استناداً إلى مقابلات مع 48 شخصاً على دراية مباشرة بالمخطط، ومراجعة تسجيلات مالية ووثائق عملياتية ورسائل صوتية ونصية متبادلة، كشف تحقيق موسع أن اثنين كانا ذات يوم من أقرب رجال بشار الأسد وفرا من سوريا بعد سقوطه ينفقان ملايين الدولارات على عشرات الآلاف من المقاتلين المحتملين، أملاً في إشعال انتفاضتين ضد الحكومة الجديدة واستعادة بعض ما فقدوه من نفوذ.

من أقرب رجال الأسد

وأضافت المصادر أن اثنين كانا من أقرب رجال الأسد، وهما اللواء كمال حسن وابن خاله الملياردير رامي مخلوف، يحاولان تشكيل ميليشيات في الساحل السوري ولبنان تضم أفراداً من الطائفة العلوية التي تنتمي لها عائلة الأسد، وفق “رويترز”.

كما كشفت أن الرجلين وفصائل أخرى تتنافس على النفوذ، يمولون أكثر من 50 ألف مقاتل أملا في كسب ولائهم.

وقال 4 أشخاص مطلعين إن ماهر شقيق الأسد، المقيم أيضا في موسكو والذي لا يزال يحتفظ بولاء آلاف الجنود السابقين، لم يقدم بعد أموالا أو يوجه أي أوامر.

بشار وماهر الأسد ورامي مخلوف وكمال حسن (خاص - العربية.نت)

بشار وماهر الأسد ورامي مخلوف وكمال حسن (خاص – العربية.نت)

لكن حسن ومخلوف يسعيان بشكل حثيث للسيطرة على شبكة من 14 غرفة قيادة تحت الأرض شُيدت عند الساحل السوري قرب نهاية حكم الأسد، بالإضافة إلى مخابئ أسلحة.

إذ زُعم أن حسن، رئيس المخابرات العسكرية في عهد بشار الأسد، يواصل بلا كلل إجراء مكالمات هاتفية وإرسال رسائل صوتية إلى قيادات ومستشارين يعبر فيها بغضب شديد عن فقدان نفوذه ويرسم رؤى طموحة للطريقة التي سيحكم بها الساحل السوري موطن غالبية السكان العلويين وقاعدة نفوذ الأسد السابقة.

ومن منفاهما في موسكو يرسم الرجلان صورة لسوريا مقسمة ويريد كل منهما السيطرة على المناطق ذات الأغلبية العلوية، حيث ينفق كلاهما ملايين الدولارات لتشكيل قوات موالية له، وفقاً لـ”رويترز”.

مصادر تكشف عن محاولة مقربين اثنين من الأسد لإنشاء ميليشيات مسلحة في الساحل

كذلك زعم حسن أنه يسيطر على 12 ألف مقاتل، بينما قال مخلوف إنه يسيطر على 54 ألف مقاتل على الأقل، وفقا لوثائق داخلية لفصائلهما.

وذكر قادة على الأرض أن المقاتلين يتقاضون أجورا زهيدة ويتلقون أموالا من الجانبين.

قوة شبه عسكرية

إلى ذلك، بينت وثائق بتاريخ يناير/كانون الثاني 2025، اطلعت عليها رويترز، أن قوات موالية للأسد وضعت خططا أولية لبناء قوة شبه عسكرية قوامها 5780 مقاتلا وتزويدهم بالعتاد من مراكز القيادة السرية.

وهذه المراكز هي بالأساس مخازن كبيرة مجهزة بأسلحة وطاقة شمسية وإنترنت وأجهزة تحديد المواقع (جي بي إس) ومعدات اتصال لاسلكية.

لكن لم يُنفذ شيء من تلك الخطة، حيث كشف مصدران وصور أن غرف القيادة المنتشرة على شريط من الساحل السوري الذي يمتد حوالي 180 كيلومترا من الشمال إلى الجنوب، لا تزال موجودة لكنها شبه معطلة.

كما ظهرت في صورة غرفة بها 5 صناديق مكدسة، ثلاثة منها كانت مفتوحة وبداخلها مجموعة من بنادق إيه.كيه-47 (كلاشنيكوف) وذخيرة وعبوات ناسفة.

واحتوت الغرفة أيضا على ثلاثة أجهزة كمبيوتر، وجهازين لوحيين، ومجموعة من أجهزة اللاسلكي، وبنك طاقة (باور بنك). وفي المنتصف، وُضعت طاولة خشبية تعلوها خريطة كبيرة.

كما قال أحد المصدرين، وهو ضابط يراقب جاهزية الغرف، إن هذه المراكز بالنسبة لحسن ومخلوف “هي جزيرة الكنز، وكلهم متل القوارب عم يحاولوا يوصلولها”.

اعتراف بافتعال أحداث الساحل

وكان كبار المسؤولين العسكريين وشخصيات حكومية بارزة بعهد الأسد، فرّوا إلى الخارج في ديسمبر (كانون الأول) 2024، لكن القادة من المستوى المتوسط بقوا ​​في سوريا ولجأ معظمهم إلى المناطق الساحلية.

وبدأ هؤلاء الضباط في تجنيد مقاتلين، وفقا لقائد متقاعد شارك في ذلك. وقال القائد “الجيش والعسكرة كانوا أرضية خصبة. آلاف الشباب من الطائفة كانوا مجندين بالجيش اللي إنحل فجأة وقت السقوط، وفجأة لقوا حالهم بلا شي”.

ثم جاءت “الانتفاضة الفاشلة” في السادس من مارس (آذار)، عندما نصبت وحدة تعمل بشكل مستقل كمينا لقوات الأمن التابعة للحكومة الجديدة في ريف اللاذقية، مما أسفر عن مقتل 12 رجلا وأسر أكثر من 150، وفقا للضابط الذي قاد الكمين -وهو برتبة عميد- وغادر منذ ذلك الحين إلى لبنان.

وقالت الحكومة السورية الجديدة إن المئات من قواتها الأمنية لقوا حتفهم في القتال الذي اندلع بعد ذلك.

ماهر الأسد

إلى ذلك، اعتبر التقرير أن ماهر الأسد، الشقيق الأصغر لبشار، اللاعب الرئيسي المحتمل في محاولات التحريض ضد الحكومة السورية، إذ سيطر ماهر على إمبراطورية تجارية وقاد أقوى وحدة في الجيش السوري وهي الفرقة الرابعة المدرعة.

صورة لبشار الأسد (أرشيفية- رويترز)

صورة لبشار الأسد (أرشيفية- رويترز)

وكشف بحث أجراه معهد نيو لاينز للأبحاث في الولايات المتحدة أنه في عهده اكتسبت الفرقة نفوذا واستقلالا ماليا جعلها أشبه بدولة داخل الدولة، إلى الحد الذي جعل الولايات المتحدة وبريطانيا والاتحاد الأوروبي تفرض عليها عقوبات خاصة.

وقال قائد كبير في الفرقة، موجود الآن في لبنان، إن إمبراطورية ماهر المالية لا تزال تعمل إلى حد كبير باستثناء مبيعاته من مخدر الكبتاغون وهو أمفيتامين يُنتج بشكل غير مشروع.

كما يُعتقد أن رجل أعمال مقرباً من ماهر أمواله مخبأة في شركات وهمية داخل سوريا وخارجها.

رامي مخلوف

وكان مخلوف بدأ في التاسع من مارس (آذار)، يطلق على نفسه “فتى الساحل مؤيد المظلومين”، وذلك بعد أن هرب إلى لبنان في سيارة إسعاف ليلة الثامن من ديسمبر (كانون الأول) 2024 مع سقوط النظام.

وقال أربعة مقربين من العائلة ومسؤول في الجمارك مطلع على الأحداث، إن إيهاب شقيق مخلوف حاول الفرار في تلك الليلة بسيارته الفارهة من طراز مازيراتي، لكنه قتل بالرصاص قرب الحدود وسُرقت ملايين الدولارات التي كانت بحوزته نقدا.

كما ذكر تسعة مساعدين وأقارب أن مخلوف يعيش حاليا في طابق خاص بفندق فاخر في موسكو تحت حراسة أمنية مشددة.

وكشف مدير مالي وإيصالات وكشوف رواتب اطلعت عليها رويترز، أن مخلوف يحول أموالا عن طريق مديري أعمال يثق بهم في لبنان وروسيا إلى ضباط علويين لدفع الرواتب وشراء معدات.

فيما زعم أحد المديرين الماليين لمخلوف أنه أنفق ستة ملايين دولار على الأقل على الرواتب، كما أظهرت كشوف الرواتب وإيصالات استلامها التي أعدها مساعدوه الماليون في لبنان، أن مخلوف أنفق 976705 دولارات في مايو/أيار، وأن مجموعة من خمسة آلاف مقاتل تلقت 150 ألف دولار في أغسطس/آب.

إضافة إلى ذلك، سعى فريق مخلوف لتوفير أسلحة. فقد حددوا المواقع المحتملة لعشرات المخابئ من عهد الأسد، والتي تضم بضعة آلاف من الأسلحة، وفقا لمخططات اطلعت عليها رويترز. وهذه المخزونات غير تلك الموجودة في غرف القيادة السرية.

كما أجروا محادثات مع مهربين في سوريا للحصول على أسلحة جديدة، لكن أشخاصا مطلعين على المناقشات قالوا إنهم لا يعرفون ما إذا كانت أسلحة جديدة قد تم شراؤها أو تسليمها بالفعل.

وذكر القادة العسكريون الخمسة أنهم يقودون في المجمل حوالي 12 ألف رجل في مراحل مختلفة من الجاهزية. وقال أحدهم لرويترز إن الوقت لم يحن بعد للتحرك.

كمال حسن

من جهته، أدار حسن منظومة الاحتجاز العسكري في عهد الأسد، المعروفة بابتزاز الأموال على نطاق واسع من عائلات السجناء، وفقا لتقرير صادر عن الأمم المتحدة عام 2024.

وخلص تحقيق أجرته رويترز هذا العام إلى أن حسن هو من اقترح نقل مقبرة جماعية تحتوي على آلاف الجثث إلى صحراء الضمير خارج دمشق لإخفاء حجم الفظائع التي ارتكبتها حكومة الأسد.

ومع انهيار جيش الأسد، فر حسن أولا ثم لجأ إلى السفارة الروسية في دمشق في ديسمبر/كانون الأول 2024 لمدة أسبوعين تقريبا.

وقال شخصان مقربان منه إنه شعر بالغضب إزاء ما اعتبره سوء معاملة من جانب مضيفيه، الذين وفروا له غرفة واحدة بها كرسي خشبي واحد فقط للجلوس عليه.

وذكر في رسالة صوتية عبر تطبيق واتساب إلى دائرته المقربة في الربيع الماضي “مو كمال حسن الي بيتقعّد على كرسي خشب كذا يوم!”.

وقال ضابط التقى به خلال الصيف إن حسن انتقل في نهاية المطاف للإقامة في فيلا مكونة من ثلاثة طوابق في ضاحية بموسكو. ووفقا لشخصين مطلعين على تحركات حسن، فإنه قابل ماهر الأسد مرة واحدة منذ ذلك الحين، ويحافظ على علاقات وثيقة مع الروس.

فيما زعم منسق عمليات حسن في لبنان أن رئيس المخابرات العسكرية السابق أنفق 1.5 مليون دولار منذ مارس على 12 ألف مقاتل في سوريا ولبنان.

كما تم الإعلان في منتصف العام، عن إنشاء منظمة خيرية أطلق عليها اسم “منظمة إنماء سوريا الغربية”، والتي ذكر أحد أوائل منشوراتها على فيسبوك أنها ممولة “من المواطن السوري اللواء كمال حسن”.

ووصف ثلاثة ضباط مرتبطين بحسن ومدير لبناني في المنظمة الأمر بأنه غطاء إنساني حتى يتمكن حسن من بناء نفوذ بين العلويين.

وفي أغسطس آب، دفعت الجمعية الخيرية 80 ألف دولار لإيواء 40 عائلة علوية سورية، بحسب إعلان عن أول نشاط لها. ووفقا لوثيقة رواتب اطلعت عليها رويترز، أرسل حسن في الشهر نفسه 200 ألف دولار نقدا إلى 80 ضابطا في لبنان.

هجمات إلكترونية ضد الحكومة الجديدة

كما ذكر مساعد لحسن في موسكو وأحد المتسللين الإلكترونيين، وهو مهندس كمبيوتر، أن حسن قام أيضا خلال الصيف بتجنيد حوالي 30 متسللا إلكترونيا كانوا ينتمون في السابق إلى المخابرات العسكرية. وكانت الأوامر الموجهة لهم هي تنفيذ هجمات إلكترونية ضد الحكومة الجديدة وزرع برامج تجسس في أنظمة الكمبيوتر الخاصة بها.

وبحلول سبتمبر، كانت مجموعات بيانات الحكومة السورية التي قال المهندس إن فريقه سرقها معروضة للبيع على شبكة الإنترنت المظلمة (دارك وي) مقابل ما بين 150 و500 دولار.

وعثرت رويترز على عدة مجموعات من البيانات التي حددها المهندس على الإنترنت، بما في ذلك قواعد بيانات موظفي وزارتي الاتصالات والصحة.

القائد على الأرض

بالمقابل، اعتمدت حكومة دمشق بشكل محوري على خالد الأحمد، صديق الطفولة للرئيس الشرع، لمواجهة المؤامرة، حيث كان الأحمد، العلوي، ذات يوم ضمن الدائرة المقربة للأسد.

وعمل دبلوماسيا في الظل، وأحد مؤسسي قوات الدفاع الوطني، أكبر قوة شبه عسكرية متحالفة مع الأسد، لكن الأسد عامله بنفس الطريقة التي عامل بها ابن خاله وجرده من الامتيازات وأمر بتجنيده، بحسب ما قال مساعدان.

ففر الأحمد إلى قبرص، ثم سافر في عام 2021 إلى إدلب بشمال غرب سوريا للقاء صديقه القديم الشرع، حسب روايات ثلاثة أشخاص عملوا مع الرجلين. وأضافوا أنهما ناقشا خطة الشرع للإطاحة بالأسد، وهو ما تحقق بالفعل في ديسمبر (كانون الأول) 2024.

واطلعت رويترز على رسائل صوتية من الأحمد عبر تطبيق واتساب أواخر عام 2024، أخبر فيها مسؤولين عسكريين بارزين أنه من غير المجدي التمسك بالدكتاتور الخاسر، ووعدهم بالعفو عنهم إذا تخلوا عنه ومنعوا سفك الدماء.

واليوم يعد الأحمد أبرز شخصية علوية في سوريا، ويعمل وفق دمشق، بقوة في مسار السلم الأهلي، منطلقا من الحرص على أبناء الطائفة العلوية ودمجهم في الحكومة الجديدة.

كما يُعتبر الدور الذي يقوم به دورا مهما في تعزيز الثقة بين المكون العلوي والحكومة الجديدة.

يذكر أنه في أواخر أكتوبر (تشرين الأول)، أعلنت وزارة الداخلية اعتقال خلية في منطقة الساحل قالت إنها ممولة من مخلوف وكانت تخطط لاغتيال صحافيين وناشطين.