الممثل بول دانو في الفترة التي أدّى فيها دور إيلاي عام 2007 (ليز أو. بايلن/ Getty)
في تصريحاته الأخيرة، أثار المخرج الأميركي، كوينتن تارانتينو، عاصفة في الأوساط السينمائية الهوليوودية (وخارجها كذلك)، بعد أن وصف أداء الممثل بول دانو في فيلم There Will Be Blood (صدر عام 2007) بأنه “العيب الكبير” في العمل، واعتبره “ضعيفاً” و”ليس مثيراً للاهتمام”. بدا الهجوم مجانياً وعشوائياً، ليس لحدة لغة تارانتينو فقط، بل لأنه استهدف أحد أكثر الأداءات التمثيلية التي حظيت بتقدير في السنوات الأخيرة. وكأن صاحب فيلم Pulp Fiction لا يقدّم نقداً تحليلياً بقدر ما يطلق حكماً قيمياً قاطعاً يعتمد ذوقاً شخصياً، من دون أن يقدّم أسباباً فنية واضحة؛ الأمر الذي فتح نقاشاً حول حدود النقد، ومسؤولية الشخصيات السينمائية في كيفية إبداء آرائها.
في المقابل، حين نقترب فعلاً من أداء بول دانو في الفيلم، يصبح كلام تارانتينو أكثر إثارة للحيرة. دانو قدّم شخصية “إيلاي صنداي” بتركيب نفسي دقيق: رجل دين شاب، هشّ، يختبئ خلف خطاب روحاني لكنه مسكون بالطمع والغيرة والضعف البشري. قوّة الأداء تتجلّى في هذا التوتر الداخلي المستمر؛ فالشخصية ليست نداً مكافئاً لـ”بولينفيو” الذي لعب دوره دانيال داي-لويس، بل ضده النقيّ؛ هو خصمه الذي يُهزم أخلاقياً قبل أن يُهزم فعلياً. الارتباك والصراخ والخشوع الزائف والانكسار السريع، كلّها كانت اختيارات مدروسة تخدم بنية الفيلم، وليست نقاط ضعف كما فهمها تارانتينو، بل إن كثيراً من محبّي There Will Be Blood يرون أن مشاهد المواجهة بين دانو وداي-لويس لم تكن لتنجح لولا هذا التضاد بين القوة الطاغية والانهيار المدروس.
ولعلّ تقييم أداء بول دانو خارج سياق الفيلم يغيّر معناه تماماً؛ فتُحفة المخرج بول توماس أندرسون تقوم على ثنائية بين العنف الصامت الذي يمثّله “بلينفيو” والخداع الهش الذي يمثّله “إيلاي”. لو أُسند الدور إلى ممثل بـ”حضور أقوى”، كما اقترح تارانتينو، لفقدت الثنائية توازنها، ولتحوّل الفيلم إلى منافسة صاخبة على الشاشة بدلاً من أن يكون صراعاً نفسياً طبقياً دينياً شديد العمق. إن “ضعف إيلاي” ليس ضعف أداء، بل جزء من البناء الدرامي الذي يجعل الفيلم يتجاوز مجرد دراما نفطية إلى دراسة أخلاقية عن السلطة والقداسة المصطنعة، والعلاقة بين الكنيسة ورأس المال، وتواطئهما حيناً، وخلافهما في أحيان أخرى، وفقاً لمصالح كلّ منهما، على حساب الأخلاقيات التي كانت تزعمها كنيسة الفيلم.
لهذا، لم يكن غريباً أن يواجه تارانتينو موجة انتقادات كبيرة شنّها الجمهور، ومن كتّاب السينما، وحتى من بعض الممثلين الذين عبّروا عن احترامهم الشديد لموهبة دانو، مثل أليك بالدوين، بل إن شركة باراماونت، المُنتجة للفيلم، نشرت على “فيسبوك” احتفاءً بدور دانو ردّاً منها على ما قاله تارانتينو.
كثيرون اعتبروا أن تصريحاته لا تخدم الحوار الفني، بل تشجّع على تقليل قيمة مجهود ممثل لا يقل براعة عن نظرائه. كما رأى جزء من النقاد أن هجوم تارانتينو يفضح نزعة متزايدة لدى “نجوم الإخراج” في التعامل مع آرائهم بوصفها مسلمات، متناسين أن الفن بطبيعته متعدد الأصوات، وأن الأداء السينمائي لا يُقاس بالحضور الصاخب فقط، بل أيضاً بالهشاشة المقصودة والدقة النفسية.
في النهاية، تذكّرنا هذه القضية بأن الحكم على الأداء مسألة ذاتية، وأن قوة السينما تكمن في اختلاف وجهات النظر وليس في فرض تقييم واحد باعتباره الحقيقة النهائية المُطلقة، خصوصاً حين ينطق بها بهذه العدوانية والشراسة، من دون الاستناد إلى أي معايير.
