يُطلق بعض المفكرين على عصرنا “عصر اللايقين”، ليس لمجرد التفلسف، بل من وجهة نظر ملموسة بقوة، وهي أن الواقع الذي نعيشه غير ثابت. ويشمل المرحلة التاريخية الممتدّة من أواخر القرن العشرين إلى يومنا هذا، اتسمت بمتغيّرات سريعة، أصبحت في السنوات الأخيرة متلاحقة، يعجز الإنسان عن بناء رؤية محددة للواقع، تمنعه من تكهن المستقبل. فبعد أن كان التقدّم العلمي والتكنولوجي يُقدَّم بوصفه طريقاً إلى اليقين وإلى تحسين أوضاع الإنسان، صار اليوم سبباً في تعاظم الشكوك، لا بسبب عجزه، بل بسبب سرعة التقدم التي تفوق قدرته على الاستيعاب، إلى حد غدا اللّايقين الإطار العام الذي يتحرك فيه الفرد والمجتمع والفكر.
تتمثل عناصر سرعة التحوّلات في تطور وسائل الاتصال، والثورة الرقمية، والتقدّم في الذكاء الاصطناعي، تغلغلت في الأنماط الاقتصادية والاجتماعية، أدت إلى معاناة الواقع من عدم الاستقرار في بيئة تتبدل فيها المعايير وتتغاير بين يوم وآخر، من خلال وظائف تختفي، وأخرى تظهر، قيم تتراجع، وقيم تحل محلها. على سبيل المثال، أدى انتشار الوسائط الرقمية إلى خلق واقع جديد يتقاطع فيه الحقيقي بالافتراضي. ولم يعد الإنسان قادراً على تمييز الحقيقي من الزائف في دفق من المعلومات لا ينقطع. هذا التضخم المعرفي فرض أدوات إدراك جديدة.
ظهرت إرهاصات هذا العصر بالتدريج على امتداد القرن الماضي، مع تفكك اليقينيات الكبرى وانهيارها، بعدما كانت السند لاستقرار المجتمعات: الدين، الأيديولوجيا، العلم، الدولة القومية، مفاهيم الهوية. عبر عنها الفيلسوف زيغمونت باومان، بأن كل ما كان صلباً أصبح سائلاً، لا يستقرّ على شكل محدّد. تجلى في انحلال العلاقات الإنسانية، وتعدد الهويات الفردية، وتعدد المشاريع الاجتماعية… مع افتقاد خاصية الاستقرار التي كانت تتمتع بها، باتت عرضة للتغيّر الدائم. فلم يعد اليوم التالي متوقعاً أو مضموناً، بل ولا مفهوماً، ولا يمكن التنبؤ بالمستقبل أو التحكم فيه.
هل هذا يحدث لأول مرة، بعدما كان اليقين سمة ثابتة في التاريخ البشري؟ بإطلالة سريعة، نجد العكس، كان الوعي باللايقين قديماً. في الفلسفة اليونانية، كان هيراقليطس في القرن السادس ق.م، أول من عبّر عنه. بعبارته الشهيرة: لا يمكنك أن تنزل في النهر نفسه مرتين. كما تحدث السفسطائيون عن نسبية الحقيقة، ما يعني أن العالم غير ثابت يقينيّاً. وكان الشعور بانهيار اليقينيات شاملاً مع الكوارث الكبرى مثل الطاعون الأسود في القرن الرابع عشر، ما نشر التشاؤم عن عالم رهيب وغامض.
ومثلما مثّل اللايقين الشكوك والخوف، مثّل اليقين الاستنقاع في الركود إلى حد التعفن، ما أعاد الاعتبار مراراً إلى اللايقين الحميد الذي يعني الازدهار والتقدم، وكان في بحث ديكارت عن اللايقين الحميد، ادراك الحاجة إلى هدم كل يقين للوصول إلى يقين جديد.
موجة مختلقة من اللايقين، يروج لها مثقفون باتوا بلا هوية
هذا المقدمة المطولة على الرغم من إيجازها الشديد، ليست صالحة تماماً للانتقال إلى سورية التي تواجه في داخلها على الهامش موجة مختلقة من اللايقين، يروج لها مثقفون باتوا بلا هوية، يرسخون لعدم الاستقرار بالتضليل والشائعات والأكاذيب… والاستعانة باليقين الذي رزح تحته المجتمع السوري، يقين لا يقل عن الموت طوال نصف قرن، تسانده دول ومليشيات ودبابات وطائرات وكيميائي، ضحاياه شهداء ومعوقون ومهجرون وتغييب قسري وعذابات ومآس، يقين كان هو الأبد.
اليوم سورية تعيش يقينا آخر حقيقياً، الأمل بصناعة المستقبل على أنه اليقين القادم، لا تغييبه لحساب اللايقين، بنشر الفوضى، وإيجاد انقسام في المجتمع، بينما المصلحة تتطلب الانخراط في الواقع، وأن نكون جزءاً من هذا التغيير نحو اللايقين الحميد.
* روائي من سورية
