على مسرح دائري تتوزع الدمى التي عُلقت على الجدران، ووُزعت بين الجمهور أيضاً، استعدنا واحدة من أعقد الحكايات الإنسانية، وإنما برؤية مسرحية معاصرة تكسر الطابع الكلاسيكي، وذلك في ثالث أيام مهرجان دبي لمسرح الشباب، مع عرض «عطيل صانع الدمى».

لم يكن العمل الذي قدّمه مسرح دبي الأهلي مجرد إعادة كتابة لمأساة شكسبير الشهيرة، وإنما محاولة لطرح الأسئلة المرتبطة بالعلاقات الإنسانية، كالثقة والشك والغيرة وكلام الناس، عبر لغة مسرحية تتقاطع فيها الدمى مع البشر والصمت مع الاعترافات والضجيج مع الهدوء.

مع إضاءة خافتة ودخول عطيل إلى المسرح متسللاً من بين الجمهور، انطلق العرض، حيث أخذ عطيل في البدء دور الراوي، وبدأ يقص علينا حكايته مع الدمى وزوجته ديدمونة، وكذلك الأسفار المتعددة، تدخل بعدها ديدمونة إلى المسرح، ليحمل الثنائي معاً عبء مسرحية كاملة، مستعينَين بالدمى التي ألبسوها شخصيات متعددة، كلها مأخوذة من الشخصيات الرئيسية في مسرحية شكسبير، ومنها ياغو وإيميليا، ليست الدمى في هذا العرض مجرد زينة، بل شخوص متداخلة في المنطق الدرامي، وتسهم في تغيير الأحداث من خلال التحريض ونقل الكلام، فتبدو الظل الحقيقي لمتاهة الشك التي تبتلع الزوج تدريجياً.

لم تكن ديدمونة تطلب من عطيل أشياء كثيرة، فقد كانت تريد منه إنجاز الدمية الجديدة، لتُدخلنا مع هذا الطلب، ومن خلال الحوار مع زوجها، إلى عوالم الدمى التي يصنعها، والتي تبدو جزءاً من سردية أعمق لحكاية صانع الدمى نفسه، ومن خلال الحوارات على ألسنة الدمى، ندخل صلب مسرح الدمى الطفولي بقالب درامي مختلف، فيتشكل العالم الممزق الذي يسكن صانع الدمى، فهو الذي يحيكها بدقة وإتقان، لكن هذه الدمى في الواقع هي التي تصنعه، وهي التي تصيغ كل شكوكه وغيرته.

اختيار مخرج العمل وبطله، عبدالله صنقور، للمسرح الدائري لم يكن تفصيلاً جمالياً فقط، إذ منح الجمهور فرصة الإحاطة بعاصفة الأحداث التي كانت تهب وسط المسرح، فهي عاصفة محملة بمشاعر الغيرة والحب والشك، وتأخذ العمل الى مستويات درامية قوامها الحوار المتصاعد الحبكة، وتتوسط المسرح بعض المقاعد الدائرية أيضاً والمتعددة الارتفاعات، والتي كانت تتحول إلى منصات، أشبه بمنصات الاعتراف، يستخدمها الثنائي في الحوارات والمشاعر المتأججة، ومعها حول المخرج أدوات بسيطة جداً إلى مفردات لغة مسرحية مشحونة ومتكاملة.

تتصاعد حبكة الأحداث بالاعتماد على التجريد الذكي، وتساندها الموسيقى المسرحية التي ألفها عبدالعزيز الخميس، حيث يبدأ عطيل بمساءلة ديدمونة عن المنديل الذي أهداها إياه، ويدخل في حالة صراع معها، ويتحول المنديل إلى رمز للعلاقات الإنسانية التي تتأثر بكلام الناس، فتخفي الدمى المنديل وتتلاعب بالزوجين، فتلتهم نار الشبهات البسيطة الحب الكبير، ويصبح فقدان هذا المنديل، بمثابة فقدان لفرصة النجاة الأخيرة لهذه العلاقة.

تبلغ المأساة ذروتها في ختام العمل، ويستخدم الممثلان على الخشبة لغة جسدية لا تتكئ على الحوار فحسب، فتطغى طاقة الجسد على النص، ليرسم خنجر الشك ختام المعاناة الروحية ويطعن الحب.

اعتمد المؤلف سالم التميمي على الحوار المكثف وبلاغة الصورة، ونجح في إعادة صياغة هذه الحكاية الإنسانية التي يقتل فيها الزوج زوجته، ولكنه ليس قتلاً تقليدياً، لأنه في العمق يبدو كأنه يقتل صورته وكل أشكال الخوف والغيرة، أو كأنه يحطم الدمية الأخيرة التي صنعها، النهاية صارخة ولكنها من دون ضجيج، وتؤكد أن العلاقات لا يدمرها الصمت، بل الهمس المتكرر هو ما يكسرها ببطء.

وعن العمل تحدث البطل والمخرج، عبدالله صنقور، لـ«الإمارات اليوم» قائلاً: «حاولت من خلال الرؤية الإخراجية وبالاعتماد على الدمى إبراز تأثير تدخل الناس وكلامهم بالعلاقات الإنسانية، وكيف ينجحون في تخريب صفو أكبر قصص الحب»، وشكر صنقور «دبي للثقافة» على منح الشباب المنصة لتقديم إبداعاتهم، مثنياً على تقديم المهرجان في الفضاء الخارجي، مؤكداً حرصه على استخدام المساحة بشكل مختلف، لاسيما أن المسرح الدائري يتطلب من الممثل الأداء بكل جسده، ونوه بأن عمله على الإخراج والتمثيل في آن، قد حظي بالدعم من الأصدقاء المسرحيين والذين كانوا بمثابة العين الثالثة لتقديم العمل بأفضل شكل.

بينما تحدثت الممثلة سارة المازمي عن دور ديدمونة، قائلة: «تحمل الشخصية الكثير من المشاعر، وقصة العمل تلامس الناس، وبدأنا التحضير للمسرحية منذ أسبوعين تقريباً، ولكن ما ميز العمل هو وجود الكيمياء بين الفريق»، ولفتت إلى أن المسرح الدائري يساعد على تقديم العمل بشكل حر أكثر، كما أن التفاهم بين الممثلين يزيل كل التحديات والعقبات، واصفة هذا الدور بكونه من الأدوار المميزة التي منحتها مساحة وفرصة لإثبات نفسها، أما مؤلف العمل سالم التميمي، فلفت إلى أنها تجربته الأولى في مسرح الشباب، حيث إن تجاربه السابقة كانت في مسرح الطفل، معتبراً أن هذا المهرجان يعتبر ولادة حقيقية له ككاتب للشباب، وشدد على أن «إعداد نص لشكسبير حمل الكثير من الصعوبات، ولكني تعمدت إعادة صياغة الحكاية برؤية مختلفة على لسان الدمى»، مشدداً على أن الرسالة التي أراد أن يتركها في الناس هي الالتفات لتأثير الأطراف الثالثة على العلاقات البشرية.

أداء وموسيقى

تحمل عروض مهرجان دبي للفنون الأدائية الشبابية، العديد من الفقرات الموسيقية، وشاركت عازفة البيانو الروسية، ماريا ماسراني، بفقرات موسيقية قالت عنها: «إنها المرة الأولى التي أشارك فيها بالمهرجان، وأعزف يومياً على آلة البيانو، وسعيدة بهذه المشاركة، لاسيما أن المهرجان يحمل الكثير من التنوع»، ولفتت ماريا، التي تبلغ من العمر 12 سنة، إلى أنها بدأت بالعزف عندما بلغت الخامسة من عمرها، ومنذ خمس سنوات بدأت بتعلم العزف على آلة الكمان أيضاً، وهي تمثل الأوركسترا الوطنية للشباب في دبي، مشددة على أنها ستواصل رحلة الشغف بالموسيقى إلى أن تصبح مهنتها.

Google Newsstand

تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news

Share

فيسبوك
تويتر
لينكدين
Pin Interest
Whats App