتم بتعميق هذا العالم دراميا بقدر ما وسعه جغرافيا وبصريا، عبر الانتقال إلى البحر، الذي فتح مساحة جمالية جديدة، غير أن ذلك أتى على حساب الإيقاع، الذي أصبح أبطأ.

بُني فيلم “أفاتار” على فكرة “المخلص الأبيض” أو “المنقذ الأبيض”، وهي الفكرة التي قامت عليها سرديات استعمارية كثيرة: شعوب أصلية تُصوَّر على أنها غير قادرة على الدفاع عن نفسها، فتحتاج إلى شخص قادم من الخارج، أذكى وأكثر وعيا، ليقودها نحو الخلاص.

هذه الصيغة ليست جديدة؛ رأيناها في “طرزان”، حيث يوجد دائما “أبيض طيب” يتعلّم عادات السكان الأصليين، وفي النهاية يصبح الأقدر على حمايتهم، أكثر منهم أنفسهم.

في “أفاتار” يتغير الغلاف، لكن الجوهر يظل واحدا. الصراع لا يقوم على العِرق بقدر ما يقوم على النوع: الإنسان في مقابل سكان باندورا الأصليين “النافي”. ومع ذلك، تظل الفكرة ذاتها: مهما بلغت حكمة السكان الأصليين أو قربهم من الطبيعة أو قدراتهم الجسدية الفائقة، فهم بحاجة إلى قيادة خارجية كي ينتصروا. والمفارقة هنا أن “أفاتار” يقدّم نفسه بوصفه فيلما مناهضا للاستعمار والرأسمالية الجشعة، بينما يعيد -من دون قصد- إنتاج المنطق الاستعماري ذاته.

مع “أفاتار: النار والرماد” يبدو أن السلسلة تحاول -للمرة الأولى بوضوح- مراجعة نفسها؛ فالعنوان نفسه يوحي بتغيير النبرة، من الماء والانسجام إلى النار والرماد والانقسام.

يواصل الفيلم حكاية عائلة جيك سولي، لكن الصراع لم يعد محصورا بين البشر والنافي، ولا بين الاستعمار والطبيعة فقط، بل امتد إلى داخل عالم باندورا نفسه، عبر قبائل جديدة وثقافات مختلفة، لا يتوافق بعضها مع الصورة المثالية السابقة عن السكان الأصليين، وهي الصورة التي عززت سابقا المنطق الاستعماري ذاته بوضعهم في إطار شخصيات مثالية وساذجة.

هنا يدخل الفيلم منطقة داكنة، حيث الغضب والانتقام والتطرف، وكيف يمكن للصراع المستمر أن يغيّر الضحية نفسها؛ فليس كل “النافي” ملائكة، وليس كل صراع أخلاقي واضح في تقسيمه بين الخير والشر، وهو ما يُعد أحد أهم التطورات السردية في السلسلة حتى الآن.

تفكيك البطولة الذكورية

من أكثر ما يلفت النظر في “أفاتار: النار والرماد” محاولته الواضحة لمراجعة النموذج الأبوي الذي قام عليه الجزء الأول. فجيك سولي، بوصفه رجلا قادما من مؤسسة عسكرية، مثل نموذج البطولة الذكورية الأميركية التقليدية: القوة، والمواجهة، والحلول المباشرة.

في الجزء الجديد، تبدأ مركزية هذا النموذج في الاهتزاز، ويظهر اهتمام أوضح بالشخصيات النسائية، ليس بوصفهن داعمات عاطفيات، بل كنظم فكرية وأخلاقية بديلة.

هنا يبرز الفكر الأمومي، لا باعتباره “حكم النساء”، بل بعدّه رؤية للعالم قائمة على الحماية بدل الإخضاع، وعلى الاتصال بالطبيعة بدل السيطرة عليها. جيك لا يختفي، لكنه يتحول من “المنقذ” إلى جزء من العائلة، ومن قائد مطلق إلى شريك.

على مستوى المضامين، يمنح “أفاتار: النار والرماد” مساحة حقيقية لدورين كانا مهمشين سابقا، هما الأمومة والشباب. فالأمومة هنا ليست مجرد حنان، بل قوة تنظيمية ورؤية طويلة المدى. وفي المقابل، تتجسد طاقة الشباب في شخصية لواك، الابن الذي لا ينتمي إلى القالب الجاهز للابن المثالي أو التابع المطيع، ويُعامل أحيانا كما لو كان مجنّدا لا ابنا من لحم ودم.

الأهم أن الفيلم يقلّص مركزية “البطل الإنسان” لصالح الطبيعة نفسها. فشخصية كيري، التي تؤديها سيغورني ويفر، وإيوا، بوصفها مركز الوعي في كوكب باندورا، لا تمثلان خلفية رمزية، بل قوة حقيقية قادرة على الفعل. الطبيعة هنا لا تحتاج إلى من ينقذها، بل الإنسان هو من يحتاج إلى أن يتعلم كيف يكون جزءا منها.

على مستوى الصورة، يواصل “أفاتار: النار والرماد” تأكيد مكانة السلسلة بوصفها أحد أهم الأعمال السينمائية المعاصرة في استخدام المؤثرات البصرية. غير أن الاختلاف هنا لا يقتصر على التطور التقني، بل يمتد إلى توظيف الصورة دراميا. فالفيلم لا يستخدم المؤثرات البصرية بوصفها أداة إبهار مستقلة، بل كوسيلة لبناء المعنى. التحول من الماء إلى النار ينعكس مباشرة على ألوان الفيلم، والإضاءة، وحركة الكاميرا، لتصبح الصورة أكثر حدة وخشونة، وأقل شاعرية مقارنة بالأجزاء السابقة.

المؤثرات البصرية هنا لا تخلق عالما جميلا فحسب، بل تعبّر عن حالة نفسية وسياسية مضطربة، وعن عالم يدخل مرحلة الغضب والانقسام. هذا الاستخدام الواعي للصورة يجعل المؤثرات جزءا من السرد نفسه، لا مجرد أداة تقنية، ويمنح الفيلم هوية بصرية مختلفة تميّزه داخل السلسلة.

 

في المحصلة، لا يمكن القول إن “أفاتار: النار والرماد” فيلم كامل أو خالٍ من المشكلات، لكنه خطوة واضحة إلى الأمام، ليس لأنه تخلص من كل عيوب السلسلة، بل لأنه -للمرة الأولى- يعترف بوجودها.