صدر عن دار “نلسن” في بيروت كتاب “أم كلثوم… يوميّات الغناء (1925-1973)”، دوّنها العراقي مصطفى المدرّس، وكان رئيس مركز تراث أم كلثوم في لندن، وأعدها د.ڤكتور سحّاب، وقدّم لها المايسترو سليم سحّاب…
بعد القسم الأول، هنا القسم الثاني والأخير من المقدمة:
أم كلثوم وثورة يوليو
وتتوالى المواسم لنصل إلى ثورة يوليو/ تموز1952 فيبدأ نوع جديد من الأغنيات يدخل إلى حفلات “الست”، وهي الأغاني الوطنية. ولا بد من التنويه باجتماعات مجلس قيادة الثورة (بعد مدة من توقف الإذاعة المصرية عن إذاعة أغاني أم كلثوم لسبب أغانيها للملك السابق وبناء على أمر من أحد المسؤولين الجدد). فقد اقترح أحد الضباط الشباب بالاستمرار في منع أغاني أم كلثوم من الإذاعة المصرية بسبب أغانيها للعهد السابق وبمناسبات عائلية تخص هذا العهد، فما كان من الزعيم جمال عبد الناصر إلاّ أن أجاب: الشمس كانت تشرق في عهد الملك فاروق فهل نلغيها؟ وكانت هذه الكلمات كفيلة لإنهاء الموضوع إلى الأبد.
أول أغنية وطنية قدمتها أم كلثوم في حفلة عامة بعد الثورة كانت “مصر تتحدث عن نفسها” (وقف الخلق – حافظ إبراهيم ورياض السنباطي) في حفلة دار سينما ريفولي في بداية موسم 1952-1953 يوم 2 أكتوبر/ تشرين أول وكانت قد غنتها للمرة الأولى في 7 ديسمبر/ كانون أول 1950 وهي أول أغنية وطنية تغنيها في حفلة 2 أكتوبر/ تشرين أول 1952 وكانت تحية منها للثورة. والدليل القاطع على ذلك هو الأغنية الثانية في نفس الحفلة “صوت الوطن” مصر التي في خاطري وفى فمي (أحمد رامي ورياض السنباطي) التي غنتها للمرة الأولى. وكانت ثالثة الأغاني في هذه الحفلة أغنيتها العاطفية الوجدانية الرثائية التأملية التعبيرية “سهران لوحدي” (أحمد رامي ورياض السنباطي) التي غنتها يومذاك للمرة الحادية والعشرين.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن بعد موسم 1952 لم تعد أم كلثوم تقدم أغنيات وطنية إلاّ في حفلات المناسبات الوطنية التي كانت تشارك فيها في نادى الضباط.
ويذكر هذا المجلد العجيب أن أم كلثوم ألغت ثلاث حفلات وهي: 2 إبريل/ نيسان و7 مايو/ أيار و4 يونيه/ حزيران 1953 بسبب سفرها للعلاج. ولرحلة العلاج هذه قصة لا بد من ذكرها للتاريخ وقد رواها لي الدكتور الصديق حسن محمّد الحفناوي ابن الدكتور الحفناوي رفيق عمر أم كلثوم. فبعد وصول أم كلثوم وزوجها الدكتور إلى مستشفى ماي كلينك التابع للبحرية الأميركية، وهو أهم مستشفى في أميركا، جاء الطبيب المتخصص في الحنجرة ليكشف عليها. وما إن نظر داخل فمها حتى صرخ: oh, my God (يا إلهي) وانطلق راكضا. ويروي لي الصديق الدكتور حسن الحفناوي بأن أباه ارتعب وظن أن الدكتور اكتشف شيئا سيئا. وما هي إلاّ ثوان حتى رجع ومعه طابور من الأطباء الشباب وقال لهم: “انظروا إلى هذه الحبال الصوتية فإنكم لن تروا مثلها في حياتكم”.
أم كلثوم وعبد الناصر
وبرز بعد الثورة أسلوب جديد في تقديم أغنيات أم كلثوم الوطنية من خلال الإذاعة دون تسجيلها على أسطوانات. من هذه الأغنيات قصيدة الجلاء “بأبي وروحي” التي أذاعتها إذاعة القاهرة يوم 12 إبريل/نيسان 1954، (أحمد شوقي- رياض السنباطي) في أعقاب توقيع اتفاقية الجلاء ولم تسجل على أسطوانات، ونشيد الجلاء “يا مصر إن الحق جاء” بمناسبة عيد الجلاء ولم يسجل على أسطوانات. ويأتي موسم 1955 وتأتي أم كلثوم إلى لبنان لتقديم حفلتين: الأولى في قصر الاونيسكو الذي دمره الطيران الإسرائيلي في أثناء اجتياح لبنان سنة 1982. الحفلة أقيمت يوم 25 أغسطس/ آب 1955. الحفلة الثانية أقيمت في بيسين عاليه يوم 29 أغسطس/ آب ومن ضمن ما غنت في هذه الحفلة “يا ظالمني” للمرة السابعة عشرة. ومن سمع هذا التسجيل يدرك أنه من أعظم تسجيلات هذه الأغنية إن لم يكن أعظمها. وكان من حظي أني سمعت نقل هذه الحفلة المباشر من إذاعة بيروت. وكنت آنذاك مراهقا. فكانت هذه الأغنية بداية اهتمامي بأم كلثوم وأغانيها.
وفي موسم 1955-1956 يظهر البرنامج الإذاعي العظيم تأليفا وتمثيلاً وإخراجا وتلحينا وغناءً: “رابعة العدويّة” ليُظهر عبقرية ملحنين شابين: محمّد الموجي وكمال الطويل، ويضعهما جنبا إلى جنب مع إحدى أعظم الشخصيات الموسيقية في تاريخ الموسيقى العربية: رياض السنباطي. ويكفي أن نذكر “انقروا الدفوف” و”حانة الأقدار” التي أبدع فيها طاهر أبو فاشا (مؤلف البرنامج وناظم كل أغانيه) وتجلّت فيها الصوفية الرومانسية العميقة عند محمّد الموجي، كما ظهر في “لغيرك ما مددت يدا” تأثُّر كمال الطويل الخلاق بصوفية رياض السنباطي. ونواصل رحلتنا على صفحات هذا المجلد لنصل إلى أكتوبر/ تشرين أول 1956 حين أذاعت إذاعة القاهرة نشيد “والله زمان يا سلاحي” (صلاح جاهين وكمال الطويل) في أعقاب العدوان الثلاثي على مصر، وهو نشيد برأيي لا يقل إطلاقا عظمة لحنية وطاقة تاريخية عن نشيد المارسيّاز الفرنسي. كما أصدرت “صوت القاهرة” أسطوانة له. وهذا النشيد كان أوفر حظا من أغنية “صوت السلام” (بيرم التونسي – رياض السنباطي) التي “أذاعتها إذاعة القاهرة يوم 4 ديسمبر/ كانون أول 1956 في ذكرى عيد النصر بعد العدوان الثلاثي على مصر ولم تُسجل على أسطوانة”.
وتتوالى المواسم الغنائية فتذيع إذاعة القاهرة يوم 26 فبراير/ شباط 1958 قصيدة “يا رُبى الفيحاء” بمناسبة إعلان الوحدة بين مصر وسورية ولم تُسجل على أسطوانة. وتأتي التحية لثورة العراق في أغنيتين، فتذاع يوم 23 يوليو/ تموز 1958 أغنية “منصورة يا ثورة أحرار” (عبد الفتاح مصطفى- رياض السنباطي) ولم تُسجَّل على أسطوانة. وبعدها بأسبوع (30 يوليو/ تموز) تطلق إذاعة القاهرة قصيدة “بغداد يا قلعة الأسود” (محمود حسن إسماعيل – رياض السنباطي) التي صدرت على أسطوانة “صوت القاهرة”.
ويأتي موسم 1962-1963، وتأتي أم كلثوم إلى لبنان حيث أقامت حفلتين في بيسين عاليه. الأولى في 5 سبتمبر/ أيلول وغنت فيها “حسيبك للزمن” – “أنساك” – و”أنا وأنت ظلمنا الحب”. والحفلة الثانية في 8 سبتمبر/ أيلول حيث غنت “حيرت قلبي معاك” – “ليلي ونهاري” – و “حب إيه”. وهذه الحفلة الوحيدة التي سمعت فيها أم كلثوم شخصيا. وكنت أتابع بمنظار مكبّر أصابع “العظمة” (عباس فؤاد) على الكونترباص، وأصبع إبراهيم العفيفي المذهلة على الرق والعمالقة محمّد عبده صالح على القانون ومحمّد القصبجي على العود. وقد اكتشفت في هذه الحفلة “كاريزما” أم كلثوم التاريخية وتأثيرها المغناطيسي على جمهورها، هذا التأثير الذي لم أكن أفهمه إطلاقا قبل حضوري لحفلتها شخصيا. فقد كنت أقف على مقعدي صارخا مطالبا مع الآخرين بالإعادة. وكان من المفروض أن أحضرها شخصيا للمرة الثانية في حفلاتها التي كان من المقرر إقامتها في موسكو (في أثناء وجودي هناك للدراسة) في أواخر سبتمبر/ أيلول 1970، لولا إلغاء هذه الحفلات وعودة أم كلثوم وفرقتها لمصر بعد إعلان وفاة الزعيم جمال عبد الناصر.
جورج جرداق مؤلف أغنية “هذه ليلتي”
أم كلثوم بعد نكسة 1967
ونصل إلى نكسة 1967 فتحصل تغييرات أساسية في هيكلية وطابع حفلات أم كلثوم. التغيير الأول هو أنه ابتداء من مارس / أذار 1968 اختصرت أم كلثوم عدد أغنياتها في الحفلة الواحدة إلى اثنتين بعدما كانت لغاية آخر حفلة من سنة 1967 تغني ثلاث أغنيات في الحفلة الواحدة. التغيير الثاني معنوي يخص أم كلثوم بشكل شخصي. فقد بدأت تتبرع بمدخول حفلاتها بعد النكسة للمجهود الحربي معطية بذلك مثالاً مبهرا لالتزام الفنان المعنوي والمادي للغناء بقضايا وطنه وشعبه. التغيير الثالث طرأ على أغنيات أم كلثوم نفسها هو اتجاهها إلى قصائد لشعراء عرب وكانت نيتها غناء قصيدة من كل بلد عربي معلنة بذلك الوحدة العربية من خلال الفن. فبدأت بقصيدة “هذه ليلتي” لجورج جرداق (من لبنان) غنتها للمرة الأولى يوم 5 سبتمبر/ أيلول 1968 في دار سينما قصر النيل. وأذكر الحديث مع الشاعر، عقب انتهاء الأغنية، في إذاعة القاهرة. فعند سؤال المذيع له: “نفسك في إيه بعد ما غنت لك أم كلثوم قصيدة من ألحان محمّد عبد الوهّاب”، فجاء رد الشاعر مقتضبا جدا: “نفسي أموت”.
بعد هذه ليلتي غنت أم كلثوم “طريق واحد” لنزار قباني (سوريا) ومن ألحان محمّد عبد الوهّاب وأذيعت من إذاعة القاهرة لأول مرة يوم 1 سبتمبر/ أيلول 1969. وتبع “طريق واحد” قصيدة “أغدا ألقاك؟” لهادي آدم (السودان) (لحن محمّد عبد الوهّاب) في حفلة 6 مايو/ أيار 1971 في سينما قصر النيل، و”من أجل عينيك” لعبد الله الفيصل آل سعود 6/1/1972 في سينما قصر النيل (وقد سبق أن غنت للشاعر نفسه “ثورة الشك” 4/12/1958 والأغنيتان من تلحين رياض السنباطي.
ولأغنية “طريق واحد” قصة طريفة، فنحن ندين لتعنّت أم كلثوم بوجود تسجيل للأغنية بصوت محمّد عبد الوهّاب. فعندما جاء وقت التسجيل فوجئت “الست” بعدم وجود الأوركسترا وبطلب من مهندس الصوت منها أن تضع السماعة على رأسها. ولما أفهمها الملحن أن اللحن قد سبق تسجيله على سكك (تراكات) ولم يبق سوى تسجيل صوتها، وأن هذه هي أحدث طريقة للتسجيل، رفضت رفضا قاطعا معللة رفضها بأن هذه الطريقة تلغي الانسجام المفروض وجوده بين المغني والعازفين عند التسجيل. ولم تقتنع بالفكرة إلاّ بعدما قام محمّد عبد الوهّاب بتسجيل الأغنية بصوته وإسماعها لها. شكرا لأم كلثوم. ولديّ أيضا تسجيل بصوت أم كلثوم ومحمّد عبد الوهّاب معا وأظنه من صُنع أحد مهندسي الصوت من عشاق الصوتين معا.
ونتابع رحلتنا مع المجلد العجيب لغاية آخر حفلة علنية قدمتها أم كلثوم في 4 يناير/ كانون الثاني 1973 في دار سينما قصر النيل حيث غنت “ليلة حب” (أحمد شفيق كامل – محمّد عبد الوهّاب) و”القلب يعشق كل جميل” (التحفة الصوفية الروحانية لبيرم التونسي ورياض السنباطي). بعد هذه الحفلة ألغت أم كلثوم ثلاث حفلات كان من المفروض أن تقدمها في 3 فبراير/ شباط و1 مارس/ آذار و5 إبريل/ نيسان 1973. بعد ذلك تسجل أم كلثوم أغنية “حكم علينا الهوى” (عبدالوهّاب محمّد – بليغ حمدي) لشركة “صوت القاهرة” ولم تغنّها في حفلة عامة. وتكون هذه آخر أغنية تقدمها أم كلثوم لعشاق فنها وصوتها.
بعد هذا التوثيق الدقيق لكل حفلات أم كلثوم ينتقل المجلد إلى تفاصيل مهمة جدا في تاريخ هذه الفنانة التاريخية، فيسرد المؤلف أنه منذ افتتاح إذاعة القاهرة في 31 مايو/ أيار 1934 بدأت الإذاعة تغري أم كلثوم بطريقتين: الأولى عبر وصلتين في الشهر وكانت هذه الوصلات تُسمّى “مغنى وآلات” ومدة كل وصلة نصف ساعة تقريبا، وقد ابتدأت أم كلثوم في هذه الوصلات وعددها ثماني أغنيات. والطريقة الثانية كانت بإذاعة حفلاتها الشهرية (أول خميس من كل شهر). ويعترف مؤلف المجلد [مصطفى المدرّس] بتواضع بأنه لم يستطع إعداد كشف كامل بما غنته أم كلثوم في حفلاتها من شهر أكتوبر/ تشرين أول 1934 لغاية يونيه/ حزيران 1937، ولكنه يؤكد بأنه يعلم “أن الآنسة أم كلثوم قد أنشدت الأغاني التالية في حفلاتها بين أكتوبر/ تشرين أول ويونيه/ حزيران 1937” وتلي ذلك لائحة تتضمن 45 أغنية.
ويتضمن المجلد صفحة في غاية الأهمية وهي عبارة عن صورة من صفحة من مجلة “الإذاعة المصرية” وفيها حديث مع د. مصطفى المدرّس رئيس مركز تراث أم كلثوم في لندن الذي يضم 1400 تسجيل لأم كلثوم مع العلم (كما يؤكد) أنها غنّت 350 أغنية فقط طوال خمسين سنة. وتأتي المفاجأة الكبرى على لسان الدكتور المدرّس: “لقد أعددنا قائمة بالأغاني التي سوف نزوّد بها مكتبة الإذاعة المصرية، والتي لم تكن موجودة بها وهي”… وتلي ذلك لائحة بثلاثين أغنية* مع اسم الشاعر والملحن وسنة تسجيلها على أسطوانة أو من حفلة عامة.
بعد ذلك 16 صفحة بأسماء أغانٍ مع أسماء ناظميها وملحنيها وهي عبارة عن مراسلة بين مؤلف المجلد وإذاعة القاهرة يطلب فيها تصحيح أسماء المؤلفين والملحنين في حال وجود خطأ عنده. وبنهاية هذه المراسلة نجد بخط المؤلف لائحة تضم خمس أغنيات لأم كلثوم لا يوجد منها إلاّ تسجيل واحد فقط هو تسجيل إذاعة القاهرة وهي: هلت ليالي القمر (أحمد رامي – رياض السنباطي) –اذكريني (أحمد رامي – رياض السنباطي) – يا طول عذابي (أحمد رامي – رياض السنباطي) – حلم (بيرم التونسي – زكريا أحمد) وغنيّ الربيع (أحمد رامي – رياض السنباطي). بعد ذلك أربع صفحات تتضمن حفلات السيدة أم كلثوم في مصر وبها 65 أغنية مع عدد المرات التي غنتها بها وعدد التسجيلات الموجودة لكل أغنية مع عدد التسجيلات السيئة لكل منها.
وينتهي المجلد لنسجل على السيد عبد الله الصايغ النقطة الوحيدة التي فاتته [بل هي فاتت المرحوم مصطفى المدرّس] في عمله الرائع الحضاري الكبير هذا وهي عدم ذكر اسم مؤلف كل أغنية وملحنها مع مقامها فيكون بذلك قد قدم عملا كاملاً للتاريخ تستطيع أن تتباهى به أي مؤسسة تعنى بجمع التراث العربي مهما كبرت وعلا شأنها.
