بين صور التصعيد الأمني المتداولة على الشاشات ومنصّات التواصل من جهة وحنين لا يهدأ إلى “البيت الأول” من جهة أخرى، وجدت رنا نفسها أمام قرار صعب: هل تزور لبنان في موسم الأعياد أم تؤجّل اللقاء؟ تقول إنها ترددت طويلاً خوفاً من الأوضاع الأمنية، لكن كفّة العاطفة رجحت في النهاية.

“أردت أن يعيش أولادي العيد في لبنان، مع العائلة. نعم، هناك قلق، لكن للأعياد هنا طعم مختلف”، تقول رنا لموقع “الحرة” بصوت يمزج بين القلق والشوق.

رنا ليست استثناء. فمع اقتراب نهاية العام، اختار عدد كبير من المغتربين اللبنانيين كسر تردّدهم والعودة إلى الوطن، رافضين أن تحجب الهواجس الأمنية فرحتهم المنتظرة. “هناك شعور لا يمكن تفسيره، إحساس بالانتماء يجعل كلّ شيء أهون”، تضيف رنا، معتبرة أن أجواء الأعياد في لبنان تشكّل مساحة أمان نفسي وسط العواصف.

مشهد افتقده اللبنانيون

في ذروة موسم الأعياد، استعاد لبنان مشهداً غاب طويلاً: مطار مزدحم، فنادق شبه ممتلئة، ومطاعم تعج بالروّاد حتى ساعات متأخرة من الليل. حركة تنبض بالحياة رغم هشاشة الوضع الأمني، وكأن البلاد تعلن، مرة جديدة، قدرتها على الاستمرار.

وتشير المؤشرات الرسمية إلى موسم أعياد نشط، مع توقعات بوصول عدد الوافدين إلى أكثر من 400 ألف زائر، بحسب رئيس الهيئات الاقتصادية الوزير السابق محمد شقير، الذي أشار في بيان إلى أن الطلب المتزايد دفع شركات الطيران إلى زيادة رحلاتها لتصل إلى نحو 75 رحلة يومياً. كما تخطّت نسب إشغال الفنادق 80% في بيروت و65% في المناطق الأخرى، مع توقعات بوصولها إلى أكثر من 90% في العاصمة.

وفي قطاع المطاعم، يشير نائب رئيس نقابة “أصحاب المطاعم والمقاهي والملاهي والباتيسري” خالد نزهة إلى أن “الحركة بدأت تتحسن منذ أواخر نوفمبر بفعل عودة كثيفة للمغتربين، مع امتداد ذروة الموسم من 22 ديسمبر حتى مطلع 2026″، مؤكداً أن الإقبال هذا العام أفضل من الأعوام السابقة، “لا سيّما من العام الماضي الذي شهد حرباً مدمّرة”، وأن زيارة البابا لاون الرابع عشر شكّلت ما يشبه “الأوكسيجين الحقيقي للبنان ولمختلف القطاعات، حاملة رسائل أمل وتفاؤل لجميع اللبنانيين”.

يأتي هذا المشهد الاحتفالي فيما يرزح لبنان تحت وطأة واقع أمني بالغ الحساسية، تختلط فيه أجواء العيد بظلال حرب لم تغب تماماً عن الأفق. فالبلاد لم تلتقط أنفاسها بعد من تداعيات المواجهة الأخيرة بين حزب الله وإسرائيل، وما خلّفته من خسائر بشرية ومادية جسيمة.

ورغم دخول اتفاق وقف النار حيز التنفيذ قبل نحو عام، لا تزال الاستهدافات الإسرائيلية شبه اليومية تغذي المخاوف من انزلاق مفاجئ نحو مواجهة أوسع. وتتعمّق هذه الهواجس مع تصاعد الحديث عن احتمالات التصعيد واستعداد لبنان للانتقال إلى تنفيذ المرحلة الثانية من “خطة حصر سلاح حزب الله”، رغم رفض الحزب، الأمر الذي يرفع منسوب التوتر السياسي والأمني في البلاد ويزيد المخاوف حيال المرحلة المقبلة.

الحنين أقوى من القلق

منى، القادمة من فرنسا، اختصرت حالة الكثيرين بالقول “كنت مترددة بسبب الأخبار، لكن العيد في لبنان لا يقاوم”. بعد غياب ثلاث سنوات عن رأس السنة مع عائلتها، حرصت على استعادة الطقوس البسيطة: المائدة العائلية، لقاء الأصدقاء، دفء الجيران، مع تجنّب المناطق المتوترة أمنياً.

ويصف الخبير الاقتصادي البروفسور جاسم عجاقة، المؤشرات السياحية الحالية بـ”الإيجابية” مع وصول “أكثر من 10 آلاف مغترب وسائح يومياً”، متوقعاً ارتفاع عدد السياح “بنحو 10% مقارنة بالسنة الماضية، ما يوفّر تدفّقات إضافية من العملات الأجنبية”.

ويشكل المغتربون العمود الفقري للحركة السياحية، بحسب ما يقوله عجاقة لموقع “الحرة”، “سواء القادمين من دول الخليج أو من أوروبا وأميركا وأفريقيا، في حين تبقى السياحة الخارجية خجولة ومحصورة بمعظمها بزوار من دول عربية، مع استمرار محدودية السياحة الخليجية نتيجة القيود القائمة”.

من جانبه يقول نزهة: “يبرز هذا العام حضور عربي لافت، ولا سيما من دول الخليج كالسعودية وقطر والإمارات والكويت”، مشيراً إلى أن الزائر الخليجي “يتميّز بطول فترة إقامته وارتفاع حجم إنفاقه وتكرار زياراته للبنان”، كما يشير إلى استمرار حضور الزوّار من العراق ومصر والأردن، “في مقابل تراجع قدرة اللبناني المقيم على الإنفاق، نتيجة تآكل الطبقة الوسطى واحتجاز الودائع المصرفية، ما دفع بالأولويات نحو تأمين الحاجات الأساسية”.

وفي إطار سعيها لنشر أجواء الفرح والترحيب بالوافدين لقضاء الأعياد في لبنان، أطلقت وزارة السياحة في 17 ديسمبر سلسلة احتفالات يومية بعنوان “لبنان أجمل هدية” في مطار رفيق الحريري الدولي، شملت تزيين أشجار الميلاد، وعروضاً موسيقية وترفيهية، وتبادل التمنيات مع “بابا نويل”، واستمرت الفعاليات حتى 23 ديسمبر.

حركة تجارية نشطة.. ولكن

في المقابل، فضّل عدد من اللبنانيين عدم السفر والبقاء في البلاد خلال موسم الأعياد. يقول هادي “رغم كلّ شيء، البلد نابض بالحياة. الأسواق مزدحمة، الأضواء تملأ الشوارع، والفرح موجود”. بالنسبة إليه، اجتماع العائلة في نهاية العام بات بحد ذاته إنجازاً.

يضيف: “فرحت بقدوم أشقائي من الغربة لنستقبل جميعاً السنة الجديدة. فرغم كل التحديات الاقتصادية والأمنية، هناك رغبة جماعية في الحفاظ على روح الأعياد وإظهار أن الحياة تستمر، وأن اللبنانيين قادرون على صناعة لحظات من الفرح وسط كلّ الظلام”.

وانعكس الزخم السياحي حركة تجارية ملحوظة، إذ ارتفعت بنسبة تقارب 25% في بيروت و20% في المناطق، فيما تراوحت نسب تأجير السيارات بين 80 و90%، وفق ما قاله شقير.

ويشرح عجاقة أن موسم الأعياد “يرفع حجم الإنفاق الاستهلاكي، إذ يناهز إنفاق السياح تقليدياً خمسة مليارات دولار سنوياً، ويتركّز خصوصاً في بيروت وكسروان والمتن”.

ويذهب الجزء الأكبر من هذا الإنفاق، كما يشرح، إلى “المطاعم، وتأجير السيارات، والمحال التجارية، مقابل حصة أقل لقطاع الفنادق، نظراً إلى إقامة عدد كبير من المغتربين في منازل عائلاتهم”.

كذلك يشير نزهة إلى أن “الحركة السياحية تبقى محصورة جغرافياً، في ظل الأوضاع الأمنية الصعبة في الجنوب والبقاع، إضافة إلى تأخر تساقط الثلوج الذي حدّ من النشاط السياحي الجبلي، مع استمرار معاناة البنية التحتية”.

واستجابة لارتفاع النشاط التجاري في موسم الأعياد، ودعماً للنشاط الاقتصادي الوطني، قررت إدارة واستثمار مرفأ بيروت تمديد ساعات العمل اليومية، بما فيها يوم السبت، حتى السادسة مساءً ولغاية نهاية عام 2025، بهدف تعزيز كفاءة الخدمات وتسهيل حركة الشحن والتخليص.

انتعاش موسمي؟

يوم الخميس الماضي، جال وزير الأشغال العامة والنقل فايز رسامني في مطار رفيق الحريري الدولي، مشيراً إلى وصول نحو مليون مسافر خلال الأشهر الثلاثة الماضية، ومؤكداً أن الاقتصاد اللبناني يعتمد على الاغتراب، ما يجعل التركيز على المطار أمراً حيوياً مع التطلع لإنشاء مطار ثانٍ مستقبلاً.

وأضاف إن الاغتراب يمثل قوة للبنان، داعياً لجذب المغتربين لزيارة أهلهم والاستثمار في البلاد، مشدداً على ألّا خلاص للبنان إلا بدولته وأجهزته الأمنية القوية.

لكن، يبقى السؤال الأهم: هل ما يشهده لبنان انتعاش موسمي عابر أم بداية مسار قابل للبناء عليه؟

يرى نزهة أن “أيّ تحريك للقطاع السياحي ينعكس إيجاباً على الاقتصاد ككل، باعتباره القاطرة الأساسية لبقية القطاعات ومصدراً لفرص العمل، لا سيّما لنحو 50 ألف طالب يعملون فيه”.

ويكشف عن عمل النقابة على إعداد تشريعات سياحية حديثة، والعمل على سياحة مستدامة، مؤكداً أن “لدى لبنان كلّ المقومات لذلك”، لكنه يشدد على أن السياحة “لا يمكن أن تزدهر من دون استقرار أمني وسياسي”.

أما عجاقة، فيشير إلى أن الدولارات التي تصرف في موسم الأعياد “تنشّط القطاعات الخدمية وتزيد السيولة النقدية، لكنها تخلق وظائف موسمية فقط، فيما يحدّ الاقتصاد النقدي من فعالية تحصيل الضرائب، باستثناء بعض الرسوم الأساسية كضريبة القيمة المضافة”.

تحويل هذا الزخم إلى مداخيل مستدامة، يتطلّب برأي عجاقة “استقراراً سياسياً وأمنياً، إلى جانب استراتيجية واضحة لجذب السياح والمغتربين على مدار العام، واستثمارات وإصلاحات شاملة في القطاع السياحي والاقتصاد ككل”.