كمال الباشا وأحمد مالك في “كولونيا”: إحدى اللحظات الأجمل رغم قلّتها (الملف الصحافي)

 

أهناك أكثر من سببٍ، يدفع مخرجاً/مخرجة سينمائياً عربياً إلى إنجاز فيلم، وثائقي غالباً، يكون الأب/الأم، عادة، نواته الدرامية؟

الأسباب وفيرة، لكنّ الأبرز بينها كامنٌ في حالة سينمائية عربية تحضر، منذ أعوامٍ مديدة، في الاشتغال السينمائي، تتمثّل برغبةٍ في تصفية مناخٍ، أو كشف مخبّأ، أو تعرية علاقة، أو فهم/محاولة فهم غامضٍ أو أكثر في تلك العلاقة، أو قراءة مرحلة تاريخية في بلد ومجتمع وناسهما، عبر الاختبار الذاتي للأب/الأم. حالة كهذه ناشئة أولاً في النتاج السينمائي اللبناني، وانتشارها عربياً يزداد، خاصة في الأعوام القليلة الفائتة.

أهناك رابطٌ بين ازدياد النتاج السينمائي هذا واشتداد الرقابات، الأمنية والاجتماعية والدينية/الطائفية والثقافية تحديداً، في بلدان عربية تعاني انهياراتٍ شتّى، في الحياة اليومية، كما في مسائل العيش والعلاقات البشرية؟

الاحتيال على الرقابة، بإنجاز فيلمٍ عن أب/أم لتفادي عوائق تناول السياسي والاجتماعي والهوياتي، غير ناجعٍ دائماً، فالرقابة اللبنانية تقتطع فقرات بصرية من هذا الفيلم أو ذاك، بحجج واهية، وحجج الرقابات كلّها واهية أصلاً، تقول إنّ لقطة أو قولاً أو بوحاً أو تصرّفاً، أو ربما نظرةً أو حركة، “مُسيئة” لسلْمٍ أهلي (هشّ وناقص أساساً)، أو لتوافق ديني/طائفي، أكثر هشاشة ونقصاناً من ذاك السلم المنشود.

يغلب على أفلامٍ عربية، حديثة الإنتاج، حميمية التناول، أكثر من انفتاحٍ على جماعة وذاكرة وحكايات منسية/مخفية/مغيّبة. في الدورة الثامنة (16 ـ 24 أكتوبر/تشرين الأول 2025) لمهرجان الجونة السينمائي، ثلاثة أفلام مصرية (مع إنتاج مشترك) تلتقي نصوصها البصرية في بحثٍ فرديّ عن علاقة شخصية بالأب، وأحدها يُتيح للأم (أو لطيفها ربما) هيمنة تتحصّن بخلفية الحكاية/السرد، مع أكثر من إطلالة مباشرة، بتسجيلات فيديو قديمة، أو بتصوير حيّ، كما في “كولونيا” لمحمد صيام (مسابقة الأفلام الروائية الطويلة)، و”الحياة بعد سهام” لنمير عبد المسيح (جائزتا نجمة الجونة لأفضل فيلم وثائقي عربي، وقيمتها المالية 10 آلاف دولار أميركي، والنجمة الفضية لأفضل فيلم وثائقي، وقيمتها المالية 15 ألف دولار أميركي)، إضافة إلى “50 متراً” ليمنى خطاب (مسابقة الأفلام الوثائقية الطويلة).

 

 

إنجاز “50 متراً”، المُشارك في الدورة 13 (30 أكتوبر/تشرين الأول ـ 5 نوفمبر/تشرين الثاني 2025) لمهرجان وهران الدولي للفيلم العربي، في المسابقة نفسها مع “أبو زعبل 89” للمصري بسام مرتضى (يتناول أيضاً علاقة المخرج بوالديه المناضلَين سياسياً في فترة نشوئه مُراهقاً وبداية الشباب)؛ هذا الإنجاز منبثقٌ أساساً من رغبة خطاب في “التعرّف” إلى والدها أكثر، المحافظ جداً في مسألة المشاعر تجاهها. الوثائقي هنا وسيلة تقارب بين طرفَين، والأب موافق على اللعبة، رغم تمسّكه، اللاواعي واللامرئي، كثيراً بتلك المسافة المصنوعة بتحفّظه وانكفائه على نفسه.

محمود مرتضى، والد بسام، سيكون بدوره دافعاً أساسياً لتحقيق وثائقيّ، لن يبتعد عن الزوجة/الأم فردوس البهنسي، التي تُشكِّل، وإنْ مع مسافة كبيرة بينها وبين محمود (لانفصال أحدهما عن الآخر وقتاً طويلاً قبل وفاتها في المراحل الأخيرة من تصوير “أبو زعبل 89”)، الطرف الأساسي أيضاً في البناء الدرامي لنصٍّ، يريده بسام كشفاً لمسائل يجهلها، أو يريد التأكّد منها. بهذا؛ يقترب “الحياة بعد سهام” منهما، فللأم حضورٌ يحاول إيجاد توازنٍ في الكشف أمام نمير، الباحث عن شفاءٍ من ألمٍ غير ظاهر كثيراً أمام الكاميرا، فالمخرج الشاب يجعله يتسلّل ببطء، رغم أنّ ابتسامته الخفيفة أكثر التباساً من كلّ غموض ومخفيّ.

تختفي الأم من “50 متراً” إلى حدّ كبيرٍ، تماماً كما في “كولونيا/عطر أبي”، مع أنّ لها، في جديد محمد صيام، حضوراً موارباً، يطلّ قليلاً عبر كلمة أو تذكّرٍ أو استعادة، لتثبيت مسألة/حالة، أو لتبريرها أو إخفائها. وهذا أول اشتغال روائي لصيام، البارع في تحقيق الوثائقيّ، كـ”أمل” (2017). كأنّ التجربة الروائية مدخلٌ إلى تمرين على تحويل الذاتي الحميمي إلى نصٍّ، لن يطغى عليه المتخيّل الروائي، بل يساهم الأخير في تفكيك المعلّق في حياة المخرج وتفكيره ومشاعره إزاء مسألة شخصية.

ومع أنّ الفلسطيني كامل الباشا، مؤدّي دور الأب الذي يحتضر، متمكّن من منح الشخصية، المضطربة والقلقة والقاسية والمُدركة أنّ الحياة منتهية قريباً، مقوّمات واقعيّتها وصدقها؛ تُمنح جائزة التمثيل (مهرجان الجونة السينمائي) للمصري أحمد مالك، في دور الابن الذي لن يقلّ اضطرابات مختلفة عن والده، خاصة أنّ تاريخهما مليء بصدامات ومواجهات وكراهيات، كأنّ الاهتمام الذي يُبديه الابن لوالده، الذاهب إلى حتفه، نوعٌ من تطهّر وخلاص.

كلّ فيلمٍ من تلك الأفلام يستحقّ نقداً مستقلاً. السابق محاولة أولى للتساؤل عن معنى ازدياد أفلام الأهل في السينما العربية، الوثائقية أولاً، والروائية طبعاً.