وخلق الله بريجيت باردو.. لا كنجمة، بل كاضطراب جميل فى نظام العالم. امرأة ظهرت فى اللحظة التى كان فيها الجسد الأنثوى محاصرًا بين الأخلاق والرقابة، فاختارت أن تكون جسدًا بلا وصاية، صوتًا بلا إذن، حياةً بلا تعليمات. لم تدخل السينما لتنجح فيها، بل لتغيّرها، ثم تمضي.


حين أطلت باردو فى خمسينيات القرن الماضى، لم تكن السينما الفرنسية مستعدة لها. لم تكن بريجيت باردو مجرد نجمة سينمائية صعدت فى خمسينيات القرن الماضى، بل كانت زلزالًا ثقافيًا هزّ صورة المرأة فى السينما والمجتمع الأوروبى معًا. ظهورها لم يغيّر شكل البطلة على الشاشة فقط، بل أعاد تعريف العلاقة بين الجسد والحرية، بين الشهرة والرفض، وبين الفن والحياة.


كانت البطلة ما تزال محكومة بنموذج المرأة الرصينة، أو العاشقة الخاضعة، أو الضحية النبيلة. فجاءت باردو ككائن حرّ، متقلّب، غير قابل للتأطير. لم تكن تمثّل الرغبة، بل تعيشها أمام الكاميرا دون اعتذار، فارتبك المجتمع، وارتبكت السينما، وبدأت الأسطورة.


فيلم “وخلق الله المرأة” (1956) لروجيه فاديم لم يكن مجرد انطلاقة، بل لحظة فاصلة فى تاريخ الصورة. العنوان نفسه بدا كبيان لاهوتى ساخر: امرأة تُخلق خارج نظام الطاعة. شخصية جولييت لم تكن شريرة ولا فاضلة، بل امرأة تختار، تخطئ، وتدفع الثمن. جسد “باردو” هنا لم يكن زينة درامية، بل مركز الصراع. لهذا تحوّل الفيلم إلى فضيحة أخلاقية ونجاح جماهيرى مدوٍّ فى آن واحد، وصارت باردو رمزًا لفرنسا الجديدة، رغم أنها لم تطلب هذا الدور.


لم تدخل “باردو” فى هذا الفيلم السينما من باب الأداء الكلاسيكى، بل من نافذة الصدمة. لم تمثل الإغواء بقدر ما جسّدته كحالة طبيعية، بلا اعتذار ولا تبرير. جسدها لم يكن أداة للفتنة بقدر ما كان إعلانًا صامتًا عن حق المرأة فى امتلاك ذاتها، فى زمن كان ينظر إلى الأنوثة باعتبارها وظيفة اجتماعية لا اختيارًا شخصيًا. لهذا بدت باردو مقلقة: لأنها لم تطلب الإذن.


فى أفلامها، لم تكن البطلة خاضعة ولا رومانسية بالمعنى التقليدي. شخصياتها غالبًا غير مستقرة، متمردة، ترفض القوالب الأخلاقية الجاهزة، وتدفع ثمن ذلك اجتماعيًا.


مع فاديم، الذى شكّل بوابتها الأولى إلى النجومية، لم تكن العلاقة فنية فقط، بل وجودية. هو رأى فيها مادة خام لأسطورة، وهى وجدت نفسها محاصرة داخل هذه الأسطورة منذ اللحظة الأولى. بعدها، بدأت “باردو” العمل مع مخرجين حاولوا تفكيك صورتها بدل استغلالها.


مع لوى مال فى فيلم “عشّاق” (1958)، تحوّلت الرغبة إلى سؤال أخلاقي. لم تعد المرأة جسدًا ثائرًا فقط، بل كائنًا حائرًا يبحث عن معنى الحب خارج الزواج والمؤسسة. وفى “الحقيقة” (1960) مع هنري-جورج كلوزو، قدّمت باردو واحدًا من أعقد أدوارها: امرأة وقفص الاتهام، يحاكمها المجتمع لا على جريمة، بل على أسلوب حياتها. هنا بلغت التراجيديا ذروتها، كأن الفيلم يحاكم بريجيت باردو نفسها، لا شخصيتها فقط.


ذروة علاقتها بالسينما الفكرية جاءت مع جان-لوك جودار فى “الازدراء” (1963). فى هذا الفيلم، بدا الجسد الذى صنع الأسطورة موضوعًا للتفكيك والتشريح. جودار لم يصوّر “باردو” كرمز إغراء، بل كعلامة على تفكك العلاقة بين الحب والسلطة والسينما ذاتها. كانت كاميرته باردة، تحليلية، كأنها تقول: هذه هى المرأة التى صنعها العالم، ثم بدأ يخاف منها.


لكن الشهرة كانت أسرع من الفن، وأقسى من أى مخرج. تحوّلت “باردو” إلى هدف دائم للصحافة، مادة استهلاك يومى، جسدًا عامًا لا خصوصية له. صارت أيقونة عالمية، والأيقونة، بطبيعتها، كائن منزوع الإنسانية. كلما حاولت الهرب من الصورة، أعادوها إليها بعنف أكبر.


لهذا لم يكن انسحابها من السينما عام 1973 فعل يأس، بل قرارًا سياسيًا بامتياز. وهى فى قمة المجد، اختارت الصمت، كأنها تقول إن الحرية الحقيقية لا تتحقق تحت الأضواء. رفضت أن تتحول إلى ذكرى تُستهلك، أو جسد يُعاد تدويره، فضّلت العزلة على التواطؤ.


تحوّلها لاحقًا إلى ناشطة شرسة فى الدفاع عن حقوق الحيوانات لم يكن إنحرافًا عن مسارها، بل استكمالًا له. القضية واحدة: رفض الاستغلال. رفض تحويل الكائن الحى إلى مادة. قد تكون مواقفها السياسية لاحقًا إشكالية، حادة، ومثيرة للجدل، لكنها ظلت وفيّة لطبيعتها الأولى: عدم السعى إلى القبول العام، وعدم تلميع الذات.


بريجيت باردو ليست قصة نجاح سينمائى فقط، بل شهادة ثقافية عن ثمن الحرية حين تُعاش بلا أقنعة. جسدها كان ساحة صراع، وحياتها كانت اختبارًا قاسيًا لفكرة التحرر نفسها. سبقت زمنها، فدفعها الزمن إلى الهامش، ثم أعاد استدعاءها كرمز بعد أن أنهكها.


وخلق الله بريجيت باردو..

امرأة علّمت السينما أن الجسد قد يكون فلسفة،

وأن الحرية ليست شعارًا،

بل جرحًا مفتوحًا،

غالبًا ما تحمله امرأة واحدة

نيابةً عن الجميع.


لهذا، حين نتحدث عن باردو اليوم، لا نتحدث عن نجمة من الماضى، بل عن سؤال لم يُحسم بعد: كيف يمكن للمرأة أن تكون حرة.. دون أن تتحول إلى أسطورة يلتهمها الآخرون؟