محمد عبدالسميع

يرى الفنان التشكيلي العربي ثيمة الحرب كمفردة قوية ضاغطة على الحسّ الإنساني ومؤثرة على المزاج الإبداعي العام، ومع أنّ روح هذه القراءة كانت واحدة، إلا أنّ الأساليب تنوّعت لتجسيد اللحظة القاتمة من وجهة نظر كل فنان، وبالمقابل تأكيد الحلم أمام بشاعة ورائحة هذه الحرب. وسوف نتجوّل تالياً في عدد من اللوحات التشكيلية والآراء الفنية التي تحمل فلسفة الفنان ومعالجته لهذه المفردة من خلال استخدامات اللون وما يحمله من دلالة صارخة على الدم، وبالمقابل نصاعة اللون الأبيض ورمزيته، ومنها رمزية حمامة السلام التي يرافقها غصن الزيتون لتشكيل أيقونة تدعو إلى السلم والطمأنينة والاستقرار.
وذهب الفنانون في هذه اللقاءات إلى التقاطات إنسانية وأحزان فنية بسبب ضياع الأعمال واللوحات الثمينة والمقتنيات في خضمّ الحرب والفوضى العارمة المصاحبة، كما ذهبوا إلى توليد الأفكار في التعامل مع هذا الحدث الطارئ والمستجدّ على حياتهم الإبداعية وحياة الناس، فمنهم من استفزّ الجانب الإبداعي والتعبيري لديه، ومنهم من أرّخ باللوحة لهذه الحرب، دون أن ينسى الفنان التشكيلي، باعتباره ضميراً وطنياً وإنسانياً، أن يبثّ لدى مجتمعه والناس روح الأمل والتفاؤل بالغد والسلام الآتي الجميل.
فكيف عبّر الفنان التشكيلي نفسه عن هذا الحدث وجسامته كمتغيّر مُقحم على حياتنا وأنفاسنا؟ بل وما هي رؤيته لهذه الحرب وكيف تعامل معها؟ باتجاهين: اتجاه الشجب والتنديد وتأكيد موقفه الثابت منها، واتجاه التعايش أو استغلال كامل المساحة المتاحة، حتى ولو بالتخيّل، والاستغناء عن المساحات السوداء وتبعات الحرب، بمساحات جديدة يكون فيها للناس الحضور الأكبر، باعتبار الناس على عموم تمنياتهم وشرائحهم الثقافيّة والاجتماعيّة، هم مطلب الفنان والأديب والعالم والمفكّر والأكاديمي، أو ما نسميهم في نهاية المطاف بالنخب الثقافيّة المؤثرة، والتي تعوّل عليها الأمم والشعوب آمالاً كبيرة في مجتمعات متحابّة متكافلة وقنوات إنسانيّة لا يكون للدم فيها سبيل، بل للحب والوئام والتعايش والحلم والغد الآتي والمستقبل الجميل المزنّر بأحلام الصبايا والشباب والبنات والآباء والأحفاد وهم يرون فلذات أكبادهم يحملون الرسالة الإنسانيّة ويملؤون الكون إبداعاً وروعةً وسلاماً إنسانياً شاملاً من دون تصنيف، بدلاً من تلاشي المساحات الخضراء في هذه الحياة.

تأكيد الهوية 
يقول الفنان التشكيلي المصري الدكتور طاهر عبدالعظيم إنّه ينظر في لوحاته الفنيّة إلى مفردة الحرب بمنظار المؤرّخ لها والموثق لأحداثها، ليس في عصرنا فقط، بل في عصور سابقة من وحي التاريخ وما يحمله هذا التاريخ من قصص وحروب وبطولات ومقاومة على تراب الأوطان، مفرّقاً بين حالتين، هما: الحرب التي تمثّل قتل كلّ جميل لدى الناس والاعتداء على أرضهم وتهديد أمنهم وحياتهم، وفي الجانب الآخر يحمل هذا المفهوم لديه شجاعةً وطنيةً في الوقوف أمام هذه الحرب، فتتفرّع نتيجةً لذلك من وجهة نظره مفردات الإرادة والتحرر والثبات والصمود، في تصوير لمآسي الحرب وبشاعتها، متناولاً كفنان تشكيلي مصري انتصارات بلاده وتاريخها، ومهتماً في الوقت ذاته بقيم الوطن ومنطلقاته وانتصاراته وقضاياه الوطنية التي يعمل الجميع لها. 

كما يذهب الفنان التشكيلي المصري عادل بنيامين إلى أهميّة القصص والأخبار والوقائع الوطنيّة في صياغة لوحة تشكيليّة تحمل هذه الأفكار التي سمعها في طفولته، فاختمرت في قلبه ووجدانه، ليعمل عليها مستقبلاً، كبطولات تستحق الاحتفاء والتوثيق الفني، بتقنيات إبداعيّة بطبيعة الحال، كما في لوحة «الشهيد»، ولوحة «الدبابات.. قطرات الماء»، وكلّ ذلك يؤكّد رسالة الفنان أمام واقع وطنه وأمّته، واحتفاله بانتصارات بلاده، وفي الوقت ذاته شجبه للحرب، كفنان إنسان يرفض القتل والدمار الذي تجلبه الحرب، فمعالجة الفنان عادل بنيامين لهذا الموضوع، وتسجيله الواقع والاحتفاء بالمفردة الوطنيّة، جانب من جوانب حضور الفنّ التشكيلي على طاولة السياسة والفكر والفرحة الوطنيّة، ولذلك فإنّ كلّ هذا عليه أن يترجم إلى أعمال فنيّة تشكيلية، لها شروطها الإبداعيّة، كعمل فنّي قابل لأن يتسع إلى آفاق جديدة.

الفوضى العارمة 
ويذهب الفنان الليبي معتوق أبو الراوي إلى أنّ الحرب مؤثّر قوي على مختلف الفنون الإبداعية ومنها الفن التشكيلي، بما تتسبب به من توقّف في أعمال الفن التشكيلي بعامّة، ففي الحرب، يؤكّد معتوق أنّ الفوضى العارمة والانفلات الأمني ومخاوف الناس، كلّها أمور تجعل من الفنّ التشكيلي معرضاً لأن يتوقف أو يتعرقل، لكنّه أبداً لا يمكن أن ينتهي أو يموت، باعتباره فناً ينقل نبض الحياة والناس والوقائع الجارية، ولذلك، فقد رسم الفنان معتوق أبو الراوي لوحاته، كانعكاس لهذه الظروف الناشئة بمرآة الحرب، فكانت عناوين لافتة لهذه اللوحات، من مثل «البعث»، و«فرشات وشهيد»، وغيرها، وجميعها تحمل معاناته إلى جانب الناس في الخوف على بلاده والأمل بواقع جديد.
من جانبه، يتحدث الفنان التشكيلي العراقي عبد مسلّم المرشدي عن تأثير الحرب والتغيرات السياسيّة على الفنّ التشكيلي والفنانين، مؤكّداً خطورة أن تسرق الأعمال التشكيلية والآثار والتحف في ظلّ الحرب، هذا فضلاً عن التدمير لهذه الآثار والمقتنيات. ويقول المرشدي: إنّ الدول التي تعاني من الحروب والدمار تعاني أيضاً من فقدان مستمر لعناصر تراثيّة تشكّل جزءاً لا يستهان به من هويتها التراثيّة الوطنية والإنسانيّة، حيث تعتبر الحروب بيئة خصبة للنهب والعزوف ربما عن الأعمال التشكيلية.

معاناة المرأة 
ويقول الفنان التشكيلي اليمني محمد سبأ: إنّ الحروب تؤثّر بالتأكيد على الفنون التشكيلية، ومن تأثيراتها أنّها جعلته يذهب إلى تجسيد معاناة الناس في الحرب، وتحديداً المرأة التي رسمها وهي تعاني الحرب وتتحمل مشاقّ هذه الحرب. ويضيف الفنان محمد سبأ أنّ المرأة في ظلّ الحرب تعاني عدم الاستقرار، مهتماً بأنّ المرأة رمز للأرض، ودائماً ما تجبرها الحرب على البحث عن الأمان والاستقرار، فهي حاضنة ومربية وحاملة للتراث بطبيعة الحال.

وتحمل لوحات الفنان السوداني صلاح المر مضامين متنوعة، وفيما يتعلق بالحروب، فقد جعلت الفنان المر يذهب إلى تصوير المآسي، واستثمارها في وقع تأثيرها على الطيور، بما تحمله الطيور من دلالة ومعنى، حيث جعلها دائمة العويل، تحت عنوان «عويل الطيور»، بل جعل اللون الأخضر يقوم بمقام كبير في لوحته المعنونة بـ «مجزرة الأشجار»، وفقاً للمعنى الذي يرمز إليه الشجر وهو الناس أو البشر. ومن هذا كلّه يقول الفنان صلاح المرّ: إنّ الفن التشكيلي هو وسيلة للمقاومة والتمسك بالأمل والسلام وبثّ العالم رسائل بما تجلبه الحرب على الجميع من دمار نفسي وقتل وتشريد وهموم.

شروق الشمس 
وأخيراً، تقول الفنانة المصريّة نادية سري، إنّ الفن يقوم بدور كبير في التعبير عنّا، لافتةً إلى ما حولنا من شجر، مهتمةً بحمامة السلام، كأيقونة مطروحة أمام الحروب التي تفتك بالبشريّة وتهدد وجودها، ولهذا، فإنّ الفنانة نادية سري ذات حلم كبير في التحليق والطيران في سماء الحريّة، وهذا كلّه يبدو شهياً على الرسم والتجسيد الفني. كما يتراءى في أعمالها الشروق وانتظارها له، وانتظار إشراقة شمس السلام والخير، وهو ما تجلّى في لوحتها التي حملت عنوان «في انتظار الشروق».

غصن السلام 
أمّا الفنانة التشكيلية المصريّة داليا نجم، فقد تناولت الحرب من جانب آخر، وهو جانب رومانسي حالم، حيث عمدت الفنانة إلى العمل على مفردات شجر الزيتون، بمدلولاته الجميلة، وكذلك الطائر، الذي أعطته في هذه اللوحة صفة «اللص»، وهو أمر خاص بالفنانة، إذ يبدو الطائر في أعمال أدبيّة ناصعاً بالبياض مثلاً، ولكنّ الفنانة داليا نجم عملت على جعله طائراً لصاً، تحت عنوان لوحتها «أشجار الزيتون والطائر اللص»، في تصوير الفتاة التي تجلس مطمئنّة بصحبة حصانها الوفي في بستان من أشجار الزيتون، حيث يعمد هذا الطائر اللص إلى إشاعة الرعب وخداع الحيوانات بأصوات مزيّفة لحيوان مفترس لإخافة الحيوانات، وليتنعّم هو بطعامهم، فيكون الجواد الشامخ الذي تمّ تصويره في اللوحة التشكيلية للفنانة قوياً بما يكفي أمام هذا الطائر اللص، وهكذا، فإنّ للفنانة أفكارها من وراء هذه اللوحة وعناصرها، والتي ربما تختلف عند فنانين آخرين.

تشكيل الوعي
ومثل ذلك يؤكّد الفنان التشكيلي الفلسطيني باسل العكلوك دور الفن التشكيلي واللوحة في نبذ آلة القتل والدمار، متخذاً من واقع الحركة التشكيلية الفلسطينية، مثالاً لما يعانيه الشعب الفلسطيني جرّاء ويلات هذه الحرب وتبعاتها، وسبباً في قوّة اللوحة وأثرها من خلال تصوير المآسي الناتجة والمستجدة، كون الفنان التشكيلي ليس منعزلاً عن قضايا بلاده، وفي الوقت ذاته يؤكّد العكلوك أهمية تشكيل الوعي من خلال اللوحة التشكيلية وتعزيز التمسك بالأرض والصمود عليها، وتوثيق ظروف الحرب وبشاعة الموت، ولذلك فهو يذهب إلى اللون الأحمر الحامل لمعنى الدم، كما يرسم الفنان العكلوك نبات الصبّار وما يشتمل عليه هذا النبات من مرموزات الصبر على الشوك والتحديات نحو بلوغ الأمل وتحقيقه في المستقبل.