منذ أن أصبح المحامون وكتّاب العدل والمحاسبون المجازون ضمن الفئات الملزَمة بتطبيق قانون مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، وُضِعوا أمام مسؤولية الإبلاغ عن أي شبهة إلى هيئة التحقيق الخاصة تحت طائلة المساءلة والمحاسبة. التقصير قد يعرّضهم لعقوبات تأديبية أو جزائية، من التنبيه وصولًا إلى العزل أو الشطب. حتى أن مجلس الوزراء أناط بوزارة العدل ونقابات المحامين والمحاسبين المجازين فرض عقوبات أو غرامات على المخالفين لا تقلّ عن 20 ضعفًا الحدّ الأدنى للأجور أي عن 560 مليون ليرة. كيف يكتشف هؤلاء عمليات تبييض الأموال وكيف يتصرّفون في حالات الشبهة ومن يسائلهم ويحاسبهم؟

    عرف لبنان قانون تبييض الأموال في 20 نيسان 2001 تحت الرقم 318، فشكّل الإطار التشريعي الأوّل لمكافحة عمليات تبييض الأموال (غسل الأموال)، التي صنّفها القانون بالجرم الناتج عن جرائم الاتجار بالمخدرات، الإرهاب، الفساد والجرائم المنظمة. وتماشيًا، تمّ إنشاء “هيئة التحقيق الخاصة” لدى مصرف لبنان، وهي الجهة المخوّلة تلقي الإخبارات والتحقيق في العمليات المشبوهة في تبييض الأموال وتمويل الإرهاب واتّخاذ قرارات تجميد الحسابات.

    تمّ من خلال هذا القانون إلزام المصارف والمؤسسات المالية بالإبلاغ عن العمليات المشبوهة واعتماد إجراءات “إعرف عميلك (KYC) وتحديد عقوبات على المخالفين تشمل الغرامات والسجن. في العام 2015 عُدِّل هذا القانون وبات يحمل الرقم 44 وتمّ توسيع نطاقه ليشمل تمويل الإرهاب، علمًا أنه يشمل جرائم أخرى ضريبية وبيئية وغيرها ضمن الجرائم الأصلية لتبييض الأموال.

    كما وسّع هذا القانون مروحة الفئات المُلزمة بالإبلاغ، عدا المصارف والمؤسسات المالية لتشمل المحامين، كتاب العدل، الخبراء المحاسبين المجازين، تجار المعادن الثمينة والأحجار الكريمة، وسطاء العقارات، الكازينو، سائر المهن والأعمال غير المالية المحددة. كل ذلك استجابة إلى متطلبات مجموعة العمل المالي (FATF) التي تطلب إدخال المهن غير المالية المحددة ضمن منظومة مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.

    ماذا حصل بعد الأزمة؟ 

    بعد تفشي الأزمة المالية التي أدّت إلى تحوّل الاقتصاد اللبناني إلى “اقتصاد كاش” مع تعطّل عمل المصارف واحتجاز أموال المودعين وفقدان الثقة بالبنوك، زادت عمليات تبييض الأموال ما استلزم تفعيل قانون تبييض الأموال ومكافحة الإرهاب من منظمة العمل المالي. ولم تنفع التعاميم الصادرة عن وزارة العدل “الوصيّة” على المحامين وكتّاب العدل، ومحاولات الحكومة السابقة تفعيل الإجراءات الرقابية للفئات الملزمة بالإبلاغ في الحؤول دون إدراج “فاتف” لبنان في تشرين الأول من العام 2024 على اللائحة الرمادية. وكانت وزارة العدل أصدرت تعاميم وأجرت دورات تدريبية لكتاب العدل والمحامين حول كيفية الامتثال في مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب رغم خشية البعض على سلامتهم جراء التبليغ، ولا تزال الجهود قائمة لغاية اليوم خصوصًا في عهد الحكومة الجديدة واقتراب موعد استحقاق تقييم “فاتف” السنوي في تشرين الأول المقبل للبنان، إذ تعيد المنظمة تقييم مدى التزام لبنان بالقوانين والإجراءات التي تتّخذ، فيتم إخراجه أو إبقاؤه على اللائحة الرمادية أو انزلاقه إلى اللائحة السوداء.

    تعديلات الحكومة على المادة 17

    أجرى مجلس الوزراء الأسبوع الماضي تعديلات على المادة 17 من قانون مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب (رقم 44/2015) ، التي تتعلق بضرورة تقيّد مفوضي مراقبة المصارف والمؤسسات المالية والشركات والمؤسسات بالقانون وإبلاغ رئيس هيئة التحقيق الخاصة (في مصرف لبنان) عن أية مخالفة (الفقرة الأولى).

    وتنصّ الفقرة الثانية من المادة نفسها على أنه “تناط “بوزارة العدل وبكل من نقابتي المحامين في بيروت وطرابلس ونقابة المحاسبين المجازين مهمّة التحقّق من تقيّد كتّاب العدل والمحامين والمحاسبين المجازين كل في ما خصّه، بالإجراءات المنصوص عليها في هذا القانون وفي النصوص التنظيمية الصادرة بالاستناد إليه”. وأضاف مجلس الوزراء عليها الجملة التالية: “من دون أن يشكّل السرّ المهني عائقًا أمام نقابتي المحامين للقيام بالتحقّق من تقيّد المحامين بالإجراءات المذكورة”.

    وتمّت أيضًا إضافة فقرة ثالثة على تلك المادة الأسبوع الماضي في مجلس الوزراء، جاء فيها: “تناط “بوزارة العدل وبكل من نقابتي المحامين في بيروت وطرابلس ونقابة المحاسبين المجازين كلّ في ما خصّه، صلاحية فرض، وفق جدول تضعه، العقوبات الإدارية و/أو الغرامات المالية المتناسبة والرادعة على المخالفين، على ألّا تقلّ عن عشرين ضعف الحدّ الأدنى الرسمي للأجور”.

    وبذلك يكون مجلس الوزراء أعطى الصلاحية لرفع قيمة الغرامة المالية إلى 560 مليون ليرة لبنانية أي ما يعادل بالدولار نحو 6000 دولار. على أن يدخل هذا التعديل على القانون موضع التنفيذ بعيد إقراره من مجلس النواب وصدوره في الجريدة الرسمية.

    لكن كيف تتمّ عملية التبليغ إلى هيئة التحقيق الخاصة من كتاب العدل والمحامين؟

    آلية التبليغ إلى الهيئة 

    يوضح رئيس مجلس الكتّاب العدل ناجي الخازن لـ “نداء الوطن” أن “كتّاب العدل الذين أدرج اسمهم في القانون 44/2015  “ملزمون بموجب التبليغ عن العمليات المشبوهة وبالتالي التعاطي بكلّ جدّية في تطبيق قانون تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، والالتزام بالإجراءات المطلوبة وإلا يُساءلون ويلاحقون ويعاقبون بدءًا بالمسؤولية المسلكية وصولًا إلى المسؤولية الجزائية عبر القضاء. فهم ينظّمون الوكالات العامة والخاصة، وعقود البيع والشراء (خاصة العقارات والسيارات)، وعقود الإيجار، وعمليات كثيرة تشهد تداولات نقدية كبيرة خصوصًا في البيوعات العقارية.

    عندما صدر القانون كان وقتها سليم جريصاتي وزيرًا للعدل، فتمّ تكليف مجلس كتّاب العدل مع قاض من الوزارة إعداد دليل كاتب العدل في تطبيق قانون مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب. فصدر الدليل التوجيهي في 10 آب 2018 بقرار وزاري تمّ في خلاله تحديد المعايير التي تجعل كاتب العدل يشتبه بوجود تبييض أموال، بغض النظر عن قانونية أو عدم قانونية المعاملة.

    كاتب العدل قد يرفض إنجاز معاملة يرى أنها غير قانونية أو تتضمن مستندًا منقوصًا أو غير قانوني، وأحيانًا تكون المعاملة قانونية ولكن تساوره شبهات أنها قد تتضمّن عملية تبييض أموال. والشبهات تلك ترتكز على معايير أو عناصر لها علاقة بصاحب الحق الاقتصادي، إذا كان اسم الشخص مستعارًا أو الأموال التي تدفع نقدًا كبيرة. وهناك تكرار لعملية واحدة في زمن قصير أو شخص يقصده من مكان بعيد للمرة الأولى وبالقرب من مقرّ  إقامته هناك كتاب عدل… تصبح المعاملة موضع شبهة.

    في تلك الحالة يعود كاتب العدل إلى الدليل الذي يحدّد الآلية التي يجب اعتمادها عند الاشتباه بأي عملية تبييض أموال أو تمويل إرهاب، فيمكنه أن يمتنع عن إجراء المعاملة ويبلّغ هيئة التحقيق الخاصة في مصرف لبنان، أو إجراء المعاملة ثم التبليغ لاشتباهه في أن المعاملة تتضمن تبييضًا للأموال .

    يقول الخازن إن “التبليغ يتمّ من باب موجب الحرص، على الشبهة التي ساورته حول معاملة معيّنة وذلك من خلال ظرف مختوم تُدرج فيه أسماء أصحاب العلاقة ونوع المعاملة التي حصلت (رهن أو بيع أو إيجار أو زيادة رأس مال إحدى الشركات …) مع ذكر عناصر الاشتباه. واللافت هنا أن التبليغ يبقى سرّيًا للغاية ومباشرً بين فريقي كاتب العدل والهيئة، ولا يمرّ لا عبر مجلس كتاب العدل ولا عبر وزارة العدل.

    عندها تحقّق هيئة التحقيق الخاصة في المعاملة وتحوّلها إلى النيابة العامة التمييزية إذا اشتبهت أنّ الإخبار جدّي وهناك عناصر كافية للاشتباه، وفي كلّ الأحوال يبقى المصدر الذي بلّغ سرّيًا. مع الإشارة هنا إلى أنه في سياق عمل كاتب العدل الروتيني يكافح التزوير والغشّّ ويبلغ وزارة العدل أو القضاء إذا أبرز أحدهم مستندًا مزوّرًا أمامه”.

    تدقيق في البيوعات العقارية

    للتذكير إن الالتزام بتلك التدابير كما ذكرنا آنفاً، لا سيما مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، كان قائمًا قبل اندلاع الأزمة المالية والاقتصادية في العام 2019، لكن مع حلول الأزمة انهارت المصارف وبتنا أمام اقتصاد الـ “كاش” مع غياب الدور الذي تلعبه المصارف وبات التدقيق في المعاملات له علاقة بمعاملات البيوعات العقارية الكبيرة التي تسدّد قيمتها عادة بموجب تحويل مصرفي من مصرف في الخارج (الشاري) إلى مصرف آخر في الخارج (البائع) الذي يطلب مستندات ثبوتية مثل عقد بيع مترجم ويسأل عن مصدر الأموال …وقسم صغير من عمليات البيع الكبيرة يحصل في لبنان ولكن من خلال حساب نقدي fresh account من شخص إلى آخر من الأموال الجديدة. أما البيوعات العقارية المتوسطة والصغيرة فتتمّ نقدًا ، وجزء منها يحصل عادة عبر التحويل المصرفي إلى أصحاب العلاقة خارج البلاد.

    وبذلك يقول الخازن “أعادت الأزمة الاقتصادية وتفشي وباء كورونا خلط الأوراق وجعلت من موضوع مكافحة تبييض الأموال أمرًا صعبًا في ظلّ أوضاع غير مستقرة وعدم وجود قطاع مصرفي يؤدي عمله بشكل صحيح”.

    لا دور مباشرًا للمجلس

    لا يلعب مجلس كتّاب العدل، دورًا مباشرًا استنادًا إلى القانون، باعتبار أن التبليغ مباشر وسرّي بين كل من كاتب عدل وهيئة التحقيق الخاصة، ويُفترض أن لا  يعلم أحد بالتبليغ، سوى كاتب العدل والهيئة. لذلك يقوم دور المجلس على التشديد على الزملاء للتعاون في موضوع تبييض الأموال ومكافحة الإرهاب نظرًا إلى حساسيته، إذ له علاقة بمصداقية الوضع المالي في لبنان وحركة الأموال، وله علاقة أيضًا بعمليات التزوير. دور جديد لكاتب العدل أنيط به في تعديل القانون 2015 رتّب عليه مسؤولية شخصية عن المعاملات التي تتمّ عبره والتعاطي مع عملية تبييض الأموال وتمويل الإرهاب بجدّية وعدم مخالفة القانون أو النظام العام أو القوانين الملزمة.

    ولكن طالما أن المعاملة سريّة وهناك صعوبة في معرفة الملتزمين بالقانون، يعرب بعض كتاب العدل كما كشف أحدهم لـ “نداء الوطن” عن هواجسهم حيال عملية التبليغ. إذ يخشى عدد كبير منهم من التبليغ عن عملية تبييض الأموال وتمويل الإرهاب رغم سريّة العملية واقتصار التعاون بين كاتب العدل وهيئة التحقيق الخاصة، لأن المبلّغ عنه قد يعود إلى كاتب العدل ويتسبب له بالأذية. متسائلًا من يضمن سلامة كاتب العدل وعائلته من تلك العصابات؟.

    كيف يلتزم المحامون بالقانون؟

    هذا الأمر ليس بعيدًا أيضًا من المحامين الذين ألقى القانون عليهم موجب التبليغ أيضًا ومساءلتهم ومعاقبتهم في حال معرفتهم بحصول عملية تبييض أموال وعدم التبليغ عنها مثلهم مثل كتاب العدل. وللغاية أصدرت نقابة المحامين دليل المحامين عام 2017 الذي خضع للتعديل عام 2019 لمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب ويتضمّن تفاصيل حول المعلومات التي يجب تدوينها من العملاء تحت شعار إعرف موكلك (بدل عميلك على غرار المصارف). وفي هذا السياق قال المحامي علي زبيب لـ “نداء الوطن” المكلف من نقابة المحامين بمتابعة إجراءات مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب مع هيئة التحقيق الخاصة ومجموعة العمل المالي، إن “النقابة اتّخذت تدابير منذ سنوات وتابعت هذا الأمر، فحصلت اجتماعات تقييمية وتمّ تشكيل لجنة امتثال لمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب وتمّ تحديد المعايير المطلوبة عبر هيئة التحقيق الخاصة”.

    اليوم نقابة المحامين في صدد إعداد ردّ مفصّل حول كيفية قيام النقابة بدورها والمحامين بالرقابة من خلال الإجراءات التي يتّخذونها في مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب ، وستسلّمه إلى رئيس الحكومة نواف سلام الأسبوع المقبل، علمًا أن المحامين المعنيين بتلك الإجراءات هم الذين يتعاطون في القطاع التجاري .

    يأتي ذلك فضلًا عن عمل النقابة التوعوي من خلال المؤتمرات وحملات التوعية وورش التدريب التي تقوم بها، من دون أن نغفل دور النقابة الرقابي والمحاسبي من خلال: أولًا، التعاون مع هيئة التحقيق الخاصة في موضوع تعاملها مع الأسماء المدرجة على لائحة التبييض أو تمويل الإرهاب. وثانيًا، عبر الزام المحامين الالتزام بالإرشادات والتوجيهات والمعايير مثل إعرف موكلك، وتبليغ النقابة عن وجود شكوك من قبل أي محامٍ بموكله بتبييض أموال أو تمويل إرهاب أو حتى السعي إلى هذا الغرض. فنقيب المحامين لديه سلطة استنسابية لمعرفة ما إذا كانت المعايير ترتقي لتكون موضوع شكّ، فيأخذ على عاتقه أن يبلغ هيئة التحقيق الخاصة. أما المحامي الذي لا يلتزم بالمعايير المطلوبة منه من “فاتف” والمحددة في الدليل، فيُحال مسلكيًا وقد يعرّض للشطب.

    المحاسبون المجازون

    قد تمرّ عملية تبييض الأموال وتمويل الإهاب أيضًا من خلال المحاسبين المجازين، فتراود المحاسب شكوك حول عملية تبييض أموال أو تمويل إرهاب كما أوضح خبير مجاز لـ”نداء الوطن” من خلال التالي: تضخيم فواتير كأن تكون فاتورة استيراد على سبيل المثال 5 ملايين دولار بينما السعر السوقي 500 ألف دولار ، فيتحقّق المحاسب من المصدر وفي حال الشبهة يتمّ تبليغ هيئة التحقيق الخاصة في مصرف لبنان. مثل آخر، يكتشف المحاسب أنّ الشركة التي يدقّق في حساباتها تدخل أموالًا نقدية غير مبررة كأن تحقّق شركة صغيرة دخلًا يوميًا بقيمة 100 ألف دولار في حساباتها فيتم التحقق من طبيعة النشاط، وعند غياب التبرير يبلّغ هيئة التحقيق الخاصة مباشرة مثل كل الجهات الملزمة بالتبليغ، ويحقّ لنقابة المحاسبين المجازين أن تتّخذ إجراءات تأديبية في حق المحاسب إذا امتنع عن التبليغ مثلًا… وتنطبق عليه آلية المساءلة والمحاسبة نفسها المتّّبعة للجهات الملزمة بالتبليغ. علمًا أن عناصر الشبهة وآلية التبليغ حدّدت في دليل إجراءات الامتثال الذي أطلقته النقابة يوم كان رئيس الحكومة سعد الحريري في 16 نيسان 2019 .

    في المحصلة، يمكن القول إن هناك محاولة للالتزام بمعايير “فاتف”. وتواصل الدولة اللبنانية مع الفئات المعنية توفير الضمانات بالتزامها الإجراءات وتحقيق نتيجة، عدا طبعًا عن ضرورة إعادة هيكلة المصارف لضبط سوق الـ “كاش”، وهي العناصر الكفيلة بإخراج لبنان من اللائحة الرمادية الأمر الذي قد لا يتحقّق في تشرين الأول المقبل كما يتخوّف  البعض.!