في مايو/أيار الماضي، صعد على خشبة مسرح المياسة بمركز قطر الوطني للمؤتمرات، المؤلف والموسيقي اللبناني، عمر غدي الرحباني، ليقود أوركسترا قطر الفلهارمونية في ليلة استثنائية حملت عنوان “لبنانيات”. لم يكن الحفل مجرد استعادة لأغانٍ لبنانية كلاسيكية، بل تجربة موسيقية محمّلة بأسئلة فنية وجمالية، ومشروع يعيد طرح هوية الموسيقى اللبنانية بلغة أوركسترالية معاصرة.
ولد عمر الرحباني في بيروت عام 1989، وهو حفيد الراحل منصور الرحباني. لا يقف عمر في ظل الإرث العائلي فقط، بل يتعامل معه بوصفه أرضية انطلاق. يقول في حديث إلى “العربي الجديد”: “العرض لم يكن له دافع سياسي أو اجتماعي، بل كان قراراً فنياً بحتاً يتمثّل بمشاركة هذا الإرث مع العالم، وتوطيد العلاقة الثقافية مع المجتمعات الأخرى من خلال الموسيقى، كوسيلة أممية تتجاوز الحدود”.
في تلك الليلة مع “قطر الفلهارمونية”، عاد الجمهور إلى دفء الألحان التي صاغها كل من الأخوين رحباني وزكي ناصيف ووديع الصافي وملحم بركات، لكن هذه العودة لم تكن ماضوية؛ إذ وزّع عمر هذه الأعمال بأسلوبه الشخصي، وخلق من خلالها خيطاً يربط الأجيال: “اختيار الأغاني كان شخصياً وعاطفياً… الأغاني التي أثارت بي مشاعر حقيقية، ووجدت فيها إمكانية لتطويرها ضمن إطار أوركسترالي جديد”. ويؤكد أن العرض لم يتّبع خطاً سردياً واحداً، بل حمل روحاً جامعة للمراحل الموسيقية المختلفة التي مرّت بها الموسيقى اللبنانية.
تمثّل التحدي الذي واجهه الرحباني في الدوحة في كيفية إيصال ربع الصوت إلى موسيقيين من ثقافات مختلفة: “العمل مع الأوركسترا القطرية كان فرصة للتلاقي الثقافي… لكن كان من الضروري أن أكون دقيقاً جداً في كتابة الأجزاء الشرقية، خصوصاً المقامات، كي تُفهم وتُنفّذ بروحها الصحيحة”.
هذا النوع من الاشتباك بين الهوية والتقنية يُشكّل جوهر تجربة عمر الرحباني؛ إذ يرى أن التكرار لا يعنيه، بل يسعى إلى تطوير موسيقى بلاده: “كما فعل باخ وبيتهوفن حين أعادا استخدام تيمات بأساليب متجددة، أبحث عن تطوير الموسيقى اللبنانية من جذورها، من دون نسخ أو اجترار”.
لكن ماذا يعني أن تكون فناناً يحمل إرثاً عائلياً بهذا الثقل؟ بالنسبة له، الإرث ليس عبئاً، بل مسؤولية جمالية وتاريخية: “الإرث الرحباني يجب أن يُثبت لبنانياً وإقليمياً وعالمياً… كما تفعل الأمم الكبرى حين تثبت رموزها الثقافية في وعي الشعوب”. لذلك يسعى إلى بناء هويته الفنية بوعي وحدس في آن: “الهويّة لا تُمنح بل تُبنى، وأنا أستند إلى حدسي لأصوغ صوتي الخاص ضمن الموجة المعاصرة”.
وقد لا يكون غريباً أن تصاغ هذه الهوية في الطفولة، فبيت الرحابنة لم يكن بيتاً عادياً، بل مشغل فني متكامل. يتذكر الرحباني: “الموسيقى كانت لغة البيت، من البيانو إلى الاستديو والمسرح… وهذا ما زرع في داخلي شغفاً دائماً بالبحث والتجريب”.
من هذا المعين، انطلقت رؤيته لتوسيع حدود الموسيقى العربية. لا يرى نفسه مجرّد وريث، بل مجدد: “لم آتِ لأكرر، بل لأطور… متعتي الكبرى هي لحظة اكتشاف فكرة موسيقية جديدة تخرج عن المتوقع”. وهو لا يخشى التجريب، بل ينفتح على أنماط مثل الجاز والباروك والإيقاعات اللاتينية، ويمزجها ببنية لبنانية واضحة: “ذوقي يتطور باستمرار… لكن ما يربطني بهويتي هو ما تبقى في الصوت من أثر لبناني أصيل”. ولأن الكلمة قد تُقيد، يجد في الموسيقى الآلية وسيلة أكثر صدقاً للتعبير: “أحب الشعر وأقدّره، لكن الكلمات تحمل دلالات جاهزة… الموسيقى تتيح لي إيصال الشعور من دون وسيط”.
في زمنٍ تتسارع فيه الإيقاعات، هل يمكن للجذور أن تواكب العصر؟ يجيب عمر الرحباني بثقة: “لا تزال علوم الباروك تُستخدم حتى اليوم في الأغاني المعاصرة، وهذا يثبت أن العمق لا يشيخ بل يتجدّد”. ويرى أن للموسيقى اللبنانية مكاناً على الخريطة العالمية، شرط أن تُخاض التجربة بجرأة وتراكم: “هذا يتطلب وقتاً، وتكرار المحاولة، ومواجهة الأخطاء. وأنا جزء من هذا الجهد”.
عمر الرحباني لا يفصل بين المحلية والعالمية: “الموسيقى الجيدة تفرض حضورها… سواء قُدّمت في بيروت أو برلين، الجمهور ينجذب إلى الحقيقة”. أما الأحداث التي مرّ بها شخصياً، كحادث السير وانفجار بيروت، فقد تحولت إلى مادة إبداعية: “التأمل يولد من الصدمة، وأنا أؤمن بأن للموسيقى دوراً براغماتياً في التغيير والتحسين”.
وفي ما يخص علاقته بالفنون الأخرى، يقول: “أشتغل على عمل يجمع المسرح والموسيقى والكتابة والإضاءة… نحتاج إلى لغة متعددة الوسائط تعبّر عن الإنسان المعاصر”. يضيف: “أعمل على مشروع صيفي يؤسس لجسر عبور من الجو الرحباني إلى صوت جديد”. هذا المشروع الجديد ليس مجرد تجربة صوتية، بل محاولة لبناء معادلة موسيقية حديثة: “أعمل على مؤلف موسيقي كامل، أؤلفه وأخرجه بنفسي… هو مرحلة أولى للبحث عن لغة صوتية جديدة”. يطمح إلى بناء مؤسسات حقيقية للموسيقى العربية: “جزء من رؤيتي أن أشارك في تأسيس أوركسترات ومراكز أبحاث موسيقية عربية… تحتاج إلى بنية تحتية واستدامة”.
لكن في النهاية، تبقى الموسيقى عنده لحظة أمل: “كل ما أتمناه بعد العرض، أن يشعر الجمهور بنفس اللحظة التي شعرت بها عندما ألفت… تلك لحظة نقية، لحظة ولادة صوت”.
عند الحديث عن الذكاء الاصطناعي، لا يتردد عمر الرحباني في الإشارة إلى تحوّله من أداة تقنية إلى محفز فكري: “كما أثرت الكاميرا على الرسامين، الذكاء الاصطناعي سيؤثر علينا… وأراه تطوراً يدفعنا إلى اكتشاف أدوات جديدة”. ويعترف: “لم أستخدمه بعد، لكني لا أخاف منه… ما يهمني هو صوت الإنسان وأفكاره ومشاعره وطموحاته”. ويؤمن بأن المؤلف المتمرس يعرف كيف يوظف التقنية لخدمة التعبير الإنساني: “الذكاء الاصطناعي لا يلغي الفن، بل يستفز الفنان… لا كمال في الفن، وهذه هي عظمته”. لكنه يقر أيضاً بأن الروح لا يمكن برمجتها: “النية لا تُستخرج من خوارزمية، بل من إحساس بشري أصيل”. حتى إن ظهرت أدوات تصنع موسيقى كاملة، فإنها لن تحل محل الإنسان: “قد نشهد ملحنين افتراضيين… لكن الفن الإنساني الحقيقي سيبقى ما يصنع الفرق”. أما لو طوّر أداة بنفسه، فسيختار أن تكون عوناً لا بديلاً: “أتخيل أداة تقيس لي مهاراتي، تقيّم خياراتي، تقترح لي، ولكن لا تقرر بدلاً مني… لأن متعة التأليف تكمن في الغوص داخل المجهول”.
بهذه الروح، يمضي عمر الرحباني في مشواره؛ موسيقي لا يخشى الضجيج، بل يصغي إليه ليعيد تركيبه، ويمنحه نغمةً جديدة تتنفس من جذورها وتطل على العالم. لكن في النهاية، تبقى الموسيقى عند عمر الرحباني لحظة أمل: “كل ما أتمناه بعد العرض، أن يشعر الجمهور بنفس اللحظة التي شعرت بها عندما ألفت… تلك لحظة نقية، لحظة ولادة صوت”.