بعد مزاد دام نحو 20 دقيقة في دار سوذبيز في نيويورك، بيعت لوحة “بورتريه إليزابيث ليدرير” للفنان النمساوي غوستاف كليمت الثلاثاء الماضي (19 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري) بمبلغ 236.4 مليون دولار.

وبهذا تصبح اللوحة ثاني أغلى عمل فني يُباع في مزاد علني على الإطلاق بعد لوحة “سالفاتور موندي” لليوناردو دافنشي، التي بيعت مقابل 450 مليون دولار في نيويورك عام 2017.

وتجاوز هذا البيع الرقم القياسي السابق الذي سجّلته لوحة لأندي وارهول تصوّر مارلين مونرو التي بيعت مقابل 195 مليون دولار عام 2022.

ولم تعلن “سوذبيز” عن اسم المشتري الذي كان من بين ستة مزايدين على اللوحة التي كان سعرها التقديري يبلغ 150 مليون دولار. 

لوحة بورتريه إليزابيث ليدرير لكليمت التي أصبحت ثاني أغلى لوحة في التاريخ – غيتي

رُسمت اللوحة ما بين عامي 1914 و1916، وهي بالطول الطبيعي (نحو 1.8 متر)، وتصوّر إليزابيث ابنة راعييه الفنيين رجل الأعمال النمساوي اليهودي أوغسطس ليدرير (1857-1936) وزوجته سيرينا (1867-1943). 

ورسم كليمت إليزابيث ليدرير عندما كانت في العشرين من عمرها، وتظهر في اللوحة مرتدية ثوبًا صينيًا أبيض، أمام نسيج جداري أزرق بزخارف مستوحاة من الثقافة الآسيوية.

كليمت ونساء العائلات اليهودية في فيينا

تُعدّ اللوحة أحد البورتريهات النادرة التي رسمها كليمت كاملة الطول، ومنها بورتريه رسمه لأم إليزابيث (سيرينا) عام 1899، وهو مملوك لمتحف متروبوليتان للفنون في نيويورك.  

ونجت اللوحتان من مصادرة النازيين للأعمال الفنية، ومنها مجموعة مقتنيات أوغسطس وسيرينا ليدرير الفنية الضخمة بعد احتلال النمسا. 

بورتريهات كليمت لنساء العائلات اليهودية لم تبقَ لوحات حائط، بل صارت وثائق ملكية ونجاة، تُستعاد بعد عقود من المصادرة النازية

كما رسم كليمت أيضًا والدة سيرينا، شارلوت بوليتزر (حفيدة الصحفي الأميركي جوزيف بوليتزر الذي تحمل اسمه جائزة بوليتزر للصحافة)، ليصبح رسّام ثلاثة أجيال من النساء في عائلة ليدرير الثرية (الجدة والابنة والحفيدة). 

والأم سيرينا، من مواليد بودابست (هنغاريا) لعائلة يهودية ثرية، وشكّلت وزوجها الصناعي أوغسطس ثنائيًا من بين أكبر جامعي التحف والأعمال الفنية في أوروبا.

​بورتريه رسمه كليمت لوالدة إليزابيث (سيرينا) بالحجم الطبيعي عام 1899 – مواقع التواصل 

وكانت سيرينا تعرّفت إلى كليمت عام 1888، قبل زواجها، ورسمها الفنان آنذاك في لوحة صغيرة الحجم، ومنذ ذلك الوقت تحولت إلى راعيته الرئيسية، واشترت وزوجها أغلب لوحاته ورعت تحوّلاته الفنية.  

وبعد مصادرة النازيين لمقتنيات عائلة ليدرير، شهدت اللوحات الناجية لكليمت نزاعاتٍ مريرة على الملكية، ومن بينها لوحة “بورتريه إليزابيث ليدرير” التي استعادها شقيقها إريك عام 1948 واحتفظ بها حتى أواخر حياته.

وبعد ذلك بيعت اللوحة لأحد تجار الفن قبل أن يشتريها ليونارد لاودر أحد أبرز روّاد صناعة مستحضرات التجميل في العالم.

النازية ونساء كليمت واللوحات المصادَرة 

لا تتمتع لوحة “بورتريه إليزابيث ليدرير” بأهمية استثنائية من الناحية الفنية في مسيرة كليمت، بل بأهمية في السياق اليهودي الأوروبي وارتباطه بالنازية، ما يفسر ارتفاع قيمتها السوقية.

وللفنان النمساوي، وهو كاثوليكي وليس يهوديًا، العشرات من اللوحات الفنية التي تتمتع بأهمية كبيرة في مسيرة التشكيل في العالم، لكنّ أسعارها ظلت معتدلة في مزادات الفنون، على خلاف لوحاته التي رسمها لسيدات يهوديات كنّ زوجات أو بنات كبار رجال الأعمال اليهود في النمسا.

وفي حالة “بورتريه إليزابيث ليدرير”، تكتسب اللوحة أهمية استثنائية، إذ شكّلت طوق نجاة لابنة أوغسطس وسيرينا اللذين كانا من أغنى العائلات النمساوية، من مصير قاس واجهه كثير من الأثرياء اليهود في الحقبة النازية. 

ويرجّح بعض المؤرخين أن عائلة ليدرير كانت ثاني العائلات ثراءً بعد عائلة روتشيلد.

صورة تعود إلى عام 1890 لكليمت (وسط) في فيينا – غيتي

توفي أوغسطس عام 1936، وهربت سيرينا إلى هنغاريا (المجر) بعد احتلال النازيين للنمسا، وبقيت الابنة في فيينا. 

ولإنقاذ نفسها من الاضطهاد، زعمت إليزابيث أن الفنان الشهير كليمت هو والدها، مستندة إلى سمعته زيرًا للنساء (أنجب 14 ابنًا غير شرعي من علاقات متعددة)، وإلى المدة الطويلة التي أنجز فيها البورتريه الخاص بها، ما أتاح لها النجاة من المطاردة والاضطهاد والعيش في فيينا بأمان حتى وفاتها عام 1944.

بورتريه أديل.. راعية أم عشيقة؟

لم يكن “بورتريه إليزابيث” اللوحة الوحيدة التي ربطت بين كليمت والطبقة اليهودية الثرية، ما جعل كثيرين يظنونه يهوديًا، ورفع أسعار لوحاته خصوصًا التي رسمها لزوجات أو بنات رجال الأعمال اليهود في النمسا.   

ومن هذه اللوحات “بورتريه أديل بلوخ باور” التي رسمها عام 1907، وحققت رقمًا قياسيًا عالميًا في يونيو/ حزيران 2006، إذ بيعت بـ135 مليون دولار أميركي، وأصبحت في حينه الأغلى في التاريخ المعاصر.

واشترى اللوحة قطب مستحضرات التجميل رونالد لاودر الذي سبق له شراء لوحة “بورتريه إليزابيث ليدرير”.

بيعت لوحة بورتريه أديل عام 2006 بـ135 مليون دولار – غيتي

امرأة مرسومة بأوراق الذهب

وأديل التي رسمها كليمت مرتين، هي زوجة رجل الأعمال اليهودي فرديناند بلوخ باور الذي كان يعمل بصناعة السكر.

وكما كان أغسطس وسيرينا ليدرير من كبار مقتني اللوحات والأعمال الفنية، كانت كذلك أديل وزوجها، حيث جمعا المئات من القطع الفنية.

استولى النازيون على اللوحة التي تعرف باسم آخر هو “امرأة بالذهب”، وتظهر فيها أديل بثوب ذهبي ومحاطة بزخارف مذهبة، واستخدم كليمت في تنفيذ اللوحة أوراق الذهب والفضة، مستلهمًا الفسيفساء البيزنطية. 

وعرفت اللوحة رواجًا أكبر لدى الجمهور بعد إنتاج هوليوود فيلمًا عنها عام 2015، من بطولة هيلين ميرين.

بورتريه ثان لأديل رسمه كليمت واقتنته أوبرا وينفري – مواقع التواصل

ما بين أوبرا وينفري وكليمت

رسم كليمت بورتريه ثانيًا لأديل التي يُعتقد أنها أكثر امرأة ظهرت في لوحاته. وكان البورتريه الثاني ملكًا لمقدمة البرامج التلفزيونية الأميركية أوبرا وينفري التي اشترت اللوحة عام 2006 بنحو 87 مليون دولار، وباعتها بنحو 150 مليون دولار عام 2016 لمشتر صيني لم تُعرف هويته.

وبالإضافة إلى هاتين اللوحتين، ظهرت أديل في لوحة كليمت “جوديث ورأس هولوفيرنيس” ذات الثيمة اليهودية الخالصة والتي رسمها عام 1901. 

لوحة كليمت “جوديث ورأس هولوفيرنيس” – غيتي

قابلت أديل كليمت في نهاية تسعينيات القرن التاسع عشر، ويذهب كثير من مؤرخيه إلى أنها لم تكن موديلًا له بل عشيقته أيضًا.

ووصف بعض النقاد المرأة في لوحته الأكثر شهرة “القبلة” بأنها تشبه أديل، رغم أن آخرين يرجّحون أن تكون إميلي لويز فلوغ، مصممة الأزياء وشقيقة زوجة أخيه، التي كانت العلاقة النسائية الوحيدة الدائمة في حياته العاطفية المتقلّبة.   

بورتريه الآنسة ليسر

في أبريل/ نيسان 2024، بيعت لوحة أخرى لكليمت كانت مفقودة لنحو مئة عام، بنحو 30 مليون يورو ضمن مزاد في فيينا، واللوحة أيضًا بورتريه لإحدى نساء عائلة ليسر الصناعية اليهودية. 

بورتريه الآنسة ليسر لوحة لكليمت كانت مفقودة لنحو قرن – غيتي

رغم أن المبلغ يبدو متواضعًا مقارنة بأسعار لوحاته الأخرى، فإنه يشكّل رقمًا قياسيًا لمزاد يُقام في النمسا.

وتمثّل اللوحة امرأة شابة سمراء ذات ملامح واضحة، ترتدي سترة مطبّعة بالورود على خلفية حمراء، ولم تعرف هويتها، رغم الإجماع على أنها تتحدر من عائلة ليسر. 

واللوحة غير موقّعة ولم يكتمل إنجازها، وتعود إلى عام 1917، أي إلى قبل عام واحد من وفاة كليمت.  

لوحة “الأمل” التي يتجلى فيها أسلوب كليمت الحداثي – غيتي

إضافة إلى اللوحات السابقة التي رسمها كليمت لنساء يهوديات، كان الكثير من لوحاته من مقتنيات عائلات يهودية ثرية وصودرت في الحقبة النازية، منها لوحة “شجيرات الورد تحت الأشجار” التي رسمها عام 1905، واقتنتها عائلة يهودية قبل أن يستولي عليها النازيون في ثلاثينيات القرن الماضي.

أعادت فرنسا اللوحة التي كانت معروضة في متحف “دورسيه” في باريس إلى أصحابها (عائلة نورا ستياسني) عام 2021 بعد أكثر من 80 عامًا على فقدانها.  

صادرت النازية العديد من أعمال كليمت خلال احتلالها النمسا – غيتي

من هو غوستاف كليمت؟

ولد غوستاف كليمت (1862 – 1918) في بومغارتن بالقرب من العاصمة النمساوية فيينا لأب كان نقّاشًا للذهب، وكان الثاني من سبعة أطفال لوالديه.

كل لوحة من لوحات كليمت المصادَرة تحمل قصة مزدوجة: قصة امرأة مرفّهة في فيينا القديمة، وقصة عائلة تحاول استعادة اسمها وذاكرتها بعد النازية

درس الفنون التطبيقية والزخرفة المعمارية في مدرسة الفنون التطبيقية في فيينا، وبدأ مسيرته الفنية برسم الجداريات الداخلية والسقوف في المباني العامة في العاصمة النمساوية. 

وأصبح كليمت ومواطنه إيغون شيليه (1890-1918) من مؤسسي حركة “يوغندشتيل” (الطراز الفني) وحركة الانفصال التي كانت مقدمة للحركة التعبيرية الألمانية.

القبلة التي رسمها كليمت ما بين 1907 و1908 وتعتبر أشهر أعماله – غيتي

اشتغل كليمت بشكل رئيسي على جسد المرأة، ووصفت أعماله بالأيروسية خاصة في الاسكتشات التي كان ينفذها بالأقلام.

وتعتبر لوحة “القبلة” التي نفّذها بالألوان الزيتية وأوراق الفضة والذهب والبلاتين من أشهر أعماله، ورسمها ما بين عامي 1907 و1908.