تكشف معها خيوط الحكاية التي لم تُكتَب بعد، حيث تسرد بحسٍّ صادق وشغف لا يخبو تفاصيل مشوارها الطويل، منذ خطواتها الأولى في “مدرسة المسرح الكويتي” حتى لحظة حضورها في جائزة “الدانة للدراما” بالبحرين بنسخته الثانية. في هذا اللقاء الحصري مع جريدة «البلاد»، تتحدث مريم الصالح بصراحة وجرأة عن كواليس زمن الفن الجميل، عن معاركها خلف الكواليس، عن انكسارات وانتصارات، عن واقع الدراما اليوم، وماذا بقي من “الجيل الذهبي”. سنأخذ القارئ إلى ما وراء الأضواء، إلى لحظات الصمت التي كانت تصرخ بالإبداع، إلى قرارات مصيرية شكّلت مسيرتها، وإلى وجهٍ آخر للفنانة التي أحبها الناس على الشاشة، لكنها تخبئ الكثير خلف الابتسامة الواثقة.
* بعد 15 سنة من غيابك عن البحرين، الدانة للدراما جمعتك بمحبينك هنا من جديد؟
“غبت عن البحرين سنوات طويلة 15 سنة لم تطأ فيها قدماي هذه الأرض الطيبة. واليوم من لحظة وصولي إلى المطار، شعرت وكأنني أدخل إلى عالم جديد. مبانٍ شامخة، مجمعات حديثة، وكل شيء تغيّر للأجمل. البحرين كانت جميلة وأصبحت أجمل بأهلها ومن نحب فيها.
* أول امرأة تعتلي خشبة المسرح في الستينات كيف واجهتي التيار المخالف؟
“كنت فتاة في الرابعة عشرة من عمري، لم أكن امرأة بالمعنى الناضج، بل طفلة شغوفة بالمسرح منذ أيام المدرسة. وقتها، كان من العيب أن تقول فتاة إنها تحلم بأن تكون ممثلة، كنت أقول: أريد أن أصبح طبيبة أو معلمة، خشية العيب والخوف من نظرة المجتمع”. طرقت وزارة الشؤون الاجتماعية بنفسي، من دون علم أهلي، مستخدمة هاتفًا لجيراننا، لأننا لم نكن نملك هاتفًا في المنزل. قلت لهم إنني أحب التمثيل، ومثّلتُ في المدرسة، ومن هنا بدأت الحكاية”.
* ماذا عن المفارقة التي صنعت لك التاريخ من خلال والدك المتشدد؟
“بعكس ما هو متوقع، والدي هو من شجعني، رغم أنه كان يحفظ القرآن ويبدو عليه التشدّد، لكنه لم يكن يعرف ما هو المسرح. أما والدتي، فاعترضت بشدة، وقالت لي: (تروحين تشتغلين مع رياييل) فذهبت وأنا أرتدي العباءة والبوشية، وكأنني أخوض معركة شرف”.
* في بداياتك لم يكن المسرح مكانًا رحبًا كيف واجهتي السخرية والتنمر؟
بعض الناس كانوا يرموننا بالطائرات الورقية ويسخرون منا نحن من أوائل من صعدوا على المسرح أمام طلاب المدارس الثانوية في الكويت، وكانوا يسخرون منا ويرموننا بالطائرات الورقية، والشتائم تُقال علنًا. أذكر أن زوزو حمدي الحكيم كانت معنا، ووقفت في وجههم: (إحنا جايين نقدملكم فن ولا مش عاجبكم؟)، ومن هنا تعلمت الجرأة في المواجهة مثلها”.
* ما هي اجمل الذكريات مع الفنانة الراحلة مريم غضبان وماذا كانت تعني لك؟
كانت كأخت لي بصورة حقيقية، وتوأمتي في الأعمال الناجحة وإن لم نكن من نفس الدم. علاقتي بها لم تكن مجرد زمالة مهنية، بل رافقتني منذ لحظة انطلاقتي الفنية.
اتذكر أول سفرة لي خارج الكويت كانت إلى مصر عام 1964 والتي لا أنساها أبدًا. كانت رحلة ”مجنونة“، سافرت معها على حساب جمعية الفنانين. وكنت نحيفة جدًا، وزني لا يتعدى 45 كيلو، ومريم كان وزنها فوق الـ 200، المصريون اطلقوا علينا الكثير من التعليقات مثل: “السبع فندي والهانم جاية”، كأننا ثنائي فكاهي على المسرح، الضحك كان يحيط بنا من كل مكان، وحينها مريم انحرجت كثيرا، وجلست في الفندق أيام بدون أن تخرج، كأنها دخلت عزلة من شدة الإحراج. لكن لاحقًا، تجاوزنا الموقف، وصرنا نضحك عليه كلما تذكرناه.
* وذكريات اخرى؟
أحد المواقف التي لا أنساها، وكان بطلها الفنان الراحل خالد النفيسي. رغم طيبته الكبيرة، كان لديه جانب حاد، فيه شيء من السادية أحيانًا. في أحد المشاهد، صفع زميلتنا صفعة حقيقية، بكل قوته، حتى طبع أصابعه على خدها، المسكينة كانت تبكي من الألم الحقيقي، لا من التمثيل. وقتها، المخرج كان زوجي حسين الصالح، فصرخ: “أوقفوا التصوير”، ورفض أن يُكمل المشهد. الموقف كان صادم، لكنه واقعي.
* وهل سبق أن تعرّضتِ للصفع من خالد النفيسي؟
كنت الوحيدة التي لم يجرؤ على صفعها. وكان يقول دائمًا: “والله ما أقدر ألمسها”، وأظنه كان يعرف أنني لا أقبل أبدًا أن يُتجاوز عليّ بأي شكل. كان بيني وبينه احترام، وكان يحسب حسابي.
أتذكر مع مريم غضبان موقف لا يُنسى عندما كنا نصوّر مشهدًا مع قماشة، فقررنا عمل مقلب. أضفنا كمية هائلة من الملح في الأكل، ومريم ذاقت اللقمة، وانفجرت من الضحك حتى سقطت على الأرض، وأنا، دون تفكير، ركبت فوقها من شدّة الضحك وحاولت تلفّني بـ(فوطتها)، كأننا في حلقة كرتونية، كدنا نختنق من الضحك، وأعدنا المشهد أكثر من خمس مرات لأننا لم نستطع التوقف.
* ما رأيك في الجيل الفني الجديد؟ هل تتابعينهم؟
بصراحة؟ فيهم الزين وفيهم ”الخربوطة”، نحن كنا نحترم النص، نقرأه كاملًا، نكتبه بخطّ يدنا، نحفظه، نفهم أبعاده… الآن؟ الممثلة تفتح التلفون في موقع التصوير، وتقرأ الدور من الشاشة، لا تحمل ورقة، ولا تسأل حتى عن السياق
رغم ذلك هذا الجيل يصنع الفارق وأقول لهم دائمًا: “أنتم عباقرة؟ حفظ النص مو كل شيء” التمثيل إحساس، روح، وصدق، وإذا فقد الفنان تلك الروح، فهو آلة، لا فنان.
* نعود إلى مستودع الذكريات مع الفنان الراحل علي المفيدي؟
كان فنانًا حقيقيًا. لا أحد يشبهه، طيب القلب، كريم النفس، خصوصًا مع أحفاده. في الأعياد، وكانوا ينتظرون لقاءه، لأنهم يعرفون أن معه دائمًا محبة. لم يكن يعطيهم المال فقط، بل كان يمنحهم حضنًا مليئًا بالحياة. علي المفيدي من زمنٍ آخر زمن نظيف لا ولن يتكرر.
* هل تظنين أن ذلك الزمن قد انتهى؟
لم ينتهى بل تغيّر، القلوب تغيّرت. العلاقات أصبحت مصطنعة أكثر. المسرح باقٍ، والفن لا يموت، ولكن الناس تغيّرت. أصبح كل شيء سريعًا، مستهلكًا، بلا صبر ولا تعمّق.
الجمهور الواعي – وهو موجود – يميز. يعرف من يُضحكه بصدق، ومن يسرق منه الضحكة. يعرف من يعيش الدور، ومن “تُمثّل عليه الدنيا”… بدون أن يملك من الفن شيئًا.
* وأنت اليوم على عتبة تاريخ من المجد الفني كلمة توجهيمها لجمهورك؟
محبة العالمين كنز ثمين شكرًا لأنكم ما زلتم تحبوننا، رغم بريق الجيل الجديد. وشكرًا لأنكم تحبون الفن الحقيقي وتقدرونه ، وليس الوجوه التي تمثل بدون روح، الفن الحقيقي يعيش فيكم وفينا، لا ينتهي، وأنتم مرآته.
تنبه صحيفة البلاد مختلف المنصات الإخبارية الإلكترونية الربحية، لضرورة توخي الحيطة بما ينص عليه القانون المعني بحماية حق الملكية الفكرية، من عدم قانونية نقل أو اقتباس محتوى هذه المادة الصحفية، حتى لو تمت الإشارة للمصدر.
