الإمارات وروسيا: شراكة استراتيجية متعددة الأبعاد
في سياق تحولات جيوستراتيجية متسارعة تفرض على الدول إعادة تموضعها في خريطة العلاقات الدولية، تواصل دولة الإمارات العربية المتحدة انتهاج دبلوماسية نشطة قائمة على تنويع الشراكات وتعزيز المحاور الاقتصادية والسياسية. وتأتي الزيارة الرسمية التي أجراها صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس الدولة، حفظه الله، إلى روسيا الاتحادية، لتكرّس هذا التوجه الاستراتيجي، من خلال مباحثات رفيعة المستوى مع الرئيس فلاديمير بوتين، تمحوّرت حول تعميق الشراكة الاستراتيجية والتنسيق حيال ملفات إقليمية ودولية. وقد أكد صاحب السمو رئيس الدولة خلال الزيارة أن العلاقات الإماراتية الروسية تقوم على أسس راسخة من الثقة والاحترام المتبادل، وهي ليست وليدة لحظة سياسية أو مصالح آنية، بل تمتد لأكثر من خمسة عقود من التفاعل الدبلوماسي والاقتصادي، وهو ما يعكس تطوراً مستمراً في العلاقة يجعلها قادرةً على الصمود أمام التحديات الدولية المتغيرة.
وتكشف هذه الرؤية عن إدراك إماراتي عميق بأن تعزيز الشراكات الكبرى لا يُبنى على الانحياز أو الاصطفاف، وإنما على مرونة استراتيجية تجعل من المصالح المتبادلة قاعدة صلبة للتعاون المتعدد الأبعاد. وفي هذا الإطار، تشكّل الاتفاقيات الموقعة خلال الزيارة، وفي مقدمتها «اتفاقية تجارة الخدمات والاستثمار»، انتقالاً نوعياً في مسار العلاقات بين الإمارات وروسيا نحو بناء أطر مؤسسية أعمق تعزز قطاعات عالية القيمة مثل التكنولوجيا المالية، والرعاية الصحية، والخدمات اللوجستية. ويعكس هذا التوجه فهماً متبادلاً لأهمية الانتقال من علاقات تبادلية تقليدية إلى نماذج تكاملية تُنتج قيمة مضافة على مستوى الابتكار، والاستثمار، والنمو المستدام. كما أن توقيع مذكرة تفاهم في مجال النقل البري بين الجانبين يُعبّر عن اتساع النطاق الجغرافي والقطاعي للعلاقات الثنائية، ضمن رؤية إماراتية تسعى إلى بناء شبكة ترابط إقليمي دولي تنقل الشراكة إلى مستوى أعلى من التنسيق الاقتصادي واللوجستي. ولا يمكن قراءة هذه الاتفاقيات بمعزل عن سياقها الأوسع، حيث يشكّل توقيع اتفاقية تجارة الخدمات والاستثمار امتداداً لاتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة الموقعة مسبقاً مع الاتحاد الأوراسي.
ويعكس ذلك توجهاً إماراتياً مدروساً في التوسع باتجاه مناطق ذات ثقل سكاني واقتصادي كبير، وتبنِّي سياسة خارجية تستثمر في إعادة تشكيل التوازنات الجيواقتصادية العالمية، بعيداً عن التمركز التقليدي في المحاور الغربية أو الشرقية، بل عبر بناء علاقات أفقية مرنة مع مختلف القوى الدولية. وقد بلغت العلاقات مستوى الشراكة الاستراتيجية المتقدمة، لا سيما في ظل تقارب الرؤى بين البلدين حيال عدد من القضايا الإقليمية والدولية.
ولم تعُد العلاقة ترتكز على الفضاء السياسي والدبلوماسي فحسب، بل توسعت أيضاً لتشمل كافة المجالات الحيوية، التي ترتبط مباشرةً بالأمن الاقتصادي والتنمية المستدامة. ويبرز التعاون في قطاع الطاقة كأحد المرتكزات الأساسية لهذه الشراكة، حيث تنسق الإمارات وروسيا جهودَهما من خلال تحالف «أوبك بلس»، بهدف تحقيق توازن الأسواق النفطية وضمان استقرار الإمدادات، في ظل اضطرابات دولية متزايدة في قطاع الطاقة.وعلى المستوى التجاري، بلغ حجم التبادل غير النفطي بين البلدين نحو 11.5 مليار دولار في عام 2024، مع نمو استثنائي بنسبة 75% في النصف الأول من عام 2025، وهي مؤشرات تعكس ديناميكية متصاعدة تنبئ بتحول العلاقة إلى مستوى من التكامل الاقتصادي الحقيقي. كما أن البيئة الاستثمارية في دولة الإمارات استقطبت أكثر من 4000 شركة روسية ونحو 650 علامة تجارية، ما يجعل من السوق الإماراتية بوابة مركزية للأنشطة الروسية في المنطقة والعالم. وفي المقابل، تستحوذ الاستثمارات الإماراتية على أكثر من 80% من مجمل الاستثمارات العربية في روسيا. هذه المؤشرات لا تعبّر فقط عن شراكة تجارية مزدهرة، بل تعكس نموذجاً إماراتياً متقدماً في استخدام أدوات القوة الناعمة الاقتصادية لتوسيع دائرة التأثير الاستراتيجي.
فالعلاقة مع روسيا تتجاوز كونها شراكة تقليدية، لتصبح تعبيراً عن مقاربة جديدة في العلاقات الدولية، تُدار على أساس المصالح المتبادلة والانفتاح المتوازن، بعيداً عن سياسات الاستقطاب الدولي وترتكز على تعزيز الاستقرار وتنمية المصالح المتبادلة، لتُعد نموذجاً يُحتذى به في العلاقات الدولية، لا سيما في ظل الحاجة الملحة اليوم إلى شراكات مرنة، تنسجم مع تعقيدات النظام الدولي وتحديات المستقبل.
*صادرة عن مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية.
