تناول العديد من الكتاب والنقاد سيرة أم كلثوم وأعمالها الفنية، لكن اللافت للانتباه أن أحدًا لم يتناول ما قدمته أم كلثوم لدعم المجهود الحربى بشيء من التفصيل والتحليل، حتى المسلسل ذكر أجزاء بسيطة من تلك الفترة، والحقيقة أن الكتاب الوحيد الذى وثق مشوار أم كلثوم لدعم المجهود الحربي، كان الكاتب الشاب كريم جمال، الذى أصدر كتابًا بعنوان: “أم كلثوم وسنوات المجهود الحربي”، وقد استعان بالوثائق المكتوبة، والمرئية، والصوتية، التى وثقت تلك الفترة، وجاءت نسخة الكتاب الصوتية، لتُضيف رونقًا خاصًا له، ورغم طول ساعات الكتاب، لكن صوت أم كلثوم الذى يشدو فى بعض فصوله، يهون عليك تلك الرحلة، وأضافت مقدمة المؤرخ الموسيقى فيكتور سحاب، نوعًا من الثقة والحيادية للقارئ، إذ عرض رأيه فى أسلوب الكاتب فى التوثيق ورفضه لرأى الكاتب فى مواضع أخرى، وهذا يجعلك متشوقًا لمعرفة ماذا يحكى الكاتب عن أم كلثوم، وهذا ما سنحكيه نحن أيضًا فى السطور التالية.


يحكى الكاتب فى بداية فصول كتابه، نبذة مختصرة، عن علاقة أم كلثوم بثورة يوليو، وكيف تمكنت من إبعاد لقب “فنانة العهد البائد” عن نفسها، وأثبتت للجميع أن غناءها يناسب أى زمان ومكان، وكيف وطدت علاقتها بالرئيس جمال عبد الناصر، فلطالما كانت ترفض انتهاكات الإنجليز للبلاد، ورأت أن ثورة يوليو وقادتها كانوا سببًا فى استقلال مصر، وتحدث أيضًا عن أحداث ما قبل النكسة، وتأييد أم كلثوم لتصريحات الرئيس، من خلال النداءات التى سجلتها للجنود على الجبهة المصرية عبر أثير الإذاعة، وأبدت تفاؤلها الشديد بالنصر، فى حين كان الكاتب الصحفى محمد حسنين هيكل يرى الأمر بنظرة أخرى، جعلت أم كلثوم تراه عقلانيًا أكثر مما ينبغي، وكان من الواضح أن هيكل كان يرى بحكم قربه من السلطة، أن الأمر أكثر خطورة وحساسية، ويحتاج إلى النظر إليه بصورة غير التى كان يراها المشير عبد الحكيم عامر ورجاله، لكنه لم يملك من أمره شيئًا، لقد نبّه وحذّر، فماذا عليه أن يفعل أيضًا؟


يحكى الكاتب أيضًا عن صدمة أم كلثوم والشعب المصرى كله بعد خطاب الرئيس جمال عبد الناصر، الذى أعلن فيه الهزيمة، وأطلق عليها نكسة، وأزمة، ومحنة، بل إن أم كلثوم كانت من الرافضين لتنحى عبد الناصر، ورغم عزلتها وصمتها، لكنها شعرت أن مصر بحاجة إلى المساندة، وأن الشعب المصرى بحاجة إلى مَن يُوَجّهه لكيفية مساندة أبنائه ومواساتهم، فأرسلت شيكًا قيمته 20 ألف جنيهًا سترلينيًا إلى وزارة المالية، ثم أسست الهيئة الوطنية لتجمع المرأة المصرية، وكان هدف تلك الهيئة إسعاف الجنود القادمين من الحرب، ودعم المجهود الحربى بالمال والذهب۔


ثم تناول الكاتب حفلات أم كلثوم الغنائية لدعم المجهود الحربي، والتى بدأت فى منتصف أغسطس من عام 1967 فى محافظة دمنهور، ثم الإسكندرية، ثم المنصورة، وأخيرًا طنطا، كما تناول رحلاتها الخارجية، التى بدأت بحفلتيها فى مسرح الأوليمبيا فى باريس، وناقش تخوف مدير المسرح من غناء أم كلثوم هناك، خاصة مع عدم علمه بتاريخها الفني، وخوفه من فشل الحفلتين بسبب قلة إقبال الجمهور على شراء التذاكر بعد النكسة، ثم حكى الكاتب خلافه مع حكاية الأديب المصرى محمد سلماوى عن حماس الإذاعى جلال معَوَّض حين قال فى تقديمه لحفل أم كلثوم: بأن أم كلثوم تغنى اليوم فى باريس وغدًا تغنى فى القدس۔۔ يحكى سلماوى فى مذكراته أن هذا الموقف حدث فى الحفل الأول، فى حين يرى كريم جمال أن الموقف كان فى الحفل الثاني، نظرًا لفشل الإذاعة المصرية فى بثِّ الحفل الأول على الهواء مباشرة، لذا لم يُقَدِّم جلال معَوَّض الحفل، كما أن الصحف المصرية تناولت الحدث فى اليوم التالى للحفل الثاني، وهذا ما يؤكد نظرية الكاتب۔


حكى الكاتب أيضًا عن جولات أم كلثوم فى البلاد العربية، كالمغرب، وتونس، والكويت، والسودان، وليبيا، ولبنان۔۔ وأورد لنا شهادات بعض الإعلاميين الذين صاحبوها فى لحلاتها، أمثال الكاتب الصحفى رجاء النقاش، ومحمد وجدى قنديل، وكمال الملاّخ، والمصور فاروق إبراهيم، والإذاعية سامية صادق، والإعلاميتين سلوى حجازى وأمانى ناشد… كما عرض لنا ردود أفعال الجماهير التى حضرت حفلات أم كلثوم، حتى الشعب المغربى الذى نادرًا ما يتفاعل مع المطربين بالهتاف، كان يصرخ باسم ثومة فى حفلاتها، كما حكى عن استقبال الشعوب العربية لأم كلثوم فى الدول التى زارتها، وتأثرها بحضارة بعض الدول والشعوب، كالمغرب والسودان۔


كما حكى لنا عن حضور بعض شباب حركة فتح لحفل ليبيا، وتقديمهم شعارهم هدية لأم كلثوم، إلى جانب مجهودها لدعم المهجرين من مدن القناة، إذ أنشأت مشروعًا خياطة الملابس للنساء والفتيات، واتفقت مع المهندس عثمان أحمد عثمان على إيجاد فرص عمل للشباب المهجرين، وقد ذكر محمد توفيق فى كتابه شيء من الحرب، أن عثمان أحمد عثمان هو رجل الأعمال الوحيد الذى كان يُساند أم كلثوم فى التبرعات والأنشطة الأخرى لدعم المجهود الحربي۔

كما يحكى الكاتب عن تأثر أم كلثوم بوفاة عبد الناصر، وكيف انعكس هذا على صوتها فى حفلاتها الأخيرة، وكيف خفُتتِ الأضواء حولها بعد التغيرات التى أُطلِق عليها ثورة التصحيح، وهى فى تلك الفترة لم تكن قادرة على المحاربة كما فعلت بعد ثورة يوليو لإثبات وجودها۔

لكنك حين تقرأ عن أم كلثوم، تجد أنها لم تكن سطحية، بل كانت صاحبة رسالة، والدليل أنها كانت تتكلم مع القادة والمثقفين فى كل شيء، فى السياسة، والأدب، والفن، والشؤون الاجتماعية