تسعى إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى إعادة ضبط العلاقات بين واشنطن وموسكو، والتقدم نحو إنهاء الصراع في أوكرانيا، على حساب حلفائه الأوروبيين، حيث إن ترامب يضع أوروبا تحت ضغط ومحاولات استرضاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إذ تعد وثيقة «مبادئ الأمن القومي» الأمريكي تحولاً حاداً في سياسة واشنطن الخارجية، حيث تلقي الاستراتيجية باللوم على الحلفاء الأوروبيين لعرقلة الجهود التي تدعمها الولايات المتحدة لإنهاء الصراع في أوكرانيا، وتشير إلى أن إنهاء «الأعمال العدائية» ضروري لتحقيق الاستقرار في الاقتصادات الأوروبية، فيما وصف القارة العجوز بأنها تقف على حافة زوال حضاري خلال عشرين عاماً فقط.

وصدرت الاستراتيجية وسط تعثر مبادرة السلام الأمريكية التي قدمت فيها واشنطن اقتراحاً يؤيد مطالب روسيا الرئيسية في الحرب المستمرة منذ ما يقرب من أربع سنوات. وخفضت الاستراتيجية الأمريكية من التركيز على مواجهة الصين وروسيا، الذي ميز إدارة جو بايدن، كما حذفت وصف بكين وموسكو بـ«القوى التعديلية» (Revisionist Powers)، الوارد في استراتيجية الأمن القومي لولاية دونالد ترامب الأولى. فيما رأت أوروبا تتراجع اقتصادياً، وتتصدع سياسياً، وتفقد هويتها الثقافية حيث تقدم رؤية ترامبية لأوروبا، باعتبارها قارة متدهورة لكنها قابلة للإصلاح، وتحتاج إلى إعادة هيكلة شاملة لتصبح شريكاً تابعاً للولايات المتحدة.

في لغة غير مألوفة عند مخاطبة حلفاء مقربين، تشير الاستراتيجية إلى أن الإدارة الأمريكية ستعمل على «تنمية المقاومة لمسار أوروبا الراهن داخل البلدان الأوروبية نفسها».

ترحيب روسي

رحبت روسيا بمضمون الاستراتيجية الأمريكية الجديدة للأمن القومي، والتي تجنبت وصف موسكو بـ«التهديد المباشر»، حيث أشارت إلى أن السياسة الأمريكية المحدثة، التي تم الإعلان عنها يوم الجمعة، تتبنى لهجة أكثر مرونة وتحث على تعاون، فيما أثارت انتقادات من حلفاء أوروبا الغربيين، خصوصاً بعد تحذيرات واشنطن بإمكانية «زوال الحضارة الأوروبية خلال 20 عاماً».

الولايات المتحدة قد تجد نفسها مضطرة إلى إعادة ضبط علاقتها مع روسيا، ليس بدافع التقارب بحد ذاته، ولكن من أجل إدارة المخاطر الاستراتيجية وإعادة توجيه تركيزها نحو التحديات المستقبلية، وتتضمن النسخة الجديدة من الوثيقة الأمريكية دعوة لتعزيز التعاون مع موسكو في مجال الاستقرار الاستراتيجي، بينما تخلو من الإشارة إلى روسيا باعتبارها «تهديداً مباشراً».

تركيز على الصين

ويؤكد محللون أن ترامب قد يكون يتبع استراتيجية «إعادة التواصل مع روسيا للتركيز على الصين»، وتقول إن «الصين الأقوى بكثير تشكل التهديد الأكبر للولايات المتحدة، لذا من الحكمة إبعاد موسكو عنها. ولا شك أن العالم اليوم الذي يضم حلفاء لترامب وخصومه يتعامل مع مرحلة جديدة تختبر فيها بصورة غير مسبوقة أمريكا وقوتها وقيادتها للغرب، حيث تحرص واشنطن من خلال عقيدتها على اتباع نهج جديد يعتمد على الجوانب الإيجابية وتعزيز التعاون متعدد الأطراف، وإزالة الحواجز التجارية، وإزالة الجوانب السلبية، مثل الردع العسكري والحظر الاقتصادي.

تلقي الاستراتيجية الأمريكية باللوم على المسؤولين الأوروبيين لعرقلة الجهود التي تدعمها الولايات المتحدة لإنهاء الصراع مع روسيا، كما تعتبر أن إنهاء «الأعمال العدائية» خطوة ضرورية لإعادة الاستقرار مع روسيا وإنهاء الحرب. وعبر خبراء عن قلقهم من أن اللغة الأمريكية الأكثر مرونة تجاه روسيا قد تضعف الجهود المبذولة لمواجهة موسكو مع استمرار الحرب في أوكرانيا، سيما وأن الاستراتيجية الجديدة، تؤكد أن «من مصلحة الولايات المتحدة التفاوض» من أجل إنهاء الحرب، و«من أجل إعادة إرساء الاستقرار الاستراتيجي مع روسيا». علماً أن استراتيجية أمريكا تجاه روسيا لا تقتصر على الاعتبارات الاقتصادية والاستراتيجية فحسب، بل إن البعد العسكري الجيوسياسي يشكل ركيزة أساسية في التفاعلات بين القوتين. حيث بات أي تصعيد إضافي ينطوي على مخاطر مواجهة مباشرة بين الناتو وروسيا.

ويؤكد محللون أن الالتزام الأمريكي بحماية أوروبا يفرض عليها اتخاذ قرارات صعبة، خاصة أن بعض الدول الأوروبية، مثل بولندا ودول البلطيق، تدفع نحو سياسات أكثر تشدداً تجاه موسكو، لكنها تظل غير قادرة على تحمل عبء أي مواجهة عسكرية مباشرة دون دعم الولايات المتحدة.

وشهدت العلاقات بين الولايات المتحدة وأوروبا توتراً متزايداً منذ عودة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في يناير 2025، خاصة فيما يتعلق بالمفاوضات مع روسيا. فرغم أن أوروبا كانت دائماً لاعباً رئيسياً في القضايا الأمنية والاقتصادية العالمية، إلا أن إدارة ترامب أعادت تبني سياسة أكثر انعزالية، وكان بوتين صرح في فبراير الماضي بأن ترامب سيعيد بسرعة إرساء النظام الدولي من خلال شخصيته القوية، وأن النخب الأوروبية ستخضع لأوامره.