رغم التقدّم الذي أحرزته باكستان في مجالات عدّة، مثل العلوم والتقنية والدفاع والتجارة، لا يزال المجتمع الباكستاني محكوماً بأعراف وتقاليد صارمة، تفرض قيوداً قاسية على بعض الفئات، من أبرزها فئة الفنانين والفنانات. ففي كثير من المناطق الريفية والقبلية ذات الطابع المحافظ، لا يُنظر إلى الفن بوصفه وسيلة للتعبير أو أداة للإبداع، بل يُعَدّ وصمة عار، أو حتى خروجاً عن القيم الأخلاقية والتقاليد “المقدّسة”، ما يحمّل العاملين والعاملات في مجالات مثل التمثيل والأزياء أثماناً باهظة، تصل أحياناً إلى فقدان الأسرة والعلاقات الاجتماعية، أو الصحة النفسية، بل والحياة نفسها.

تجددت النقاشات حول هذه القيم الاجتماعية المتجذّرة، عقب حادثة مأساوية هزّت الشارع الباكستاني، تمثّلت بالعثور على جثمان الممثلة وعارضة الأزياء حميرا أصغر داخل شقتها في مدينة كراتشي، العاصمة الاقتصادية للبلاد، والتي تُعد مركزاً حضرياً متعدّد الثقافات والإثنيات. عُثر على الجثة في السابع من يوليو/تموز الجاري، وهي في حالة تحلّل شبه كامل، ما صعّب إجراء الفحوصات الطبية اللازمة لتحديد سبب الوفاة بدقة.

بدأت فصول القصة تتكشّف بعدما تخلّفت حميرا أصغر عن دفع إيجار شقتها منذ أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي. حاولت صاحبة الشقة مراراً التواصل معها من دون جدوى، إذ كانت جميع أرقام هواتفها مغلقة. وبعد مماطلة الشرطة في التدخل، بسبب غياب إذن قضائي، اضطرت المالكة وزوجها إلى اللجوء إلى المحكمة التي أصدرت قراراً يجيز للشرطة فتح الشقة بالقوة. وعندما فُتح الباب، صُدم الجميع من هول المشهد: جثة متحللة بالكامل، لم يتبقّ منها سوى العظام، وسط رائحة كريهة خانقة، دفعت الحاضرين إلى مغادرة المكان فوراً. وبعد الفحوصات الأولية، رجّح الأطباء أن الوفاة وقعت في أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي.

لكنّ المفاجأة الكبرى جاءت عندما تواصلت الشرطة مع عائلة الفقيدة، فقوبلت بالرفض التام للتعاون. إذ رفضت الأسرة تسلّم الجثة، ورفضت الإدلاء بأي معلومات أو المشاركة في التحقيق، بل صرّح والدها – وهو ضابط متقاعد في الجيش – بأنّه قطع علاقته بابنته منذ سنوات، ولا يريد أي صلة بالقضية. هذا التجاهل والبرود في التعامل مع وفاة ابنتهم أثارا صدمة عارمة في المجتمع الباكستاني. ورغم محاولات الشرطة والحكومة المحلية إقناع الأسرة بتسلّم الجثمان ودفنه، أصرّت الأسرة على الرفض، إلى أن قرّر شقيقها أخيراً المشاركة في مراسم الدفن التي أشرفت عليها دائرة الثقافة والفنون في كراتشي.

أثار ردّ فعل الأسرة تجاه القضية جدلاً واسعاً، ربما فاق في تأثيره وقع الحادثة نفسها. في هذا السياق، أشارت الكاتبة والناشطة الاجتماعية نسرين كومل، في تصريح لـ “العربي الجديد”، إلى أنّ المجتمع الباكستاني بأسره مصدوم من هذه القصة المؤلمة. وروت أنّ حميرا أصغر كانت شابة مثقفة، حاصلة على درجة الماجستير في الفنون والثقافة، وتنتمي إلى أسرة ذات انضباط عسكري، إذ إنّ كلا والديها متقاعدان من الجيش، لكنها كانت تؤمن بموهبتها الفنية، وقررت الاستقلال والعيش بمفردها منذ عام 2018.

وترى نسرين كومل أنّ الأسرة أصبحت أكثر تشدّداً بمرور الوقت، وبدأت تضغط على أصغر لترك الفن و”العودة إلى القيم الأسرية”، لكن الأخيرة اختارت المضيّ قدماً في طريقها، وقطعت علاقاتها تدريجياً حتى مع والدتها التي كانت الأقرب إليها. وأضافت أنّ حميرا أصغر عانت من مشكلات نفسية، وحاولت التغلّب عليها من خلال ممارسة الرياضة والطهو، وكانت تنشر محتوى بهذا الخصوص عبر الإنترنت، قبل أن تختفي تماماً قبل نحو عام. وأفاد جيرانها بأنهم كانوا يسمعونها تبكي أحياناً بصوت عالٍ، ما يدلّ على معاناة داخلية شديدة، خصوصاً بعد انقطاعها عن أسرتها بشكل كامل.

وهذه الحادثة ليست الأولى من نوعها في باكستان. فقد سبقتها واقعة مشابهة، تمثلت بوفاة الممثلة عائشة خان في 17 يونيو/حزيران الماضي، داخل شقتها أيضاً في كراتشي، وعُثر عليها بعد أسبوع من وفاتها، عقب شكوى الجيران من رائحة كريهة. ولم يُعلَن سبب الوفاة رسمياً، لكن التقارير أشارت إلى معاناتها من عزلة اجتماعية وسوء معاملة من أقاربها بسبب عملها الفني.

ومن أشهر القضايا في هذا السياق، مقتل الممثلة قنديل بلوش على يد شقيقها عام 2016، بدعوى أنها “جلبت العار” للعائلة، إذ أطلق النار عليها وأقرّ بجريمته، لكنه أُفرج عنه لاحقاً بعد “الصفح العائلي”، وسط تعاطف مجتمعي مع القاتل.

وفي محاولة لمواجهة هذه الظواهر التي تهدّد حياة الفنانين وتُكرّس التمييز ضدهم، تقدّم الناشط شاه زيب سهيل بدعوى إلى المحكمة في كراتشي، يطالب فيها بفتح تحقيق شامل في قضية حميرا أصغر، إلى جانب قضايا مماثلة، معتبراً أن القضية تتجاوز كونها “وفاة طبيعية”، وقد تكون جريمة إهمال أو قتل. وأكّد ضرورة معاقبة كل من يساهم في نشر ثقافة الكراهية تجاه العاملين في المجال الفني، من أجل وقف هذه السلسلة المأساوية.