اتجاهات مستقبلية

الخلافات الدولية في مجموعة العشرين

 

 

تخرج التكتلات الدولية من دوائر التحالف إلى الخلاف عندما لا تجمع أعضاءَها قضايا مشتركة أو فرصة للوقوف على مناطق قريبة للتعاون، ليحتدّ الخلاف بين رؤى متباينة تهدّد قدرة التكتل على تحقيق أهدافه على المستوى العالمي، وتختلف قوة التأثير كلّما كان حجم التكتل كبيرًا. وفي الفترة الأخيرة، بدا التباين في التكتل العالمي الأكبر عظيمًا؛ ما يطرح تساؤلات حول قدرة مجموعة العشرين على الصمود كقوة دولية تمثل الاقتصادات الأكبر حول العالم.

وقد انطلقت قمة مجموعة العشرين (G20) في جنوب أفريقيا، لأول مرة على أرض بلد أفريقي  منذ تأسيس المجموعة عام 1999، على وقع الخلاف والتوتر بين جنوب أفريقيا  والولايات المتحدة، إذ هيمن الغياب الأمريكي على القمة، بعد قرار إدارة دونالد ترامب مقاطعةَ القمة، عقِب خفض المساعدات عبر الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID)، وفرض رسوم جمركية كبيرة على صادرات جنوب أفريقيا، والخلاف بين واشنطن وبريتوريا حول القضية المرفوعة ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية حول الحرب على قطاع غزة، وفوق ذلك اتهامات إدارة دونالد ترامب لجنوب أفريقيا بوجود إبادة جماعية ضد البيض في جنوب أفريقيا.

وبينما تبنّت القمة شعار «التضامن، المساواة، الاستدامة»، سجلت القمة غياب قادة الصين وروسيا، وظهر الخلاف في أولويات القمة وأولويات الولايات المتحدة، إذ أرادت جنوب أفريقيا  التركيز على قضايا الجنوب العالمي، بما في ذلك تمويل التنمية وإصلاح منظومة الديون، وكذلك الانتقال العادل للطاقة والأمن الغذائي، والتحول الرقمي والذكاء الاصطناعي من أجل التنمية، وتوجيه الاستثمارات نحو البنية التحتية في أفريقيا، غير أن هذه القضايا لم تعُد من أولويات السياسة الخارجية الأمريكية، في وقت تشكّك فيه إدارة ترامب في الاحتباس الحراري العالمي الناجم عن الأنشطة البشرية، وترفض واشنطن قضايا تعزيز التضامن ومساعدة الدول النامية على التكيف مع الكوارث المناخية والانتقال إلى الطاقة النظيفة، وخفض تكاليف الديون على طاولة المجموعة.

ولِعَظم حجم مجموعة العشرين، بما تمثله بنحو 75% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، و85% من التجارة العالمية، وما يقرب من ثلث سكان العالم، فإن قوة المجموعة لا يستهان بها على الاقتصاد الدولي ومسار السياسة الدولية، وإذا اتخذت القمة قرارات تتعلق بضرورة خفض تكلفة الاقتراض بالنسبة للدول النامية، لتحمّلها أسعار فائدة تفوق ما تدفعه الدول المتقدمة بما يعادل مرتين إلى أربع مرات، فإن فرصها في التنفيذ كبيرة، لكن غياب أكبر اقتصاد في العالم كان ضربة قوية للقمة، إذ أضعف الإجماع الدولي، وعقّد الوصول إلى إعلان ختامي يجمع دول المجموعة، وفتح المجال لفراغ قيادي تستفيد منه قوى أخرى داخل المجموعة، وتكتلات منافسة كمجموعة “بريكس”.

إن بيان القمة الختامي سلّط الضوء على الصراعات العالمية، وحاول إرساء مبدأ أن تحقيق السلام يُعدّ شرطًا أساسيًّا للاستدامة والازدهار، وحث على التوصل إلى “سلام عادل وشامل ودائم” في السودان وجمهورية الكونغو الديمقراطية وفلسطين وأوكرانيا، مع أهمية توسيع مجلس الأمن الدولي ليشمل دولًا من أفريقيا ومنطقة آسيا والمحيط الهادي وأمريكا اللاتينية ومنطقة الكاريبي، لجعل المجلس أكثر شمولًا وفعالية وكفاءة، وهي مبادئ إذ مرّت بإجماع المجموعة لكان تنفيذها أكثر واقعية وفاعلية.

إن مقاطعة الولايات المتحدة لقمة العشرين خطوة في سياسة تحولية في إعادة تعريف دور الولايات المتحدة في النظام الدولي، يمثله شعار “أمريكا أولًا”، ولاسيّما أن الولايات المتحدة تعتبر أن المنظمات المتعددة الأطراف لا تؤثر كثيرًا بقدر الاتفاقيات الثنائية، ورغم ذلك لا يمكن تجاهل أهمية المجموعة على الساحة العالمية، حيث تسهم في تنسيق السياسات الاقتصادية، ومعالجة التحديات العالمية العاجلة، وكان لها أدوار مهمة في أزمة الاقتصاد العالمي عام 2008، وجائحة كوفيد-19.

إن الانقسامات في مجموعة العشرين زادت مع الحرب في أوكرانيا وتفاقمت مع الخلافات الجيوسياسية الدولية، وتُعدّ أوجه الخلاف قصورًا في فاعلية المجموعة بشأن قراراتها، والآن لم تَعُد المجموعة قادرة على إنتاج توافقات سياسية، والتنوع الذي كان عنصر قوة في المجموعة تحوّل إلى مصدر تعقيد، والتناقض بين الرؤى الاقتصادية والسياسية يجعل صياغة قرارات جامعة أمرًا عسيرًا، وإمكانية التوافق من جديد يحتاج إلى عمل من الأطراف المختلفة. وتكمن المعضلة في اعتبار التحالفات الصغيرة أدوات أكثر فاعلية من الهياكل الكبيرة في ظل المرحلة الانتقالية لنظام دولي متعدّد الأقطاب.