ما شهدته الرياض يوم السبت لم يكن مجرد حدث موسيقي، بل خطوة نوعية ترفع الستار عن كنوز عربية مدفونة منذ قرون، وتؤسس لمرحلة جديدة في البحث الموسيقي وتوثيق التراث في العالم العربي.

في كلمته خلال المؤتمر، أكد رئيس مجلس إدارة الهيئة العامة للترفيه المستشار تركي آل الشيخ أنّ فكرة عقد مؤتمر الموسيقى العربية جاءت استجابة لحاجة فعلية لدى المشهدين الفني والبحثي، بهدف دراسة الأنماط الموسيقية وتوثيق المقامات والإيقاعات بأسلوب علمي رصين. ووجّه دعوة واضحة لإنجاز توثيق شامل للمقامات الشرقية الصوتية خلال عامين، على أن يمتد لاحقاً ليشمل المقامات الشرقية في إيران، “تعزيزاً لشمولية العمل وإثراءً للمحتوى الموسيقي العربي والشرقي”.

وأشار إلى ضرورة التكامل بين الجهات المعنية، وتسجيل المقامات والإيقاعات وتصويرها ضمن منهجية موحدة، مستفيدين من الإمكانات التقنية المتقدمة لـ”استديو مرواس”. كما شدّد على أهمية إنشاء مقرّ متخصص لتعليم الموسيقى يتناسب مع الاحتياجات الأكاديمية ويؤهّل الأجيال القادمة. وفي رسالة ذات بعد عربي شامل قال: “نحن يد واحدة، والرياض وجميع العواصم العربية هي عواصم للفن”.

وخصّ آل الشيخ شكره لوزير الثقافة الأمير بدر بن عبدالله بن فرحان تقديراً لجهوده الكبيرة في تطوير القطاع الثقافي ودعمه المستمر للمبادرات التي تعزّز الهوية السعودية وتفتح المجال أمام الإبداع. كما خصّ فنان العرب محمد عبده بالتحية، مشيراً إلى أنّ 50% من عازفي فرقته هم سعوديون، في إنجاز يكرّس تطور الكفاءات المحلية.

 

 

أما الأمير أحمد بن سلطان بن عبدالعزيز، الملحّن “سهم”، فقال لـ”النهار”: “الموسيقى زمن في نغم وليس نغم في زمن… هذه المدرسة التي ننتمي لها، فالزمن شيء مهم”. 

وتابع: “أجمل ما قيل عن المؤتمر هو اكتشاف كنوز حقيقية، لكن على الجيل الجديد أن يعي قيمتها. نحن والذين قبلنا سعينا بمجهوداتنا الشخصية للتعرّف على علوم الموسيقى لأنها لغة عالمية. أنتم الجيل الجديد لديكم منابر ومبان وعلوم ومدرّسون… أرجو أخذ الفرصة بالجدية الكافية”.

 

رحلة توثيق الموسيقى: من القاهرة 1932 إلى الرياض 2025

بعد ثمانية أشهر من عمل متواصل شاركت فيه لجان من كل الدول العربية إضافة إلى تركيا، خرج المؤتمر بتوصيات تهدف إلى صون التراث الموسيقي العربي عبر منهجية تجمع بين البحث الميداني والتحليل الأكاديمي. ويرتكز على جمع الأداءات الشعبية من مصادرها الأصلية وتوثيقها صوتياً ونوتياً، إلى جانب مراجعة المصطلحات التاريخية التي وردت في مؤتمر القاهرة عام 1932 وتحديثها وفق احتياجات البحث المعاصر.

رئيس اللجنة العليا للمؤتمر، الموسيقار الدكتور بسام بن غازي البلوشي، قال لـ”النهار”: “عندما نتكلم عن موسيقى المملكة، نتكلم عن موسيقى تبدأ ولا تنتهي”. وشرح أنّ العمل كشف حجم التنوع الهائل في الموسيقى السعودية: “وثّقنا إيقاعات و14 مقاماً حجازياً. اكتشفنا فنوناً لا يعرفها حتى أهل المملكة”.

وأوضح أنّه عاش شخصياً في الميدان، متنقلاً بين الكويت والمملكة لأسابيع طويلة لجمع الإيقاعات والمقامات الحجازية وتحليلها، وصولاً إلى موسوعة تتضمن أكثر من 2000 صفحة. وكشف أنّ هذه الموسوعة ستوزّع على الجامعات العربية والعالمية مثل “أكسفورد”، “هارفرد”، “السوربون”، و”MIT”، بعد ترجمتها إلى الإنكليزية.

 

 

خلال انعقاد مؤتمر الموسيقى العربية في الرياض (الهيئة العامة للترفيه)

خلال انعقاد مؤتمر الموسيقى العربية في الرياض (الهيئة العامة للترفيه)

 

أصداء عربية واسعة تُتوّج مشروع توثيق موسيقي تاريخي في الرياض

الفنان السعودي رابح صقر قال إنّ “توثيق الإيقاعات والموروث الشعبي ليس لنا فقط، بل للجيل المقبل”، معتبراً أنّ المشروع يعيد الاعتبار لتراث طال انتظاره ليُكتب علمياً.

أما الفنان السعودي عبادي الجوهر فكشف أنّ فنون الجزيرة لم تكن موثّقة في مؤتمر القاهرة 1932، مضيفاً أنّ ما يحصل اليوم هو “مجهود كبير” أعاد إدخال المقامات والإيقاعات الخليجية إلى الأكاديميا العالمية. وأضاف متأثراً: “كان جميلاً أن نرى عازفاً أميركياً يؤدّي موسيقانا بمقاماتنا… وسأسعى للقائه”.

هذا اللقاء كان بالنسبة العازف الأميركي غبرييل لافين “أشبه بحلم”، كما قال لـ”النهار”. وقد أدّى خلال المؤتمر موسيقى خليجية على آلة العود أمام عبادي الجوهر ونخبة من الفنانين، قائلاً: “كانت لحظة ضغط وشرف في آن… هذه هي المرة الأولى التي أعزف فيها أمام من ألهمني لحمل العود”.

 

 

فنانون عرب في مؤتمر الموسيقى العربية في الرياض (الهيئة العامة للترفيه)

فنانون عرب في مؤتمر الموسيقى العربية في الرياض (الهيئة العامة للترفيه)

 

الفنانة اللبنانية غادة شبير عبّرت عن فخرها بعودة ذكر الأنغام السريانية للمرة الأولى منذ مؤتمر القاهرة، مؤكدة أنّ لبنان لعب دوراً محورياً في توثيق المقامات اللبنانية والسورية والأردنية والفلسطينية ومقامات الأكراد.

وأشاد الناقد المصري طارق الشناوي بعمق المشروع قائلاً: “المملكة دخلت إلى التاريخ والعمق لتوثيق الإبداعات العربية عبر قرون… وهذا يُحسب لهذه الفكرة العظيمة”. واعتبر أنّ إدخال الموسيقى الكردية والإيرانية إضافة مهمّة تعكس رؤية شمولية.

 

 

باحثون وملحنون وموسيقيون في مؤتمر الموسيقى العربية في الرياض (الهيئة العامة للترفيه)

باحثون وملحنون وموسيقيون في مؤتمر الموسيقى العربية في الرياض (الهيئة العامة للترفيه)

 

وفي السياق نفسه، كشف عازف الكلارينت التركي سيركان حقي أنّ فريقه بذل جهداً كبيراً لصياغة بحث موسيقي تركي بلغة عربية أكاديمية، مضيفاً: “العائق الوحيد كان اللغة… حاولنا للمرة الأولى تقديم بحث أكاديمي بالعربية يتحدّث عن الموسيقى التركية وتفاصيلها”. وأضاف: “كي تفهم جمال كل موسيقى عليك أيضاً أن تفهم لغتها”.

بمشاركة باحثين وخبراء وموسيقيين من العالم العربي وتركيا والولايات المتحدة، يكرّس مؤتمر الموسيقى العربية في الرياض لحظة مفصلية تعيد الاعتبار لمئات المقامات والإيقاعات، وتجمعها في مرجع موحّد سيشكّل حجر أساس للأجيال المقبلة، ويضع التراث الموسيقي على طريق عالمي جديد.