على غرار أليخاندرو خودوروفسكي في السينما، وديامندا غالاس في الموسيقى، وفرنسيس بيكون في الرسم، يشكّل الممثّل الألماني أودو كير – الراحل قبل أيام عن 81 عاماً – أحد تلك الاستثناءات الفاقعة في فنّ الأداء. شخصية “أكبر من الحياة” بكلّ ما للكلمة من معنى. استثناء يطال مظهره الخارجي وأدواره، كما يطاول نمط حياته الذي جسّد الكويرية بلا حرج، على الشاشة وخلفها. في حضوره شيء يذكّرني بترنس ستامب الذي غاب أخيراً: تلك النظرة الزرقاء الحادّة، القاسية والعطوفة في آن واحد، التي تضخّ في كلّ شخصية يؤدّيها طبقة إضافية من التعقيد. في كير يلتقي الفنّان الذي وصفه البعض بالأسطورة، صاحب الأدوار الشريرة التي صنعت له شهرة واسعة، مع الرجل الذي عاش حراً، طليقاً، كنسمة تتنقّل بين الأزمنة والأمكنة.
حتى عندما فتح عينيه، كان ذلك خارج السياق المألوف: فقد وُلد في كولونيا المدمّرة خلال الحرب العالمية الثانية عام 1944، ونشأ في ألمانيا ما بعد الحرب، بكلّ ما انطوت عليه تلك الحقبة من بحث مضن عن الذات. ويبدو أن أولى الصدمات الجمالية التي رسخت في ذاكرته كانت مع “الصمت” لإنغمار برغمان. كانت تلك المرة الأولى يرى فيها امرأة تقبّل امرأة أخرى على الشاشة، وهو مشهد بدا في ذلك الزمن، بمثابة نافذة فُتحَت على عالم جديد.

الدور الذي كرّس كير.
ذلك الحسّ الجارف بالمغامرة والرغبة الدائمة في الخروج من حيز الأمان، دفعاه في مراهقته إلى الانتقال إلى لندن، حيث عمل في مهن متعدّدة قبل أن يسند إليه مايكل سارن دوره الأول في فيلم قصير حمل عنوان “الطريق إلى سان تروبيه”. ومن هناك بدأت الرحلة: مسار طويل من التجريب والتمرد، ومن تحويل الهامش إلى مركز، والغرابة إلى فنّ.
في مقابلة جمعتني به في كانّ، روى انه لم يرد يوماً ان يكون ممثّلاً. “ولدتُ في ألمانيا في نهاية الحرب العالمية الثانية. كان زمناً غريباً وكنّا فقراء. وددتُ تعلّم الإنكليزية فذهبتُ إلى بريطانيا. لم أكن أملك المال لدخول الجامعة. في أحد الأيام تعرفتُ إلى رجل قال لي انه يصوّر فيلماً في جنوب فرنسا. كان عنوانه “الطريق إلى سان تروبيه” واقترح عليّ دور الجيغولو فيه بسبب شكلي الفوتوجيني. كنت في العشرين. أخبرته بأنني غير قادر على التمثيل، فكان ردّه “اترك هذا عليّ”. أثناء التمثيل، حاولتُ البحث عن الكاميرا فلم أجدها. كانت في مكان بعيد جداً. لم أعلم انه يتم تصويري بالكلوز أب والسينماسكوب. هكذا دخلتُ التمثيل. لم أدرسه يوماً، مع إني لاحقاً درّستُ التمثيل. في النهاية، ما هو التمثيل؟ الموهبة شيء غير مكتسب، إما تملكها أو لا. ولكن ما يمكن تعلّمه هو التقنيات. في المسرح تحتاج إلى تقنيات كي يفهمك الشخص الجالس في آخر الصالة من خلال حركة جسدك”.
هكذا انطلقت مسيرته الدولية، متنقّلاً بين أفلام ألمانية وأوروبية وأميركية، ليصل رصيده عند رحيله إلى نحو مئتي دور، تتجاور فيها كلّ المتناقضات: من أكثر الأفلام ركاكةً إلى أرفعها شأناً. نظرة سريعة إلى فيلموغرافيته تكشف أن الرجل لم يكن أسير معايير صارمة في اختيار أدواره، بل كان يتحرك وفق بوصلة خاصة، لا تخضع للمنطق التقليدي. عندما سألته اذا كان يندم على بعض الأفلام التي شارك فيها، أجاب انه يقول “لا” منذ البداية. أما اذا وافق فلا يعود يندم.

عاش حراً.
السينمائيون الذين تبنّوه، وبعضهم مثل فرنر راينر فاسبيندر عاد إلى العمل معه مراراً، ينحدرون هم أنفسهم من هوامش السينما الأوروبية. بينهم نجد جوست جاكين وفاليريان بوروفتشيك، وصولاً إلى المجري ميكلوش يانتشو. جميعهم مخرجون يشتغلون على تخوم اللغة السينمائية والجسد والسلطة والرغبة. ولعلّ ذلك ما جعل كير يجد مكانه الطبيعي بينهم. بيد انه يصعب الحديث عنه من دون التوقّف عند دوره المفصلي في فيلم “فرانكنشتاين أندي وارهول” (1973) لبول موريسي، حيث أدّى شخصية البارون فرانكنشتاين، الدور الذي التصق به طويلاً وأسهم في صناعة أسطورته. كان دوراً مستفزاً، منفلتاً من كلّ تصنيف، دموياً وصادماً، أدّاه بأسلوب مسرحي تفخيمي يكسر أي انسجام متوقّع ويُحدث قطيعة مع الأنماط الدرامية السائدة. تحوّل الفيلم، مع مرور الزمن، إلى أحد كلاسيكيات السينما الأندرغراوند، ومعه صار كير من أيقونات سينما الرعب والكوير في آن. كان تمثيلاً بقدر ما هو تجسيد لحدّ من حدود الفنّ حيث اختبار الجسد والمغالاة والسخرية السوداء، وكلها عناصر ستلازم نهجه لعقود لاحقة. قلة مثله قفزت من أفلام “ب” إلى كلاسيكيات فبلوكباسترات هوليوودية. عند سؤالي عن هذا الشيء الذي يمتاز به، كرر جملته الشهيرة: “حالفني الحظ ان الكثير من الناس عثروا عليّ”. أكان الدور قصيراً أم طويلاً، فيترك كير شيئاً خلفه. هذا يكاد يكون شعاره في المهنة.
من أفلام لارس فون ترير إلى داريو أرجنتو، ومن غاس فان سانت إلى ديفيد كروننبرغ… تبدو مسيرة أودو كير السينمائية أشبه بمتاهة. مسار متشعّب، يمرّ عبر مدارس جمالية متنافرة، لكنه يخرج منها دائماً بخيط يربط بين شخصيته وأدواره، مهما اختلفت المقاربات والأساليب. مع ذلك، لم يتردّد كير في ربط جانب كبير من صعوده بالحظ الذي، كما قال، كان حليفه الدائم. فالحظ، في نظره، ليس مصادفة بقدر ما هو أبواب تُفتَح لمن يجرؤ على العبور. يرى انه كان محظوظاً اذ ان السينمائيين هم الذين وجدوه لا العكس.
مثّل كير في كلّ الأفلام التي أنجزها لارس فون ترير منذ 1987، ما عدا أربعة منها. علاقة حميمية ربطته به وكان عراب طفله. كير أكثر ممثّل ظهر في أفلام الدانماركي. أخبرني في مقابلة كانّ، انه سبق ان لعب أربع مرات دور أدولف هتلر ولكن لم يلعب قط نازياً. وكان دائماً دوراً كوميدياً غير جدي. لم يخفِ يوماً انه رجل ممتلئ بالسعادة. في حياته الشخصية كان نقيض ما هو على الشاشة. “أنا جنيناتي. انظر كيف أنزف جراء قطع النخيل. أنقذ الكلاب. إني عكس كلّ هذا. أهوى الطبخ لأصدقائي، واذا لم يعجبهم طبخي، فلن أدعوهم إلى بيتي مجدداً”.
