انتهى موسم ألبومات صيف 2025، لكن البحث عن “أغنية الموسم” ما زال مستمراً. فمن يتأمل المشهد الغنائي يلحظ أن ما بدا في أغسطس وكأنه موسم ذهبي للغناء العربي، انتهى بلا أثر يذكر مع حلول الخريف. عشرات الألبومات صدرت خلال أسابيع قليلة، في ازدحام غير مسبوق، وكأن جميع النجوم تلقّوا النصيحة ذاتها: “من لا يطرح ألبومه في أغسطس، فاته الموسم!”.
خلال الصيف، شهدت المنصات الرقمية أكثر من عشرة ألبومات كبرى صدرت في وقت متقارب، بين حملات دعائية ضخمة واستراتيجيات تسويق رقمية محمومة. بدا أن الدافع ليس فنياً بقدر ما هو تنافسي وتسويقي، إذ أصبحت صناعة الموسيقى العربية أسيرةً لخوارزميات المنصات وشركات التسويق الإلكتروني.
قبل أعوام هجرت الصناعة فكرة الألبوم لصالح الأغنية المنفردة، أما اليوم فعادت إليها لأن الخوارزميات تغيّرت وباتت تفضّل الألبومات بما هي منتج رقمي طويل المدى. تحوّل التفكير الموسيقي إلى منطق الحملات الإعلانية: التركيز على أغنية واحدة أو اثنتين تُدفع بقوة إلى التريند وقوائم التشغيل، فيما تُترك بقية الأغاني خلفيةً تكميلية.
فقد اختصر عمرو دياب ألبومه “ابتدينا” في أغنيتي “خطفوني” و”بابا”، وركّزت نانسي عجرم في ألبومها “نانسي 11” على “سيدي يا سيدي”، فيما قدّمت أصالة من ألبومها “ضريبة البعد” أغنيتي “كلام فارغ” و”العنب الساقع”. هذه الأغاني تحولت إلى مؤشرات نجاح فوري بناءً على عدد المشاهدات والتفاعل على “تيك توك” و”سبوتيفاي”، ولم تعد المسألة تتعلق بجودة الألبوم كله، بل بسرعة انتشاره في الساعات الأولى من طرحه.
لكن هذه السياسة أضرت بعدد من الفنانين رغم أسمائهم الكبيرة. فنانسي عجرم، التي عادت بعد غياب بألبوم منتظر، اختفت وسط الزحام، وكذلك أصالة التي قدّمت عملاً متنوعاً موسيقياً لكنه لم يحظَ بالترويج الكافي من “روتانا”. أما حمزة نمرة، فاختار في ألبومه “قرار شخصي” موسيقى مختلفة، إلا أنه لم يحقق نفس النجاح الذي عرفه في ألبومه “مولود سنة 80” الذي صدر شتاءً، ما يؤكد أن النجاح لا يرتبط بفصل الصيف أو طقوسه، بل بتوقيت الطرح واستراتيجية الترويج.
هذا الازدحام الموسمي جاء مدفوعاً بالدخول القوي للشركات العالمية إلى الأسواق العربية. فقد وجدت شركات مثل “سوني” و”وارنر ميوزك”*و”يونيفرسال” فرصاً استثمارية ضخمة في الشرق الأوسط، حيث الاستهلاك الموسيقي مرتفع والتكلفة الإنتاجية منخفضة. وفقاً لاتحاد صناعة التسجيلات، تُعد المنطقة الأسرع نمواً في العالم عام 2024 بنسبة 22%، مع اعتماد شبه كامل على الاستماع الرقمي بنسبة 99.5%.
ولهذا وقّعت “سوني” صفقة ضخمة مع عمرو دياب، لتقود حملته التسويقية الكبرى هذا الصيف، من الإعلانات الميدانية إلى الترويج عبر المنصات. في المقابل تبنّت “وارنر ميوزك” ألبوم تامر حسني “لينا ميعاد”. كما نشطت فروع الشركات العالمية مثل “The Orchard” التي توزّع أعمال شيرين عبد الوهاب وويجز، وشركة “Virgin Music” التي تبنّت فنانين شباباً مثل مروان موسى وسانت ليفانت. أما نانسي عجرم فاختارت التعاون مع شركة believe في توزيعها الرقمي.
على الجانب الآخر، تحاول الشركات الخليجية، خصوصاً السعودية، مجاراة هذا التوسع العالمي. فقد نافست “روتانا” بعدة ألبومات أبرزها “ضريبة البعد” لأصالة، وظهرت شركات سعودية جديدة مثل “بنش مارك” التي دعمت عودة فضل شاكر، و”مدل بيست” التي تبنت مغني الراب “تووليت” في ألبومه “نارين”.
لكن هذا التنافس الكبير بين الشركات العالمية والسعودية ضيّق الخناق على الفنانين المستقلين، مثل حمزة نمرة وأحمد سعد ونوال الزغبي، الذين وجدوا أنفسهم خارج دائرة الضوء. حتى التجارب التي بدت مستقلة، مثل فضل شاكر أو تووليت، كانت في الواقع مدعومة إنتاجياً من شركات كبرى.
في نهاية الموسم، تبلورت المنافسة حول نموذجين: عمرو دياب مقابل فضل شاكر.
دياب قدّم ألبوماً كاملاً بالتعاون مع “سوني”، وظلّ على قمة التريند بفضل الحملة التسويقية العملاقة، بينما اختار شاكر الطريق التقليدي بإطلاق أغان منفردة على مدار العام، محققاً نجاحاً بأغنيات مثل “كيفك ع فراقي” و”أحلى رسمة” و”صحاك الشوق”. كانت المنافسة بين الآلة الإنتاجية الضخمة والموسيقى البسيطة الصادقة، بين نجم تسويقي عالمي وفنان يراهن على الحضور الإنساني.
لكن رغم كثافة الإنتاج، غابت الأغنية “الهيت” التي تصنع موجة العام كما حدث مع “3 دقات” أو “البخت” أو “من أول دقيقة”. هذا العام لم تحقق أي أغنية اختراقاً ساحقاً، بل تقاربت نسب الاستماع بين معظم الأعمال. وهكذا بدا الموسم ناجحاً رقمياً، لكنه باهت فنياً.
استحوذ البوب على الموسم، فيما تراجعت التجارب المستقلة التي كانت تملأ فراغ الأغنية التجارية في السنوات الماضية. عادت موسيقى المهرجانات إلى هامشها القديم، مكتفية بجمهورها المحلي، بينما تقلّصت مساحة الراب رغم محاولات التقارب مع البوب.
ومع ذلك، برزت بعض التجارب اللافتة مثل ألبوم أحمد سعد “بيستهبل” الذي قدّم فيه مزيجاً من الأغاني الشعبية الساخرة، وأعاد إحياء روح المنولوجست في قالب عصري، وألبوم آمال ماهر “حاجة غير” الذي استعاد الطابع الكلاسيكي القائم على النصوص الدرامية بالتعاون مع الشاعر نادر عبد الله، وألبوم مروان موسى “الرجل الذي فقد قلبه” الذي طرح قبل زحمة الصيف وقدّم تجربة راب مختلفة حول الفقد والحزن بتقنيات صوتية عالية.