علي عبد الرحمن
في صباح الحادي والعشرين من يونيو عام 1905، وُلد في باريس طفلٌ حمل عبء القرن العشرين بأكمله على أكتافه، طفلٌ لم يكن مولده عابراً في التاريخ، بل كان بداية لثورة فكرية هائلة أعادت تشكيل المفاهيم الإنسانية عن الحرية والوجود والذات.
هو «جان بول سارتر»، الفيلسوف، والروائي، والمثقف الثائر، والذي لم يكن مجرد اسم في سجل التاريخ، بل كان تجربة حية تقترب من السؤال الأكثر جوهرية: ما معنى أن تكون إنساناً؟
ولادة سارتر لم تكن بداية قصة تقليدية، فقد نشأ في كنف عائلة من الطبقة المتوسطة في باريس، إلا أن غياب الأب في سنواته الأولى فتح باباً واسعاً للغموض والبحث الداخلي، ترك الطفل الصغير أمام وحشة ذاتية باكرة قادت إلى تساؤلات عميقة عن الهوية والوجود، فقد كان وجوده مُبكراً خاضعاً لرصد التجربة الإنسانية من الداخل، كما لو كان يتلمس طريقه في متاهة الحياة مع كل نبضة من وعيه.
تربّى سارتر تحت رعاية جده الطبيب، رجل العلم والفكر، الذي فتح له أبواب المعرفة والتساؤل، إلا أن المعرفة بالنسبة لسارتر لم تكن غاية في ذاتها، بل كانت جسراً عابراً صوب طرح سؤال أكبر: ما هي الحرية في عالم ينهار تحت وطأة الحرب والعنف؟
سنوات الحرب العالمية الأولى ليست مجرد لحظة تاريخية عابرة في حياة سارتر، بل كانت زلزالاً فكرياً أعاد تشكيل كل شيء في عينيه، وزرع في روحه بذور فلسفة الوجود التي ستتحول لاحقاً إلى منارة للفكر الحداثي.
رؤية متفردة
عند بوابة جامعة السوربون، حيث اندمج سارتر في بحور الفلسفة، لم يكن يبحث عن حقائق جامدة أو معارف تقليدية، بل كان يضمر في داخله نضجاً نادراً على البحث في قلب الوجود، وتأثر بسلسلة من المفكرين الكبار، بدءاً من إدموند هوسرل الذي أرسى أسس الفينومينولوجيا، مروراً بمارتن هايدغر الذي استدعى تجربة الوجود بعنف، إلا أن سارتر كان يملك رؤية متفردة، مختلفة، فكراً أكثر راديكالية.
الإنسان، حسب سارتر، هو ذاك الكائن الذي يُجبره الوعي على اختيار ذاته في كل لحظة، ليصنع ذاته عبر أفعاله، ولا يملك مفراً من حمل عبء هذه الحرية. هذه الحرية ليست هبة فقط، بل هي عبء الوجود بأكمله، العبء الذي يشكل مصدر التميز، ولكنه في الوقت ذاته مصدر القلق الوجودي، والإنسان في فلسفة سارتر هو ذلك الهاجس الذي لا يهدأ، ذلك الوجود الذي لا يرضى بالجمود.
لم يكن سارتر مجرد فيلسوف جافّ النظريات، بل كان روائياً يحول الفلسفة إلى تجربة إنسانية ملموسة، وروايته الشهيرة «الغثيان» لم تكن مجرد قصة، بل كانت رحلة في أعماق الذات، حيث الاغتراب والإغماء من ذاته والعالم، حيث الوعي يكتشف فجأة عبثية الأشياء التي كانت تبدو مألوفة.
البطل في الرواية يعاني من تجربة غريبة، «الغثيان» ذلك الشعور بالغربة العميقة تجاه ذاته والوجود، والذي يكشف عن فجوة هائلة بين الإنسان والعالم. هذه الرواية، ببلاغتها العميقة، هي تجسيد لما يمكن أن نسميه «الأزمة الوجودية»، لحظة سقوط الإنسان في مواجهة ذاته المطلقة، حيث الحرية تتحول إلى عبء والفردية إلى عزلة قاتلة.
والأدب هنا ليس مجرد سرد، بل هو فعل فلسفي، يطرح الأسئلة ويوسع دائرة الوعي ليشمل القارئ في دائرة الوجود، وسارتر بدمجه الفلسفة بالأدب أطلق صرخة وجودية تحرر الإنسان من قيود الجوهر الموروث، لكنه في الوقت ذاته جعله يعاني مسؤولية صنع ذاته.
شراكة فكرية
لن تُفهم فلسفة سارتر في عزلة عن تجربته مع سيمون دو بوفوار التي لم تكن مجرد رفيقة حياة، بل شريكة فكرية في بناء مشروع الحرية والوجود. العلاقة بينهما كانت مسرحاً لحوار عميق بينهما، كما أن هذه الشراكة الفكرية مهدت الطريق لفهم جديد للحرية لا يشمل الفرد وحده، بل يشمل علاقته بالآخر وبالمجتمع.
وفي لهيب الحرب العالمية الثانية، لم يكن جان بول سارتر مجرد شاهد على انهيار العالم القديم، بل كان كائناً يقظاً في صلب العاصفة، يتنفس عبء الحرية ويكتب تحت وقع القنابل، وانخرط في المقاومة الفرنسية لا كمنظّر معزول، بل كفاعل يعتقد أن الفكر الذي لا يُمتحن في صخب التاريخ هو فكر ميت. وحين أسّس مجلة «الأزمنة الحديثة»، لم تكن مجرد منصة فكرية، بل مرآة مشروخة للعصر، تفضح تناقضاته، وتُلحّ على سؤال الالتزام، ودعا من خلالها إلى أن يكون المثقف كائناً في قلب الحدث، لا طيفاً معلقاً في برج عاجي، أن يتحوّل الفكر إلى موقف، والكلمة إلى فعل، وأن تصبح الكتابة في ذاتها مواجهة، لا ملاذاً.
نوبل والرفض
في خريف عام 1964، حين أعلنت الأكاديمية السويدية فوز جان بول سارتر بجائزة نوبل في الأدب، خُيّل إلى العالم أن الفيلسوف قد بلغ ذروة التقدير لكن سارتر، بعين المتأمل في فخاخ الرموز، رأى ما لا يُرى تحت لمعان الذهب قيداً ناعماً يُطوّق الفكر، ويحوّل الحرية إلى احتفاء مؤسسي، رفض الجائزة، لا بوصفه فعلاً استعراضياً، بل إعلاناً وجودياً بأن الفكر لا يُقيَّد حتى حين يُكرَّم، وأن الكاتب الذي يؤمن بالتمرد لا يُسلِّم صوته لمن يريد تطويعه في مسرح الألقاب.
لم يكن مارتن هايدغر بالنسبة إلى سارتر مجرد رائد فلسفي، بل أشبه بمفتاح غامض لدهاليز الكينونة، وتأثر سارتر به في شبابه، لا سيما في تأكيده على ضرورة إعادة مركزية الإنسان في التفكير، ككائن واعٍ.
