نداء الوطن

    أنطونيو رزق

    نداء الوطن

    شكّل سقوط نظام الأسد بداية مرحلة مفصليّة في تاريخ كرد سوريا توازي أهمية بالنسبة إليهم مرحلة الحرب العالمية الأولى التي ترجمت إقليميًّا باتفاقية “سايكس بيكو”، إذ إنّ هروب بشار الأسد وتولّي أحمد الشرع زمام السلطة بالتوازي مع ضعف النظام الإيراني وتضعضع أذرعه، خلقت فرصة تاريخية للمعسكر الدولي والإقليمي المناوئ لطهران الذي تتزعّمه واشنطن لإيجاد واقع جديد في سوريا يجعلها عامل استقرار في المنطقة، الأمر الذي أعاد طرح المسألة الكردية على بساط البحث، خصوصًا بعد اللقاء الذي جمع الأسبوع الماضي الرئيس الشرع وقائد “قسد” مظلوم عبدي برعاية وحضور المبعوث الأميركي إلى سوريا توم برّاك، الذي أكّد إثر الاجتماع عدم تحقيق أيّ اختراق والحاجة للوقت لبناء الثقة بين الطرفين، لكنّه أرسى معادلة “دولة واحدة، أمة واحدة، جيش واحد”، حاضًا الكرد على التفاوض مع دمشق على صيغة اندماج “محترمة”.

    يأتي ذلك بعدما استطاع كرد سوريا خلال الحرب الأهلية، بناء إدارة سياسية واجتماعية واقتصادية وجيش مدرّب ومختبر ومدعوم أميركيًا في شمال شرق البلاد، فيما يتطلّعون إلى أن تكرّس التسوية النهائية طلاقًا مع النظام المركزي الذي شكّل أداة قمع وتهميش لهم منذ نشوء سوريا. لذا، تطالب “الإدارة الذاتية” بنظام فدرالي يحافظ على وحدة البلاد وفقًا للرغبة الدولية، ويمنح في الوقت عينه الأقليات العرقية والدينية حكمًا ذاتيًا يعتقها من محاولات الانصهار القسري بثقافة الغالبية الإسلامية العربية، كما تسعى إلى دمج “قسد” في الجيش السوري، لكن مع الحفاظ على وحدتها وعدم تذويبها في وحداته.

    إلّا أن الشرع يرفض البحث مع الكرد في مسألة الفدرالية ويصرّ على تذويب “قسد” في الجيش، بحيث جدّدت دمشق بعد لقاء الشرع – عبدي تمسّكها بمبدأ “سوريا واحدة، جيش واحد، حكومة واحدة”، ورفضها القاطع لـ “أيّ شكل من أشكال التقسيم أو الفدرلة”. ينطلق هذا الموقف من اعتبارات عديدة، أبرزها الأيديولوجيا الإسلامية التي ينهل منها المسؤولون السوريون الجدد والتي تنظر بصورة سلبية للتنوّع الثقافي، تمامًا كما كان ينظر البعثيون السوريون والعراقيون إلى هذا التنوّع كتهديد لـ “الوحدة” المسمومة التي كانوا يجاهرون بها، والتي ترجمت عمليًا بقمع الجماعات الثقافية ومحاولة صهرها قسرًا بثقافة الجماعة التي تسيطر على الدولة المركزية. بالإضافة إلى ذلك، جعل قرب حكّام سوريا الجدد من أنقرة، موقف دمشق أكثر تشدّدًا في رفض منح الكرد حكمًا ذاتيًّا، نظرًا إلى تخوّف أنقرة من انتقال “عدوى الفدرالية” إلى كرد تركيا.

    بالتوازي، لم يقدّم الشرع منذ تولّيه الحكم نموذجًا يشجّع الكرد على التخلّي عن استقلاليّتهم وقدرتهم على الدفاع عن أنفسهم، خصوصًا بعد المجازر الطائفية ضدّ العلويين التي أدمت الساحل، وقد أكّد تحقيق أجرته وكالة “رويترز” ضلوع فصائل مرتبطة بأعلى السلطات في دمشق فيها، فضلًا عن موجة العنف الطائفي ضدّ الدروز التي عصفت بالجنوب، الذي كاد يشهد سيناريو الساحل الدموي لولا تدخل إسرائيلي واضح وصريح. أمّا على المستوى السياسي، فرفض الشرع إشراك الكرد في عملية صياغة نظام جديد للبلاد قبل تسليمهم سلاحهم، وقد أبى حتى تعديل تسمية البلاد، متمسّكًا بـ “الجمهورية العربية السورية”. كما أنّ رفع العقوبات الغربية عن سوريا أزال أداة ضغط قوية على دمشق لتشكيل حكومة تشمل كافة المكوّنات السورية.

    يمثل التجاذب بين دمشق والكرد عقدة يجب أن تحلّ بالنسبة إلى واشنطن، التي تسعى إلى استغلال التحوّل التاريخي الذي طرأ في دمشق لتعزيز وضعيّتها ووضعيّة حلفائها في المنطقة، وترى أن الشرع، رغم ماضيه الجهادي، أظهر براغماتية غير متوقّعة تسمح بالتعامل معه على أساس المصالح المشتركة، خصوصًا في ظلّ المحادثات المباشرة وغير المباشرة القائمة بين سوريا وإسرائيل حول ترتيبات أمنية تمهّد لانضمام سوريا إلى نادي “اتفاقات أبراهام”. ولكنّ أميركا استثمرت مبالغ طائلة على مدّة طويلة لجعل “قسد” قوّة عسكرية مهمّة بهدف محاربة تنظيم “داعش” الإرهابي، الأمر الذي تمكّن الكرد من تنفيذه بفعاليّة كبيرة.

    يعتبر المراقبون أنّ تصريحات برّاك تشير إلى تبنّيه موقف دمشق ورفضه الفدرالية، لكنه أوضح أنه “قد ترغب كلّ الأقليات في بيئة فدرالية، لكن الأمر ليس متروكًا لنا، ولا يحقّ لنا أن نحكم على النقاشات الفكرية”، مشدّدًا على “ضرورة عدم فرض شكل الحكم من الخارج في سوريا، أو بطريقة دمج وحماية حقوق الأقليات”. ينطلق موقف برّاك، إلى جانب الاعتبارات الجيوسياسية لواشنطن، من النظرة السلبية جدًّا السائدة في إدارة ترامب إلى فلسفة “المحافظين الجدد” التي ترجمت في حربَي أفغانستان والعراق وما تلاها من صياغة نظام جديد للبلدَين. لذا، من المستبعد أن يتدخل برّاك في ما يقرّره السوريون على مستوى النظام السياسي، مكتفيًا بحضّ الكرد على التوصّل إلى تسوية مع دمشق. كما من المرجّح أن يكثّف جهود التوسّط بين الطرفين لإيجاد صيغة محدّثة للاتفاق الموقّع في آذار الماضي بين الشرع وعبدي.

    بالتزامن مع تصريحات برّاك، تساءل البعض عن إمكانية تخلّي أميركا عن “قسد” في حال لم تتمكّن من الوصول إلى أرضية مشتركة مع دمشق، لكن باستثناء تصريحات برّاك التي كانت حادّة بعض الشيء تجاه “قسد”، ليس هناك أي إشارة إلى جدّيّة هذه الفرضيّة، إذ إنه على سبيل المثال لا الحصر، طلب البنتاغون أخيرًا تخصيص 130 مليون دولار في موازنة العام المالي 2026 لدعم “قسد” وفصائل سورية أخرى، كما أن برّاك نفسه أكّد أهمية “قسد” في محاربة الإرهاب وضرورة أن تأتي التسوية النهائية لوضعيّتها بصورة تحترم التضحيات الكبيرة التي قدّمتها. لذا، تخلّي أميركا عن “قسد” ليس واردًا، على الأقلّ في المدى المنظور، بينما سيضطرّ الكرد إلى خوض معركة النظام السياسي مع دمشق، الأمر الذي قد يؤدّي إلى ضغط عسكري من تركيا والميليشيات السورية الموالية لها على “قسد”.

    يعيش كرد سوريا لحظة تاريخية تحمل في طياتها الكثير من الآمال والكثير من المخاوف، لكنّهم أمام فرصة نادرة لفرض واقع جديد قد يؤسّس لمقاربة جديدة للأنظمة السياسية القائمة في المنطقة. فرغم اعتبار برّاك أن “سايكس بيكو” تدخل خارجي “قسّم” المنطقة، الحقيقة هي أنّ مشكلة الاتفاقية كانت أنها لم “تقسّم” المنطقة بشكل كاف، بحيث زجّت الكرد بدول عدّة مع جماعات لا يتشاركون معهم في أي شيء، لكن في ظلّ الرفض الدولي لإعادة النظر في حدود دول المنطقة، يبقى خيار الفدرالية الأكثر واقعية وانسجامًا مع تطلّعات الكرد.