انقضى شهر نوفمبر/تشرين الثاني، ومرت معه الذكرى الثلاثون لرحيل المطربة ليلى مراد (1918 – 1995) التي شكلت ظاهرة غنائية وسينمائية في الحياة الفنية المصرية والعربية، ولعلّها ما زالت تحتل المرتبة الأولى في بطولة الفيلم الغنائي المصري، بعدما اجتمع لها الصوت الأخّاذ مع الوجه المشرق.
دخلت عالم الفن وهي في بيت والدها المطرب المخضرم زكي مراد، وحظيت برعاية الملحن المُعلم داود حسني، وأكسبها التدريب المبكر إلماماً بأصول الأداء الغنائي، وكان سفرها مع والدها في رحلات غنائية مطولة إلى صعيد مصر، بمثابة اختبار عملي على الغناء أمام جمهور متنوع وغفير، قبل أن تواجه جمهور القاهرة الكبير في حفل مسرح رمسيس عام 1933 ولم تتجاوز الخامسة عشرة من عمرها. تعاقد معها مدحت عاصم مدير الإذاعة على الغناء مرة أسبوعياً مساء الثلاثاء، وكانت وصلتها تسبق موعد تلاوة الشيخ محمد رفعت، الذي تحرص مصر كلّها على سماعه على الهواء، فحظيت المطربة الصاعدة باستماع مكّنها من بناء قاعدة جماهيرية كبيرة قبل دخولها الفعلي عالمَ السينما.
لم يكن غريباً أن تستهل أولى وصلاتها الإذاعية بموشح “يا غزالا زان عينه الكحل”؛ فقد كانت الأدوار والموشحات وقوالب الطرب الكلاسيكي المكون الفني الأول الذي تفتحت عليه آذان ليلى في بيتها الفني العريق، لكن قدرتها على مواكبة الأغنية الحديثة المناسبة للسينما كانت سريعة واستثنائية. كان محمد عبد الوهاب من أوائل من آمنوا بصوتها، بعد أن سمعها تغني بعض ألحانه المبكرة، ثم تطور إعجابه إلى تعاون عملي حين اختارها لتلعب دور البطولة في ثاني أفلامه “يحيا الحب” عام 1938. منذ ذلك التاريخ، بدأت ليلى مراد خطوات مجد سينمائي لم يتحقق لمطربة عربية. صارت النجمة الأعلى أجراً، ولقبتها الصحافة بـ”سندريلا السينما”، وكان اسمها على الملصق الدعائي للفيلم ضمانة قوية لنجاحه الفني والتجاري.
في تجاربها السينمائية الأولى، كان صوتها تعويضاً عن ضعف أدائها الحركي والتمثيلي. وقد أشار المخرج محمد كريم في مذكراته إلى قلقه من إسناد بطولة “يحيا الحب” إليها، بسبب ضعف أدائها التمثيلي. يكشف هذا التردد عن أن ليلى لم تكن “ممثلة جاهزة”، وإنما كانت موهبة غنائية ممتازة تحتاج إلى صقل سينمائي، وهو ما أثبتت الأيام أنها نجحت فيه.
جاء تعاون ليلى مراد مع المخرج توغو مزراحي ليشكل محطة مهمة وفترة ذهبية في مسيرتها السينمائية، إذ حولها هذا التعاون من مطربة تمثل إلى نجمة شباك ذات تأثير درامي وغنائي متكامل. خلال الفترة بين عامَي 1939 و1944 صنعت ليلى مراد مع مزراحي خمسة أفلام متتالية، اكتسبت خلالها شهرة وخبرة عالية؛ فمزراحي هو من اكتشف موهبتها على نحوٍ جديد، أي بصبغة سينمائية متكاملة؛ فمنحها الثقة لتشارك البطولة مع فنان بحجم يوسف وهبي في فيلم “ليلة ممطرة”، ما أثبت قدرتها على الوقوف أمام عمالقة التمثيل.
في عام 1942، حقق فيلم “ليلى” المقتبس عن رواية “غادة الكاميليا”، نجاحاً تاريخياً بعرضه لمدة 16 أسبوعاً متواصلاً. أما فيلم “ليلى في الظلام” (1944)، فيُمثّل تتويجاً لهذه الشراكة، وتأكيداً لاكتمال نضجها باعتبارها فنانة شاملة، قبل أن ينتهي تعاونهما بهجرة المخرج مزراحي.
تمثل ظاهرة تقديم ليلى مراد لأفلام تحمل اسمها دليلاً لا يقبل الجدل على أنها كانت هي العلامة التجارية والرافعة الأساسية لشباك التذاكر في زمنها، ما منحها مكانة فريدة لم تتكرّر بهذا القدر من الحضور.
كانت أفلام “ليلى بنت الريف” و”ليلى بنت الفقراء” و”ليلى بنت الأكابر” استثماراً مباشراً في شخصيتها ونجوميتها. وضعت هذه الأفلام البطلة الأنثوية ليلى مراد في صدارة المشهد، بعد أن صارت اسماً مضموناً للربح والجاذبية.
تزوجت ليلى مراد من الممثل أنور وجدي، الذي لمع نجمه بدخوله عالم الإخراج والبطولة معها في “ليلى بنت الفقراء” (1945). شكل الثنائي حالة استثنائية من التزاوج بين الموهبة الغنائية والقدرة الإنتاجية والإخراجية، ليصبحا علامة سينمائية خاصة جداً. لكن نجاحها استمر بعد الانفصال عن وجدي، فكان النجاح الجماهيري والتجاري لفيلم “شاطئ الغرام” كاسحاً، قبل أن تختم تلك المسيرة الطويلة بفيلم “الحبيب المجهول” عام 1955. اختيارها الانسحاب من الساحة السينمائية وهي في قمة نجاحها، بعد تقديم 27 فيلماً، يؤكد أن اعتزالها لم يكن ناتجاً عن إخفاق أو تراجع، وإنما جاء لأسباب شخصية، ما زال النقاد والمؤرخون يختلفون في تفسيرها.
يشكل الإرث الغنائي لليلى مراد، الذي يضم عدة مئات من الأغاني، الجانب أعظم من رحلتها الفنية. كان صوتها شريكاً فاعلاً في صناعة أغنية الفيلم التي تتجاوز سياقها الدرامي لتبقى في الذاكرة الجمعية. وقد تحقق هذا الإنجاز من خلال تنوع مدارس التلحين التي تعاملت معها، ما أكسب تجربتها الغنائية ثراءً غير مسبوق. تعاونت ليلى مع طيف من أهم الملحنين، كل منهم يمثل مدرسة فنية مستقلة. كان محمد عبد الوهاب هو الشريك الأول الذي وضع الثقة فيها، سواء عبر عقد الاحتكار المبكر أو التعاون في الأغاني والأفلام. أما محمد القصبجي، فقد أسهم في بداية مسيرتها بأعمال رفيعة، مثل لحن أغنية فيلم “ليلى” عام 1942 الذي اختير أجملَ لحن في العام، ما يدل على عمق التقدير النقدي لهذه الشراكة.
يضم سجل ملحنيها أسماء مختلفة: رياض السنباطي، وزكريا أحمد، ومحمد فوزي، وشقيقها منير مراد. هذا التلاقي بين أساليب التلحين المتباينة، أتاح لصوت ليلى مراد فرصاً تعبيرية ترضي مختلف الأمزجة الموسيقية.

كان النجاح الكبير لأغانٍ مثل “قلبي دليلي”، و”يا أعز من عيني”، و”حيران” متجاوزاً الوظيفة الدرامية داخل الفيلم، إلى التعبير عن المشاعر الإنسانية المشتركة (الحب والوجد والشوق)، فكان ذلك من أهم أسباب بقاء تلك الأعمال في الذاكرة الجماهيرية العربية. رسّخت هذه الأغاني مفهوم “النجمة الشاملة” التي تمتلك القوة الصوتية والجاذبية البصرية في آن. فصورة ليلى مراد وهي تؤدي أغانيها في الأفلام أكسبتها بُعداً عاطفياً وجماهيرياً عزّز من خلودها، وربطها بالذاكرة الحية لـ”الأيام الحلوة” للسينما المصرية.
مثّل فيلم “غزل البنات” (إنتاج 1949) محطة فارقة وذروة فنية في مسيرة ليلى مراد، ليصبح شهادة فنية خالدة على عبقريتها ممثلةً ومطربةً. كان دور ليلى، طالبة المدرسة المفعمة بالحياة التي تقع في غرام أستاذها الفقير حمام (نجيب الريحاني)، تجسيداً مثالياً لـ”فتاة الأحلام” السينمائية التي رسمتها مراد في أوج تألقها. لقد استطاعت بمهارة لافتة أن توازن بين خفة الظل والرومانسية العميقة، مقدمةً أداءً تمثيلياً عفوياً وعميقاً في الوقت نفسه، خاصة في مشاهد تفاعلها مع قامات مثل الريحاني ويوسف وهبي.
تاريخياً، يمثّل الفيلم “درة التاج” في مسيرتها، كما أنه الختام غير الرسمي للمرحلة الذهبية المبكّرة في رحلتها السينمائية والغنائية قبل تراجعها النسبي في الخمسينيات. هذه القيمة التاريخية تمنحه ثقلاً لا يضاهى في سجل السينما المصرية. فنياً، يعد “غزل البنات” نموذجاً فريداً لفيلم الكوميديا الموسيقية المتكامل، فتندمج القصة العاطفية والفكاهة الراقية ببراعة مع الاستعراضات الغنائية، ولم يكن متصوراً أن يحوز هذا النجاح وهذه القيمة من دون الحضور الطاغي لبطلته.
أما قيمة أغاني ليلى في هذا الفيلم، فهي بمثابة عناصر سردية تدعم الحبكة وتكشف عن مشاعر الشخصية. الأغنية الأيقونية “أبجد هوز” التي تُبرز تفاعلها الفكاهي والسلس مع الريحاني، تشكل مُفردات سينمائية بصرية وسمعية كرست ليلى مراد باعتبارها ركناً من أركان فن المونولوغ الغنائي السينمائي. هذه الأغاني التي تباينت بين الخفة العاطفية واللحن الشرقي، منحت الفيلم روحه المميزة، وأكسبته مكانته التاريخية.
على الرغم من النجاح الكبير الذي حققته ليلى مراد في عالم السينما، فإنّ مشوارها السينمائي لم يخل من التحديات. كان من أبرز تلك التحديات الموازنة في التعامل مع الحياة الشخصية والمهنية في وقت واحد. كان لأسرتها دور كبير في نشأتها ومشوارها الفني، إلّا أنها كانت تواجه أحياناً ضغوطاً بسبب التوقعات العالية المترتبة على مكانتها الفنية. هذا الصراع بين الحياة الشخصية والمهنية تجسد في مسيرتها، خاصة بعد اعتزالها المفاجئ للفن في عام 1955 وهي في قمّة عطائها.
ليلى مراد واحدة من أبرز أصوات الغناء العربي في القرن العشرين، وتمتاز بقدرة استثنائية على التعبير عن شتى أنواع المشاعر، ما جعلها ضمن أهم أربعة أو خمسة أصوات نسائية مصرية، على الأقل جماهيرياً؛ إذ تميّز صوتها بالعذوبة والمرونة، وكان له تأثير ساحر على جمهورها.

كانت ليلى مراد ضمن عدد قليل من الأصوات النسائية المفضلة عند ملحني التجريب والتطوير ودمج العناصر الغربية في الألحان الشرقية. كان أداؤها يحمل دائماً شيئاً من الإبداع والتجديد. ومثلاً، كان لمحمد القصبجي دور مهم في رسم الصورة الفنية لها أمام جمهورها الواسع، وبقي لحنه الشهير “قلبي دليلي” علامة فارقة في مسيرة مراد الغنائية والسينمائية.
يتضمن تراث ليلى مراد عدداً كبيراً من الألحان التي تجمع بين الجمال والسهولة، ما جعلها مرجعية لكثيرات من المطربات الجديدات. كانت نموذجاً يحتذى به في الأداء السلس والإحساس المرهف. جمعت ليلى مراد بين جمال الصوت وقوة الأداء التمثيلي، فكانت ضمن الأعمدة الأساسية للفن السينمائي المصري في عصره الذهبي. من خلال أفلامها وأغانيها، قدمت تجربة فنية لها أهميتها وموقعها في ذاكرة الفن المصري. ولا ريب أن مناسبة مرور ثلاثين عاماً على رحيلها كانت تستحق اهتماماً واحتفاء لا صمتاً وإهمالاً.