بلوحة استعراضية تتكئ على الإيماءات الجسدية، انطلق العرض المسرحي «العارف لا يَعرِف»، في خامس أيام مهرجان دبي لمسرح الشباب، الذي يُنظّم تحت مظلة مهرجان الفنون الأدائية الشبابية في دبي.
وضع المخرج مقدمة دافئة وسط سينوغرافيا تتسم بالغرابة، ليقودنا إلى حقيقة صارخة محمّلة بالأسئلة حول الوجوه الحقيقية والأقنعة التي تتساقط، ويتقاطع في العمل ادعاء المعرفة مع هشاشة الوعي، وتنهض خشبة المسرح شاهدة على جيل يتخبط بين صورته الحقيقية، وانعكاسها في مرآة منصات التواصل الاجتماعي، فالعرض أشبه برحلة داخلية تنفض الغبار عن أقنعة أحكمت على الوجوه حتى صارت جزءاً منها.
في المشهد الأول يدخل الشبان إلى مكان غريب أشبه بكهف، ويحتوي على قطع غير مفهومة، فتثير هذه الغرابة أحدهم، وتدفعه إلى الغوص في التقاط الصور لنشرها عبر منصات التواصل الاجتماعي، وتبدأ المجموعة بتبديل ملابسها، لخوض هذه الرحلة داخل هذا المكان، ويفصح العرض عن نقد لاذع لسطحية الحضور الافتراضي، وعن الفجوة التي اتسعت بين الظهور والوجود، إذ تتوالى المشاهد وكأنها مرايا تتكسر تباعاً، ويرتدي الشبان ثياباً لا تشبههم، ويتحدثون بطريقة لا تشبههم أيضاً، ولكن هذا البريق الزائف للشخصيات التي يرتدونها، يغريهم بالبقاء داخل تلك الهويات المستعارة.
وكعادته يميل المؤلف عبدالله المهيري إلى ربط خيوط العمل من خلال قصة حب، يجعل منها المفتاح الذي يحرك الأحداث والشخصيات، ومن خلال حنكة درامية نشهد في هذا العمل قصة الحب التي تبدو كما لو أنها اختبار للصدق، فهي تصبح المحك الذي تتهاوى عنده الأقنعة، وتتكشف وجوهاً ظلت حبيسة التصنع والتباهي، فوحده الحب الذي لا يحتمل الأقنعة ولا يسكنه الزيف.
السينوغرافيا المكونة من أعمدة وأقمشة ممزقة، منحت المسرح الكثير من الغرابة، لكنها ليست مجرد إطار بصري، بل تحولت إلى شريك درامي في الأحداث، فالشخصيات تتحرك داخلها كأنها تتحرك داخل طبقات من الوعي، كما أن مخرج العمل محمد السويدي قد منحها بعداً جمالياً من خلال إضافة الشاشة التي كانت تنقل ما يحدث خلف الستائر، فضلاً عن تكسر الأضواء التي توحي بأن الأحداث في منطقة بين الحقيقة وانعكاسها، بين الذات وصورتها، وكل عناصر العمل التي أوجدت على الخشبة تمنح المشاهد الشعور بأنه في مكان خارج المألوف، ولا يتحدد فيه الزمان، هدفه رصد واقع محاصر بالأقنعة الرقمية.
جمع العمل سبعة ممثلين، وقفوا جميعاً على الخشبة في العديد من المشاهد، ونجحوا في نقل طاقة حضورهم العالية للجمهور، رغم ما يحمله الأمر من تحدٍّ، لاسيما أنهم يقومون بعرض فوضى الشخصيات الداخلية، ويترجمون احتدام الصراع مع الذات، هذا الإيقاع الذي سار به العمل لم يخل من الكوميديا التي كانت تدخل على الأحداث لتكسر القسوة النفسية التي يقدمها النص.
المشهد الأخير، أتى محملاً بصرخة قوية: «الوجوه الحقيقية لا ترى إلا حين تنكسر المرآة»، تبعثر هذه الصرخة، الانعكاسات الوهمية لينكشف الإنسان من الداخل، وتصل البلاغة الدرامية إلى ذروتها، ويصبح تحطم المرآة حدثاً رمزياً لاستعادة الذات، أو اعترافاً متأخراً بأن المعرفة التي يدعيها البعض ليست سوى قشور رقيقة تخفي جهلاً مركباً، فالعمل شكّل قراءة لواقع ملبد بالأقنعة، ومجتمع يلهث خلف صورته، ليؤكد على أن الحقيقة ليست ما نراه على الشاشات، بل إنها عندما نجرؤ على النظر إلى أنفسنا من دون تزييف.
وقال المخرج محمد السويدي لـ«الإمارات اليوم»: «إنها التجربة الإخراجية الأولى لي في مهرجان دبي لمسرح الشباب، وقد سعيت من خلال الرؤية الإخراجية إلى تسليط الضوء على الأقنعة التي يضعها الناس لمجرد أن يحملوا هواتفهم لالتقاط الصور لنشرها عبر منصات التواصل الاجتماعي»، ولفت إلى أن المكان يحمل الغرابة، ولهذا كانت السينوغرافيا تشبه الكهف أو الكوخ، وتحمل الملابس التي من خلالها يتحول البشر ويلبسون شخصيات لا تشبههم، ويتمسكون بها رغم أنها لا تشبههم، ونوه بأن التعامل مع عدد كبير من الممثلين على الخشبة حمل تحديات كبيرة، ولكنهم أتقنوا الأداء وساعدوه في تقديم رؤيته بأفضل حلة.
الممثلة اليمنية براءة خالد، تحدثت عن دورها، قائلة: «حمل هذا الدور الكثير من التحديات، لاسيما لجهة الأداء والحركة، ولكنه كان مختلفاً، وتمكنت من خلاله من إبراز قدراتي الفنية»، ولفتت إلى أن مهرجان دبي لمسرح الشباب، يعتبر فرصة مميزة لتطوير المهارات، فهو أشبه بورشة عمل للتدريب وتحسين المهارات في الأداء.
مراحل كثيرة

قال المؤلف عبدالله المهيري لـ«الإمارات اليوم»، إنه استوحى القصة من نص عالمي للكاتب موليير، موضحاً أنه بعد كتابته للعمل، خضع النص لكتابة أخرى مع الممثل شعبان سبيت، الذي لعب شخصية «العارف»، موضحاً أن النص مر بمراحل كثيرة، وأخذ أشكالاً مختلفة إلى أن عُرض على الخشبة، ونوه بأنه حين يستوحي الكاتب من أعمال كُتبت سابقاً، يكون ذلك منذ الشروع في كتابة أي عمل، إذ يبحث في البدء عن وجود أفكار مشابهة، ويحدث أن يشده نص مسرحي معروف، ويقوم بإعادة كتابته. وشدد على أننا في هذا العصر نرى الكثير من الناس يتم وضعهم في خانات لا تعكس حقيقتهم، مشيراً إلى أنه يسعى دائماً إلى البحث عن خطوط درامية تكون قريبة من المجتمع كي لا تكون الرسائل التي تقدم للجمهور حادة.
![]()
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news
Share
فيسبوك
تويتر
لينكدين
Pin Interest
Whats App
