يأتي كتاب “مصباح الشذرات” للكاتبة اللبنانية غادة علي كلش كعودة هادئة إلى جوهر ما تبقّى من المعنى في زمن يركض أسرع مما ينبغي. خمسون صفحة فقط، أكثر من مئتي شذرة، وبضع ومضات مستلّة من ليل الذات ومن فسحة التأمّل التي لا تنطفئ في روح كاتبة أمضت أكثر من ثلاثة عقود في مهنة اللغة والقراءة والكتابة.

 

غادة كلش، ابنة بيروت، الصحافية والناقدة التي صاغت قواميسها الشخصية في مكاتب مجلة الكفاح العربي على مدى عشرين عاما، تعود في “مصباح الشذرات” إلى ما يشبه خيط الضوء الأخير،  ذلك الذي يلمع في العتمة ليذكّر بأن اللغة، حين تكون صادقة، لا تكبر بالعمر بل بتجربته. هذا الكتاب ليس مجرد خواطر، بل هو حصيلة امرأة حملت القلم كما يُحمل مفتاح بيت قديم: لا تفتحه إلا حين ينتابك الحنين، ولا تغلقه إلا حين يستريح القلب من ضجيج العالم.

 

غلاف الكتاب

غلاف الكتاب

 

منذ الشذرة الأولى، يعرف القارئ أنه أمام نصّ يكتنز العمر في جملة، ويختصر الرحلة في استعارة: “نحن لا نغادر النهار أوّل الليل، بل إنّ النهار هو الذي يعود إلينا آخر اللّيل”.

هذه العبارة وحدها يمكن أن تقوم مقام فصل كامل في كتاب عن الزمن. فالنهار هنا ليس وقتاً بل معنى، والليل ليس ظلاماً بل عمقاً. وبينهما تمشي الكاتبة في ممرّات العمر كمن يمسّح الغبار عن مرايا الذاكرة.

ينتقل الكتاب بين محاور: ليل، رؤى، حرب، عبر، كلام، قلب، حنين… وكل محور شذراته عالم قائم بذاته. إنّ غادة كلش تتعامل مع اللغة كما يتعامل الخزّاف مع الطين: تُنقّي، تُكثّف، ثم تُطلق العبارة في فضاء القارئ لتستقر فيه بلا ضجيج. ولعلّ أبرز ما يميّز نصّها هو تلك القدرة على الجمع بين البساطة والعمق، بين الرهافة والقسوة، بين حكمة التجربة وطفولة السؤال.

في شذراتها عن الرؤى، تقول: “نحن نحسب عدد أعوامنا ولا نحسب عدد أعمالنا، لذلك تغدو أعمارنا مجرد أرقام سارية في بحر أقوالنا”.
هنا، تتقاطع تجربة الكاتبة النقدية مع نبرة الفيلسوف الصامت. لا شيء يُقاس بالزمن وحده. العمر الحقيقي هو ما يترك أثره، لا ما يُكتَب في السجلات.

أمّا في شذرات الحرب، فتطلّ بيروت، تلك المدينة التي عاشت على خطوط النار، والتي رأت الكاتبة من نوافذها شحوب البيوت وملح الخوف على وجوه الناس. لكنها لا تكتب الحرب من الخارج، تكتبها من الداخل، من الطبقات العميقة التي يخلّفها الدمار على الروح:
“الحياة حرب طويلة، وسلامها هدنة قصيرة”. إنّه توصيف يعادل كتاباً في علم الاجتماع السياسي، ولكنه في لغة الشذرة يمرّ كنسيم بارد على جمر الذاكرة.

في مصباح الشذرات، الصادر عن “عين حورس”، تمتلك الكاتبة حاسّة خاصة للتمييز بين المفردة الـ”حصرم” والمفردة الناضجة: “اصطياد جوهر المعنى لا يتم بتصويب السهم، بل يتم بتصويب الفهم”. كأنها تعيد تلقين القارئ درساً قديماً: أن اللغة ليست زخرفة، بل بصيرة. وأن الكلمة، كي تستقيم، تحتاج إلى عقل يسقيها كما يسقي الفلاح بيدر القمح.

اللافت في الكتاب هو حضور الحنين، لا بوصفه حالة عاطفية، بل بوصفه فلسفة وجود. فالكاتبة التي حاورت كبار الشعراء والروائيين، والتي جابت مسارح الثقافة العربية، تبدو هنا وكأنها تتأمل المسافة بين ما عاشته وما تبقّى منها. في شذرة تقول:
“هياكل البيوت لمن؟ لوجه الزمان أم لخيال المكان أم لأثر الإنسان؟”
إنه سؤال يشبه وقوفنا الصامت أمام بيت قديم: ماذا بقي منه؟ وماذا بقي فينا؟.

بهذا المعنى، يمنح الكتاب لحظة تأمل نادرة في زمن السرعة. يذكّر بأن الكلمة، حين تُصاغ بصدق، تصبح أكثر من “شذرة”؛ تصبح أثراً. وغادة علي كلش، في هذا الكتاب، تبدو كما لو أنها تعود إلى أصلها الأول: امرأة أعطتها الحياة كثيراً من الأسباب كي تصمت، لكنها اختارت أن تكتب.

وها هو “مصباح الشذرات” يضيء الطريق، لا للقارئ فحسب، بل للكلمة نفسها.