
«طربوش جدي معلّق» صراع بين الرحيل والبقاء وتجسيد حال اللبنانيين الباحثين عن الأمان
بيروت ـ «القدس العربي»: «طربوش جدي معلّق» تعبير متداول في لبنان للدلالة على التمسك بالجذور. كان المهاجرون الأوائل في نهايات القرن 19 يعلقون طرابيشهم على شجرة التوت التي كان حضورها تقليداً في باحات المنازل القروية، قاطعين وعد شرف بالعودة. بين الهجرات الجماعية الأولى، وتلك المعاصرة بسبب الحرب الأهلية، ومن ثمّ الحروب الصهيونية المتكررة وتردي الوضع الاقتصادي، ثمّة أجيال تعيش تنازعاً داخلياً، بين الوطن الأول وبلاد الاغتراب. وإذ بمسرحية «طربوش جدي معلّق» تدخل حيز العرض في واحدة من اللحظات المفصلية في حياة الوطن.
أرادت الممثلة والكاتبة المسرحية مروى خليل أن تتشارك مع الجمهور في أزمة الهوية والانتماء التي عاشتها شخصياً. كتبت النص، وتعاونت مع المخرج الخلاّق رياض شيرازي على تطويره، ومن ثمّ وضعه على الخشبة. في «طربوش جدي معلق» فشلت لحظات الكوميديا الغنية في حجب ذلك الإحساس الأليم بالتشتت والضياع. ففي العرض شخصيتان هلا وابراهيم، معهما نترافق بجولة على الملاجئ. من ملاجئ الوطن، إلى عواصم أخرى، وبلدان هجرة، وأخرى متاحة للعمل.
من السيناريو المشغول بشفافية ورشاقة، والحوارات ذات الدلالة، أثبتت الممثلة مروى خليل والممثل جنيد زين الدين، أنهما ثنائي مسرحي ينطبق عليهما تعبير «حفر وتنزيل» في تجسيدهما لشخصيتي هلا وابراهيم. وأتى التناغم بينهما في أعلى مراتبه. وكل منهما نجح في تجسيد المرحلة التي كان بصددها من المراهقة وصولاً إلى الشباب.
هلا وابراهيم، وإن كانا متناقضين في صلتهما بالوطن، إلا أنهما يتكاملان، حتى وإن اتسمت حياة هلا بجهوزية حقيبة السفر خلف الباب لتسهيل المغادرة السريعة مع أول شرارة حرب، إلا أن صلتها بجذورها وعودتها الشغوفة ليست فقط لغرامها بابراهيم، فابراهيم هو الجذور أولاً، وكذلك الغرام.
«طربوش جدي معلّق» نص ممتد من بداية الثمانينيات إلى حاضرنا، يعبر المراحل بخفة فراشة، وبلاغة تعبير، تنقلٌ بين كوميديا ودراما مؤثرة، كأن تخبرنا هلا «حتى دموعي جلّدوا بكندا».
إلى تناغم مروى خليل وجنيد زين الدين واثباته لقدرات تمثيلية يمتلكها وتفوق حالة التقليد التي عُرف بها، فقد فرض نفسه كممثل لأي دور في المستقبل. وربما يكونا معاً في المسرح مجدداً أو في التلفزيون، فمروى خليل باعها ناجح في الابتكارات الفنية.
أما المخرج رياض شيرازي، فإلى جانب إدارته الناجحة للممثل، فقد اشتغل على سينوغرافيا مرنة ومعبرة. أكثر من الغرف التي برز حضورها كأمكنة، وتدلت الطرابيش بكثرة لتذكّرنا بكلمة الشرف والوعد القاطع.
المعضلة المزمنة هل نبقى أم نهاجر؟ سؤال يموج بذاكرة الشباب. فماذا تقول مروى خليل في هذا الحوار:
○ بعد أسابيع ثلاثة من العروض على مسرح المونو، انطلاقة إلى كازينو لبنان ومن ثمّ مسرح دوّار الشمس. «طربوش جدي معلق» مسرحية ناجحة جداً برأيك؟
• بدأ هذا المشروع حلماً بالنسبة لي وكان عنوانه «طربوش جدي معلّق ع Tour Eiffel». حينها كنت بعمر 36 سنة. كتبت نصاً كان يحتاج لبعض التحسينات. تعرّفت إلى المخرج رياض شيرازي في مسرحية «مفروكة»، وأتفقنا على متابعة كتابة مسرحية «طربوش جدي….». وهكذا أضفنا المزيد من المحطات إلى هذا العرض، فكانت كندا ودبي. هدفي من هذا السيناريو البحث في الهوية الضائعة التي عشتها. فقد تعرّفت إلى وطني لبنان مع بداية التسعينيات، وحينها لم أكن أتقن الكلام بالعربية. ولم أكن أعرف بأني لبنانية، ولم أشعر يوماً بأني نتيجة هذا المجتمع. مبررات هذا الإحساس أني كبرت خارج وطني. أكيد المسرحية ناجحة والدليل «مفولة» بعد عرض الافتتاح، وستتنقل.
○ هل كانت لديك ثقة بأن العرض سيجد هذا النجاح؟
• مُطلقاً. وحين أمّنت الإنتاج، وحجزنا المسرح كنت مصرّة بأن المسرحية لا تستحق أكثر من 12 عرضاً. بعد عرض الافتتاح حلّقت المسرحية «ولنمسك الخشب». بعد المونو سنعرض لليلة واحدة في 26 تشرين الأول/أكتوبر في كازينو لبنان. وفي 7/8/9 تشرين الثاني/نوفمبر في مسرح دوّار الشمس، إلى اتفاقيات عروض سنوقعها قريباً خارج لبنان.
○ هل لاختيار الممثل جُنيد زين الدين دور في هذا النجاح؟
• بصدق أقول أن كافة العاملين في هذا العرض هم في مكانهم الصحيح. بدءاً من شريكي في النص ومخرج العرض رياض شيرازي إلى جنيد زين الدين، وطوني فرح المخرج المساعد، والمنتجة التنفيذية ربيكا خويري. فنحن بتنا عائلة صغيرة نحتفل معاً بهذا النجاح، ونفرح به.
○ تكرار التعاون مع رياض شيرازي الكاتب والمخرج دليل على كيمياء مسرحية اشتغلت بينكما؟
• سأقول التالي: منذ كنت بعمر 18 سنة والمسرح شغفي الذي أعيشه وأحققه بالكتابة، وكنت بعمر الـ28 حين قدّمت مسرحيتي الأولى. تعرّفت إلى المخرج رياض شيرازي كأستاذ لإخوتي في المدرسة. وكان نشيطاً جداً ومثابراً في تقديم عروض مسرحية مع تلامذته في المدرسة. ومن جهتي كنت مغرمة بتلك المسرحيات. وحين كنت بصدد مسرحية «مفروكة» التي كتبتها بالتعاون مع وفاء حلاوي، خطر لي رياض فقصدته إلى المدرسة لأطلب منه إخراج المسرحية. اتفقنا وحققت «مفروكة» نجاحاً كبيراً. رياض شيرازي يعرفني جيداً كممثلة وكاتبة، وهو يعرف مدى امكاناتي في عملي المسرحي برمته.
○ كنت «هلا» المتنقلة بين الملجأ وباريس ومونتريال ودبي. أية إقامة استفزتك كممثلة؟
• هو انتقال من ملجأ إلى آخر. وجميع المدن ملاجئ. مشاهد ملجأ بيروت أتت نتيجة شهادات من كثيرين اختبروا حياة الملجأ خلال الحروب. ملجأ باريس هو نتاج من تجربتي الخاصة. كما جمعنا العديد من الشهادات عن مونتريال ودبي كملجيئن للبنانيين. أحب جميع الشخصيات، وقد وجدت الثناء من المشاهدين لتنقلي في المسرحية بين مراهقةٍ وناضجةٍ، تختار السفر مع الشرارة الأولى لكل حرب على لبنان. أحب تلك الإقامات جميعها لأنها تحكي الموقف نفسه.
○ هل عشت ضغطاً نفسياً من أجل ولادة «طربوش جدي معلق» الحُلُم بالنسبة لك؟
• كثيراً جداً. ولادة هذا المشروع المسرحي استغرق الكثير من الوقت. كنت أحاول وضع الـ«سكريبت» جانباً مرات عدة، لكنه يبقى موضوعاً معشعشاً بداخلي ولا انفكاك لي منه. إنه موضوع الهوية الذي ألحّ بقوة بعد عدة مسرحيات ذات طابع نسائي كما «زنود الست» و«مفروكة». في «طربوش جدي معلّق»، لأول مرّة ألعب قصة حب مع رجل، إلى جانب محورها الأساسي وهو الهوية والحالة الوطنية. علاقة الحب في المسرحية ترمز إلى التعلّق بالجذور وحب الوطن. الفكرة برمتها كانت مفرحة جداً لي كممثلة.
○ ولماذا مسختم «ثورة» 2019 بالشكل الذي ظهر على المسرح؟
• هنا أعود لهلا في إقامتها الكندية، وعندما سألت سائق التاكسي «إذا كل يوم بشوف تلج بمونتريال معقول إنسى من وين جايي؟» لمست من المقابلات التي أجريتها أن المهاجرين يحاذرون من أن يجذبهم بلد الهجرة، لخوفهم من نسيان وطنهم وجذورهم. إنها معضلة الذاكرة حيث يقال إن صورة تأخذ مكان أخرى. ظهرت الثورة بشكلها الكوميدي لأنه حالها الفعلي. جميعنا يعرف ناشطين في الثورة تركوا وطنهم نهائياً، ولم تعد لديهم رغبة بسماع اسم لبنان. هو دليل يأس لعدم نجاح الثورة.
○ شخصياً كم عايشت من الحروب المتتالية على لبنان. وهل تئّن ذاكرتك بها؟
• كنت في لبنان مع عدوان عناقيد الغضب، لكن بعيداً عن الجنوب. وشهدت لاحقاً الانسحاب الإسرائيلي من لبنان. وعندما بدأت حرب سنة 2006 صدف أني كنت في المغرب، وفي حرب العام الماضي هربت إلى باريس. نعم هلا تُشبهني، وكذلك ابراهيم يُشبهني.
○ وكيف ذلك؟
• الحياة جميعها تناقض. عندما أقول في العرض المسرحي «السومون» يعود إلى أصله. و«ابراهيم» هو «هلا» التي تتمنى لو تكون شجرة تبقى كامل حياتها في ذات المطرح مع جذورها، وكذلك «هلا» العصفور الذي يغيب ثمّ يعود إلى جذوره.
○ هل فاجأك الممثل جنيد زين الدين في دور ابراهيم؟
• بالطبع. بحثت عن ممثل مبدع في التمثيل والتقليد، وكان الجميع يردد جنيد جنيد جنيد. اتصلت به، قرأ النص، قيم الامكانات والاحتمالات، ووافق. وهكذا كانت البروفات ساعات تسلية جميلة. ولم يقتصر دور جنيد على ما قُدّم له بل ارتجل خلال البروفات قصصا جميلة، كما شخصية السوري. جنيد خلاق، وفنان منتظم وملتزم بعمله. لقد أسعدني نجاح الاختيار، وكذلك تعليقات الجمهور كمثل القول: «مش معقول.. مش معقول شو هالتواصل بين الممثلين». النجاح الذي جمعني بجنيد سنعمل لتطويره في المسرح والتلفزيون.
○ من ابتكر شخصية اللبناني التي أداها جنيد زين الدين مراهناً وراوياً بين كل معركة وأخرى؟
• كنت أتحادث مع رياض شيرازي عن جارتنا اللبنانية في باريس التي كانت يومياً تطرق بابنا لتخبر والدتي بتفاصيل الحلول المقترحة للحروب على لبنان. وإذ برياض يطرح شخصية المحلل السياسي، وكان جنيد ممثلاً لتلك الشخصية. هذه الشخصية أعطت للعرض نكهة سوريالية.
○ أين أنت من الدراما؟
• لست ممن يطرق باباً. الممثل يتلقى العروض. عندما أتلقى اتصالاً لدور جميل أكيد سأقبله. كما أني لست مع نظرية الانتظار، أنا من يخلق المشاريع.
○ والسينما؟
• قبل سنتين صورت فيلماً في أثينا مع النجم جيم فرانكو لم يُعرض بعد، وهو إنتاج كبير. ومؤخراً أسست مدرسة تمثيل بإسم «اكتينغ لاب». مدرسة تستقبل كافة الأعمار، وهي كذلك بيت للإنتاج، وطربوش جدي معلّق من إنتاجها.
○ التعليق الذي قرأته ولفتك عن طربوش جدي معلّق؟
• منهم من كتب لنا «أنا هلا وابراهيم». تعليق مهم ورئيسي.
