لم يخلُ عرض فيلم “كان يا ما كان في غزة” للمخرجَيْن طرزان وعرب ناصر، ضمن المسابقة الدولية في مهرجان القاهرة السينمائي الـ46، من إثارة الجدل حول الموضوع الذي يطرحه، إذ يتناول المسكوت عنه داخل المجتمع الغزّاوي بعيداً من الصورة النمطية المتداولة. وقد تُوّج العمل بثلاث جوائز: أفضل فيلم عربي طويل، جائزة أفضل ممثّل لمجد عيد، وجائزة الهرم الفضي لأفضل مخرج.
وكان الفيلم قد عُرض للمرة الأولى عالمياً في مهرجان كان السينمائي، حيث فاز بجائزة أفضل إخراج في مسابقة “نظرة ما”. وتدور أحداثه في غزة عام 2007، حول طالب شاب يُدعى يحيى تجمعه صداقة مع صاحب مطعم يُدعى أسامة، ويبدآن معاً بيع الحبوب المخدّرة داخل ساندويتشات الفلافل، فيجدان نفسيهما بمواجهة شرطي فاسد.
“النهار” التقت الأخوين ناصر للحديث عن كواليس صناعة الفيلم والضجة التي أثارها.

ملصق فيلم كان يا ما كان في غزة (الصفحة الرسمية للفيلم)
ما الذي ألهمكما كتابة هذه القصة؟
يشغلنا “الإنسان كإنسان”، بغضّ النظر عن تنظيمه أو انتمائه أو جنسه أو دينه. هذه القصة امتداد لأعمالنا السابقة التي تستند إلى شخصيات من الواقع، مثل “ديغراديه” و”غزة مونامور”. أمّا في “كان يا ما كان في غزة”، فنروي حكاية الشباب الذين يعيشون محاصرين داخل مساحة ضيّقة لا فرص فيها، فيضطرّون إلى التقاط أي فرصة متاحة، لأن الخيارات المفروضة عليهم قليلة وقاسية.
غزة التي نشاهدها على الشاشة مختلفة كثيراً عن واقع اليوم… هل قصدتم إبراز هذا الفارق؟
ثمة فارق كبير. أحداث الفيلم تجري عام 2007، بينما غزة اليوم مُحيت بنسبة تصل إلى 80 أو 90 في المئة، وأصبحت عملياً “Expired”. بدأنا كتابة الفيلم عام 2015، وظلّ التطوير مستمراً حتى 2023، وكان جاهزاً قبل 7 تشرين الأول/أكتوبر. وعندما اندلعت الحرب، أمضينا خمسة أشهر نتابع الأخبار فقط، ثم عدنا إلى المشروع بإصرار على إنجازه، حتى لو لم يعالج الإبادة الجارية مباشرة.
اليوم، يتعامل العالم مع الفلسطينيين كأرقام وإحصاءات يومية، فيما هؤلاء بشرٌ كانت لهم حياة قد لا تكون مريحة، لكنها حياة كاملة بتفاصيلها ومعاناتها. أردنا تذكير العالم بذلك، وتسليط الضوء على المعاناة الممتدة منذ عام 1948، ولا سيما أن عام 2007 شكّل نقطة التحوّل التي اعتبرت فيها إسرائيل غزة “كياناً معادياً”، ففرضت الحصار وبنت الجدار وطبّقت عملياً فكرة السجن الحقيقي على القطاع.

لقاء النهار مع الأخوين ناصر
اخترتم عام 2007 لبداية الأحداث، بالنظر إلى ما مثّلته تلك الحقبة من تحوّلات وتغيّرات سياسية في الداخل الفلسطيني. هل كان ذلك إسقاطاً مقصوداً، باعتبارها المرحلة التي شهدت الانقسام بين “فتح” و”حماس”؟
ليس الانقسام هو المقصود، بل لأنّها كانت بداية فرض الحصار الإسرائيلي. كنا مهتمّين بالحديث عن الحصار تحديداً. صحيح أنّ تلك الفترة شهدت الانقسام، لكن حتى فوز “حماس” بالانتخابات جاء عبر انتخابات تشريعية وصوّت الناس لهم؛ فقد وصلوا باختيار شعبي في نهاية الأمر، وهذا الفوز أحدث إشكالية على مستوى العالم.
فالانقسام، في النهاية، شأنٌ فلسطيني داخلي، لكنّه جرى بدعم من إسرائيل لفصل غزة عن الضفة بشكل كامل. أمّا فرض الحصار فكان حجر الأساس في هذا المسار، وقد نجحوا فيه.
وُجّهت انتقادات إلى الفيلم بسبب تناوله المخدرات والفساد… كيف تردّون؟
هذه القراءات ليست مقصودة. فالفيلم يقدّم الإنسان الفلسطيني كإنسان عاش القمع والحصار، واضطرّ إلى خيارات فُرضت عليه. العمل ليس عن المخدرات أو الفساد بذاتهما، بل عن انعدام الخيار وفقدان الأمل داخل واقع خانق.
يحيى نموذج لشاب جامعي مسالم دفعته محاولة الخروج من غزة إلى مسار لم يختره. التطرّق إلى هذه التفاصيل لا يخرج الشخصيات عن سياقها الوطني، لأننا نرى المقاومة باعتبارها الدرع الحامي للقضية.
يوضح الفيلم أيضاً أن إسرائيل أدخلت المخدرات إلى غزة، وأن حكومة “حماس” واجهتها. ووجود ضابط فاسد داخل الأحداث لا يعني فساد المنظومة، بل فرداً يمكن محاسبته. هدفنا إظهار الإنسان الغزّاوي تحت حصار يطحن أكثر من مليوني شخص، وكيف تُفرض عليهم خيارات قسرية ضمن واقع قاسٍ. شخصيات الفيلم ليست أرقاماً، بل وجوه حقيقية، وبعضها فقد حياته في الحرب الأخيرة.

مشهد من كان يا ما كان في غزة (الصفحة الرسمية للفيلم)
لماذا اللجوء إلى الكوميديا الدرامية رغم ثقل الموضوع؟
هذه طبيعة الشخصية الغزّاوية. كنّا نمضي أسبوعين غير قادرين على التواصل مع أهلنا وسط القصف، وهم يعيشون مكدّسين في خيمة صغيرة. ومع ذلك، حين نسألهم عن أحوالهم، يجيبون بطريقة تنتزع الضحك رغم الألم. الغزّاوي يمتلك حسّاً فطرياً بالدعابة؛ والضحك هنا ليس كوميديا، بل تمرّس في مواجهة الألم، وتحويل المعاناة إلى سخرية تمنح صاحبها القدرة على الاستمرار.
ثمة إشكالية أُثيرت حول نهاية بطل الفيلم الذي يموت بنار صديقه ويتحوّل إلى “شهيد”، معتبرين أنّ هذا قد يُفسّر بطريقة ملتبسة. ما ردّكما؟
نرى أنّه شهيد لأن كلمة “شهادة” مشتقّة من “شاهد”، ومن يعيش في غزة هو شاهدٌ على الأوضاع المأسوية هناك. فنسب السرطان مرتفعة، وكثيرون يموتون لغياب العلاج أو استحالة السفر للعلاج، ولذلك نعتبر من يموت مريضاً شهيداً لأنه شهد هذه المعاناة. بطل الفيلم يحيى، وأسامة، وحتى الضابط سامي، جميعهم أبطال بالنسبة إلينا؛ فكلّ من عاش في غزة هو بطل وشهيد لأنه لم يستسلم رغم أن الخيارات فُرضت عليه. ولهذا كتبنا في نهاية الفيلم: “It will end” إيماناً منّا بأن كل ما يحدث له نهاية.
كيف استقبل الجمهور الأوروبي العمل؟
استُقبل الفيلم بشكل إيجابي. فالجمهور الأوروبي والعربي يُفاجأ دائماً عندما يكتشف أنّ هذه هي حياة الغزّيين فعلاً؛ إذ يشاهد في أفلامنا وجوهاً وحكايات لا يعرفها، لأنّ الصورة النمطية التي تكرّسها شاشات التلفزة تجعل غزة تبدو وكأنها ساحة حرب وحصار فقط. لا أحد يَعرف كيف يعيش أهلها حقاً، وهذا ما نحاول تقديمه عبر أعمالنا.
كيف تنظرون إلى السينما كأداة مقاومة وحفظ للذاكرة؟
السينما أداة بالغة الأهمية. فالمعركة اليوم ليست بالسلاح فقط، بل بالكلمة والصورة أيضاً، والإسرائيليون يدركون ذلك جيداً. منذ تأسيس إسرائيل، تعمل على تشويه صورة الفلسطيني وتقديمه كـ”إرهابي”، بينما لا يسأل أحد كيف يعيش الغزّاوي وكيف يتعامل مع الحياة داخل هذا السجن الجائر.
القضية في جزء كبير منها قضية صورة: هذا الإنسان يحبّ ويعيش ويحلم وله طموحات. والسينما بالنسبة إلينا وسيلة لإيصال صوته إلى العالم.
