بعض الإشارات في فيلم « عمارة يعقوبيان» المنتج عام 2006، تدل على أن أحداثه وقعت في مطلع تسعينيات القرن الماضي. وهو مأخوذ من رواية بالعنوان ذاته للروائي المصري علاء الأسواني، صدرت عام 2002. سيناريو الكاتب والسيناريست المعروف وحيد حامد، ومن إخراج مروان حامد في أول فيلم روائي له. وتمثيل نخبة من نجوم السينما المصرية.
تظهر مع «التايتل» لقطات وثائقية مع تعليق صوتي للفنان يحيى الفخراني، يحكي قصة عمارة يعقوبيان، التي بنيت في عام 1934، في شارع سليمان باشا. بنيت العمارة وفق «الطراز الأوروبي الكلاسيكي». من خلال التبدلات التي حصلت في نوعية سكان العمارة، نرصد إيقاع التغيرات الكبيرة التي حدثت في مصر القرن العشرين. فالعمارة أول من سكنها باشوات العهد الملكي، وذوو المناصب الرفيعة في الدولة. وبعد أن حدثت ثورة يوليو/ تموز 1952، أصبحت التركيبة السكانية مؤلفة من الضباط، وبدأ يتغير شيئاً فشيئاً مظهر العمارة، إلى أن حل عهد الانفتاح في سبعينيات القرن الماضي فغادرت نخب الضباط إلى المهندسين ومدينة نصر. ليصبح المزيج السكاني أكثر اختلاطاً بواسطة أن غرف السطوح التي كانت تشغل سابقاً من أجل خزن كل ما هو فائض من حاجيات أصحاب الشقق، بات يسكنها خليط من الطبقة الفقيرة والعمال. وكان الفخراني يكرر أيقونة أن كل شيء تغير. وهنا يمكن القول إن الرواية صنعت بطولة المكان وقد ذكر الأسواني في حوار أجراه الكاتب الصحافي سيد رزق لصحيفة» القبس الكويتية» معه بأنها» تقوم على بطولة المكان وتلك طريقة في الرواية وفي الأدب رأيناها عند نجيب محفوظ في «زقاق المدق» و«ميرامار» و«الثلاثية»، وفي الأدب العالمي مثل رواية يوغوسلافية شهيرة بعنوان «جسر على نهر درينا».

رواية حداثية جداً

سيناريو الفيلم كما الرواية بشكل عام، يتوزع إلى خطوط بعضها تتقاطع في الأحداث، وبعضها لا، ووصف بعض النقاد الرواية، كما يقول الأسواني في الحوار المذكور، بأنها «حداثية جدا لأنها تعتمد على لغة السينما وسرعة الرد والإخراج السينمائي». وهنا يمكن القول إن ميزة أساسية في هذا الفيلم وهي ألاّ بطولة مطلقة في الفيلم، ولأول مرة يظهر النجم عادل إمام بدور فرعي «المهندس زكي بك الدسوقي، والأمر ينطبق على النجم الراحل نور الشريف أيضاً بدور «حاج عزام»، كذلك على النجمة يسرا في دور «كريستين»، وهي من أصول يونانية، تمتلك مطعماً، وتجيد العزف على البيانو، وأداء أغاني المطربة الفرنسية الراحلة أديث بياف، وهي صديقة قديمة لزكي الدسوقي يقابلها، كي يشكو همومه وتوجّه إليه النصح. كما تبادر إلى إصلاح ذات البين بينه وبين أخته دولت، وإلى احتضان حفلة زواجه من بثينة السيد «هند صبري» في خاتمة الفيلم.

لا بطولة مطلقة

الأدوار الفرعية اقتضتها طبيعة السيناريو، المُعد وفقاً للرواية، التي استخدمت التقطيع المتواصل منذ البداية إلى النهاية، مثلا خط شخصية زكي الدسوقي لا يلتقي مع خط عزام. الأول ابن باشوات، وهناك صورة معلقة في مكتبه، لوالده الباشا، وهو يؤدي اليمين كوزير في القصر الملكي. زكي الدسوقي، أكمل تعليمه الجامعي في فرنسا، طبعاً تضرر من انتصار ثورة 1952، بمصادرة الإقطاعيات الزراعية. يسكن في شقة داخل العمارة مع اخته دولت «إسعاد يونس». وهو لا يعمل. وإنما افتتح مكتباً هندسياً بعد عودته من فرنسا، في عمارة تبعد 100 متر عن عمارة يعقوبيان. هو مكتب لقضاء غرامياته، مع من يريد من النساء، ومنهن رباب «جيهان قمري» نادلة بار شعبي ظل يطاردها، حتى وافته في المكتب، لكنها سرقت كل شيء ثمين لديه، ومن ضمنها خاتم ماس لأخته دولت، ما يصعّد الخلاف بينهما، وتطرده من الشقة. ومن الشخصيات الملحقة بزكي الدسوقي، خادمه فانوس «أحمد راتب» وهو من الأقباط ومعه أخوه ملاك «أحمد بدير» يرتّب الأول لأخيه عقد إيجار غرفة فوق سطح العمارة للأعمال التجارية، مع وكيل ورثة يعقوبيان الذي يعيشون في الخارج، فكري عبد الشهيد «يوسف داود». وفي الرواية توضيح وافٍ لشخصية ملاك، الذي هو في الظاهر يمارس خياطة وبيع الملابس، لكنه في السر يمارس كل شيء، الممنوعات وغيرها. وما عمله في غرفة على سطح العمارة سوى غسيل أموال. وبوساطة الأخوين ملاك وفانوس، تعمل بثينة السيد كسكرتيرة لدى زكي الدسوقي. بعد أن قرفت من العمل في متاجر الملابس، حيث أصحابها يبتزون العاملات لديهم لصالح نزواتهم الشخصية.

قصة حب فوق السطوح

ارتباطاً ببثينة، تبرز لنا شخصية طه الشاذلي «محمد إمام» في أول ظهور سينمائي له، يمثل شخصية الطالب الجامعي، ابن حارس العمارة، الذي يشقى مع أبيه، حيث يواظب على تنظيف أرضيات الممرات والسلالم في العمارة، وهو خطيب بثينة، بعد قصة حب منذ الصبا بينهما، ولكنهما على خلاف دائم، بسبب تحفّظ طه على عملها في محال الملابس، وعلى إثر مشادة كبيرة بينهما، ترمي خاتم الخطوبة عليه. لكنها تندم على ذلك، فتستعيد الخاتم منه، وهو ذاهب إلى اختبار القبول في كلية الشرطة، ولكن لم يتم قبوله، بسبب أن أباه بواب عمارة. الفساد المستشري في قيادات الشرطة له دور في ذلك، فلو كان قادراً على دفع مبلغ عشرين ألف جنيه في تسعينيات القرن الماضي، لكان قد قُبل تلقائياً.
الانتقام بالشهادة
يفتح الفيلم والرواية معاَ باباً على قضية الجهاد الإسلامي في تسعينيات القرن الماضي، حيث ينخرط طه في ذلك، بعد أن بدأ عهده الجامعي، فيشترك في المظاهرات أيام الجمع بعد الصلاة، ويُقبض عليه. وكان تعذيبه بقسوة ووحشية، إلى حد هتك عرضه، أثره في ولادة الرغبة الشديدة في الانتقام من سجانيه ومعذبيه. ينخرط في معسكر للجهاد، متلقياً تدريبات شاقة، وفنون قتالية، يزوجونه من مجاهدة، هي أرملة شهيد أيضاَ، إلى أن يحين موعد العملية وسط القاهرة، فجاء رفقة اثنين، متنكرين بسيارة مبيعات صحف (وفي الرواية سيارة قناني غاز) لاستهداف ضابط أمن الدولة، الذي يصيبه الشاذلي في مقتل، ومن ثم يستشهد في العملية.

الصعود السريع

عزام، كان قبل ثلاثين سنة يعمل إسكافياً أمام مدخل العمارة، ولكنه اختفى عشرات السنين، ليعود ثرياً، على خلفية الاتجار بالمخدرات. يحصل على مقعد في مجلس الشعب بدعم قوي ورشى ضخمة لشخصية متنفذة مثل كمال الفولي «خالد صالح»، الذي يترصد حصول عزام على توكيل سيارات يابانية، فيشترط كمال الفولي نسبة 25 في المئة من الأرباح، وإلا سُيرفع عنه كل الدعم، وتوجيه تهمة الاتجار بالمخدرات له. هنا انتقاد آخر لمافيات الفساد، في مصر تسعينيات القرن الماضي. تُوجّه التهمة فعلاً إلى عزام. ويستسلم للأمر الواقع. لكن في الرواية يلح عزام على أن يقابل الرجل الكبير، حيث يُبلّغ الأول بأنه سيلتقيه، لكن المقابلة كانت صوتية، يأتيه الصوت في غرفة أجلس فيها عزام، يهدده الكبير بأن كل ملفات حصوله على الثروة الضخمة لديهم.
أساليب مافيات
نشهد في خط عزام جانباً من حياته الشخصية حين يتزوج بالسر من سعاد «سمية الخشاب». حيازة الأثرياء على النفوذ والجاه تجعلهم يتجبرون على الفقراء. هذا ما حصل مع سعاد، ففي عملية تشبه ما تقوم به المافيات، تُختطف سراً من مجموعة رجال متنكرين بأزياء نساء، وتُحمل إلى المستشفى لأجل إجهاض جنينها قسراً، ويُرمى عليها الطلاق، لأجل ألاّ يشوش الطفل القادم على حياة عزام العائلية المستقرة مع الزوجة الأولى والأبناء الثلاثة، وكذلك عمله السياسي ونفوذه المالي.

النشأة العائلية هي السبب

هناك أيضاَ خط رئيس تحرير صحيفة فرنسية حاتم حسن رشيد «خالد الصاوي» من سكنة العمارة، وهو ذو ميول شاذة، على خلفية نشأته العائلية. فوالده حسن رشيد من أساطين القانون الدولي. لكنه لم يعر ابنه الحنان اللازم لتربيته تربية صحية. وكذلك والدته أيضاً الفرنسية الأصل وتعمل مترجمة، تهتم بعملها، أكثر مما تهتم بابنها. ولذلك عاش الابن مع الخدم، خاصة إدريس، الذي أثر فيه كثيراً، ورغم مكانته الإعلامية ووضعه الأرستقراطي، لم يعدل عن ميوله تلك. يغوي حاتم عسكري مكلف واسمه عبد ربه «باسم سمرة» يؤدي خدمة المرابطة أمام العمارة، وهو صعيدي. جلب زوجته وابنه لكي يسكنوا في إحدى غرف سطح العمارة، بدعم كامل من حاتم، كي يكون قريباً منه دائماً، يهمل عائلته بمنادمة حاتم في شقته طوال ساعات الليل، إلى أن يمرض ابنه، ولم يفلح نقله السريع في المستشفى، فقد مات. وعلى إثر ذلك يعود عبد ربه وزوجته إلى الصعيد.

مرجعية الرواية

في الأفلام التي تقتبس روايات مطبوعة، ننصح مشاهديها بقراءة تلك الروايات، لأن كل حدث كبير في الفيلم، تعرف أصداؤه بالتفصيل في النص المقروء، فقد توقف الراوي العليم كثيراً أمام مأساة موت الطفل وبكاء الجميع من حوله. ليس في هذا الحدث فحسب، فكل الأحداث الكبيرة في الفيلم، يجد القارئ امتداداتها الكبيرة في الرواية. حاتم يستمر في غواياته إلى أن يُقتل ويُسرق على يد شاب آخر. هناك عبرة ذهبية يمكن أن نستنتجها من شخصية حاتم، وهو أن التربية العائلية والاهتمام بالأبناء ومراقبتهم من أهم الأمور التي تلعب دوراً في شخصية الإنسان، عدا ذلك فمهما بلغ من رقي وظيفي، يبقى كما شبّ على شيء فيشيب عليه. لكن الروائي علاء الأسواني حاول أن ينصف هذه الشخصية، لربما هي حقيقية، ولو أنه يذكر في الحوار المذكور أعلاه «الناس الموجودون في العمارة ليست لهم علاقة بالسكان في الرواية والعكس». هذا الإنصاف يتضح في الرواية أكثر مما في الفيلم، عندما يظهره كشخصية كاريزمية في اجتماع ترؤسه لهيئة تحرير الجريدة، يوافق أو يرفض على الموضوعات المقترحة بحزم. في الرواية يتسع الحديث عنه بأنه من القياديين، الذين لا يخلطون العمل باهتماماتهم وميولهم الشخصية، وقد ردع أكثر من محرر حاولوا التعرض لما يوسم به والكل يعرفونه.

نهاية سعيدة

زكي الدسوقي، يمثل الأشخاص الأرستقراطيين الذين يعيشون على أمجاد الزمن الغابر قبل ثورة يوليو 1952، يشتد الخلاف بينه وبين دولت، التي حضّرت كل ما يلزم لأجل الحجر على زكي الدسوقي، وتورثه بالحياة كما يقول، قبل ألاّ يستنزف كل ما لديه على مغامراته النسائية. وكان مسك ختام زكي الدسوقي مع النساء بثينة، إذ تتوثق علاقتهما معاً، إلى درجة أنه أحبها، وبعد أن شعرت الأخيرة بذلك، تراجعت في اللحظة الاخيرة عما كلفه بها ملاك من الحصول على الشقة وفق عقد وهمي، يوقّع عليه زكي الدسوقي وهو مخمور جداً مقابل مبلغ 5000 جنيه، لكن بثينة تمزق العقد في صحوة ضمير، وإعلان حب لزكي الدسوقي. الهجوم الشديد من دولت هو إحضارها البوليس إلى المكتب، وكان هو مع بثينة في وضع غير أخلاقي، ولكنه سيصلح الأمور معها لاحقاً بإعلانه الزواج منها ومغادرتهما مصر إلى فرنسا. مثلما رُصدت للفيلم ميزانية ضخمة تقدّر بنحو مليوني جنيه مصري، حقّق إيرادات كبيرة تقدر بنحو تسعة عشر مليون جنيه مصري. وأول عرض للفيلم كان في مهرجان برلين السينمائي عام 2007. كذلك حققت الرواية نجاحاً رائعاً عند صدورها، حيث كانت أكثر الروايات العربية مبيعاً في العالم العربي، إذ تعد الأعلى مبيعاً للأعوام 2002- 2007.
*كاتب عراقي