يعد “سيرة بيسوا” (أكانتيلادو، برشلونة، 2025) أكثر من مجرد سرد حياة شاعر، فهو محاولة متعمقة لفهم الوجود الشعري كما عاشه بيسوا، وتحليل الطرق التي صنع بها ذاته المتعددة في عالم محدود. فبيسوا ليس شخصية يمكن استيعابها في صورة واحدة؛ إنه كيان شعري متشظٍّ، يعيش في نصوصه أكثر مما يعيش في العالم الملموس، ويبدو أن مؤلف العمل ريتشارد زنيث، فهم هذه الحقيقة منذ اللحظة الأولى لرحلته البحثية، فكانت سيرة بيسوا عنده دراسة للحياة واللغة والخيال والهوية في آن واحد.

تُعالج السيرة، التي ترجمها إلى الإسبانية إغناسيو فيدال فولش، حياة بيسوا على شكل مراحل زمنية متتابعة، تبدأ بالطفولة المبكرة (1888-1905)، حيث تظهر البذور الأولى للوعي الشعري. هنا يوضح زنيث كيف أن بيسوا كان منذ صغره مختلفاً عن أقرانه؛ هادئاً متأملاً، يراقب التفاصيل الدقيقة للعالم، ويخزن الملاحظات التي ستصبح لاحقاً مادة لكتاباته.

ثم تنتقل السيرة إلى مرحلة النضج الأولى (1905-1914)، حيث يظهر بيسوا ذاك “الشاعر المحول”، شخص يحاول تكوين ذاته عبر اللغة ويخلق عوالم موازية لما يعيشه. هذه المرحلة تكشف اهتمامه بالمجتمع والثقافة، ولكنه يبقى في الوقت نفسه غريباً عن محيطه، يراقب ولا يندمج، كما لو أن العالم الواقعي لا يستطيع احتواء قدرته على التخيّل.

يركّز على علاقة بيسوا ومحيطه الاجتماعي من خلال كتاباته

يزيد زنيث من عمق السيرة عبر تصوير بيسوا في مراحل لاحقة (1914-1925) بوصفه “الحالم والمتأمل في الحضارة”، أي شاعراً يرى في الخيال أداة لتغيير العالم الداخلي والخارجي. يبين المؤلف كيف أن بيسوا، رغم عزلته الظاهرية، كان يتفاعل مع التراث الثقافي البرتغالي والأدب العالمي، ويستوعب فلسفات متباينة من بينها الفلسفة الألمانية والشعر الإنكليزي. هذه الطبقات المتعددة من التأثيرات لم تُظهر بيسوا بوصفه تابعاً، بل مبتكراً وشاعراً يحاول أن يخلق عالماً داخلياً يعادل تعقيد العالم الخارجي.

كذلك يركّز زنيث على العلاقة بين بيسوا ومحيطه الاجتماعي من خلال الصور التي رسمها في رسائله ومذكراته، ويُظهر كيف كانت حياته اليومية في لشبونة، في المقاهي والشوارع، جزءاً من سياق شعري وفلسفي، واصفاً بدقة لحظاته الصامتة الطويلة حيث يراقب حركة المارة وتغير الضوء، فيحوّل كل التفاصيل اليومية إلى مادة فكرية، ويخلق من الهدوء الخارجي ضجيجاً داخلياً ممتداً، وهو ما يميز الشعراء العظام الذين يعيشون داخل لغة أكثر مما يعيشون داخل العالم.

أحد أبرز إسهامات السيرة، تحليل زنيث لآلية خلق بيسوا لما يعرف بـ”الأقران”: شخصيات شعرية كاملة تتمتع بأسلوب وروح مستقلة عن الكاتب نفسه. من بين هذه الأصوات ألبيرتو كاييرو وريكاردو رييس وألفارو دي كامبوس، التي لم تكن مجرد أقنعة، بل كانت حيوات كاملة تتصارع وتتقاطع داخل شاعر واحد. هذه الظاهرة لم تكن فنية فحسب، بل وجودية: كانت محاولة لتجاوز ضيق الذات الواحدة والبحث عن تنوع داخلي قادر على التعبير عن تعدد الرؤى والتجارب.

من إسهامات السيرة تحليل زنيث لآلية خلق بيسوا لـ”الأقران”

ويشير زنيث أيضاً إلى السياق الفكري والثقافي الذي ساعد بيسوا على تطوير هذه الأصوات الداخلية: القراءات الفلسفية، الشعر الإنكليزي، الاهتمام بالتراث الوطني البرتغالي. كل هذه العوامل ساعدت على خلق عالم داخلي معقد يتيح للشاعر أن يوجد في أكثر من مكان وزمان في الوقت نفسه. تبرز هذه السيرة كيف أن هذا التعدد الصوتي ليس حيلة، بل ضرورة؛ فالذات البشرية، عند بيسوا، تحتاج إلى أكثر من صوت واحد لتعيش تماماً.

تمثال الشاعر البرتغالي فرناندو بيسوا، أمام مقهى “آ برازيليارا” في شارع غاريت في لشبونة، 2020 (Getty)

كذلك يناقش الكاتب العلاقة العاطفية الوحيدة المهمة في حياة بيسوا مع فلوريس، ويصفها بأنها علاقة مترددة وغنية بالتوترات النفسية، تشبه تدريباً على الحب، لا الحب نفسه. لم يكن بيسوا قادراً على إقامة حضور دائم في علاقة حقيقية، لأنه اختار أن يظل مفتوحاً على احتمالات لا حصر لها، وأن يعيش في تعدّد مستمر. هنا يظهر جانب المأساة: فبيسوا خلق شخصيات شعرية لتوسيع وجوده، لكنها في الوقت نفسه جعلت حياته الواقعية أكثر محدودية وعزلة.

زنيث لا يقدم بيسوا شاعراً مثالياً، بل إنساناً هشاً يعيش بين العبقرية والوهن، بين الحرية والانغلاق. هذه السيرة تجعل القارئ يواجه حقيقة أن الشعر يمكن أن يكون وسيلة للنجاة من العالم، لكنه يمكن أيضاً أن يعمّق الانفصال عن الحياة اليومية. فتجربة بيسوا توضح كيف أن الانغماس في اللغة والخيال قد يكون نعمة ونقمة في آن واحد: يخلق عوالم داخلية واسعة، لكنه يخسر القدرة على المشاركة الكاملة في العالم الخارجي.

ومن الجوانب المهمة التي يسلط عليها الكتاب الضوء، إدراك بيسوا لاقتراب نهاية حياته، ليس من الناحية البيولوجية فقط، بل من الناحية الوجودية: لقد شعر بأن اللغة التي عاش فيها لم تعد كافية لتحمل نفسه. ويستشهد زنيث بعبارة كتبها بيسوا في أيامه الأخيرة: “أشعر أنني لم أكن حاضراً في حياتي”.

هذه الجملة تفتح المجال للتأمل في إمكانية أن تكون الكلمات والحروف ملاذاً وحياة بديلةً عن الحياة نفسها، وفي الوقت ذاته تحذر من قيود الحرية الداخلية المفرطة التي يمكن أن تقيد الفعل والوجود.

ثم ينتقل زنيث إلى دراسة العلاقات العائلية لبيسوا، مستعرضاً الأثر النفسي للوالدين والأجداد على تكوين شخصيته. يقدم سرداً دقيقاً للأحداث العائلية الصغيرة والكبيرة، ويبيّن كيف أن كل حدث، مهما بدا بسيطاً، يمكن أن يتحول إلى مادة شعرية أو فكرية لاحقاً. وهذه المقاربة تجعل السيرة ليست مجرد حكاية تاريخية، بل تجربة فلسفية في فهم الذات والهوية، تدفع القارئ إلى التساؤل عن حدود الذات، وعن كيفية تأثير الظروف المحيطة على التعبير الفني والوجودي.

من هنا تبرز أهمية السياق الاجتماعي والسياسي في فهم بيسوا، فالعزلة ليست خياراً شعورياً فقط، بل كانت نتاجاً لبيئة ثقافية محددة، مهدت له الفرصة ليعيش داخل نصوصه أكثر مما يعيش في العالم، ولتطوير لغة معقدة تعكس تعدد الخبرات والتجارب الداخلية والخارجية على حد سواء.