“لم أرد أن تشاغب الطريقة التي أصفف بها شعري على ما أطرح من أفكار”… هذا ما ردّت به ميشيل أوباما على سؤالٍ طرحه أحد المحاورين حول عدم تصفيف شعرها بالجدائل خلال وجودها في البيت الأبيض، أي بالطريقة الإثنية للنساء الأميركيات السوداوات.
وفي العام 2009، أنتج الممثل والكوميديان كريس روك فيلمه الوثائقي “Good Hair” بعدما سألته ابنتاه: لماذا لا نملك شعرًا جميلاً؟ فحوّل السؤال الطفولي إلى رحلة بحث عن معنى الجمال في عالمٍ لا يسمح للنساء السوداوات بأن يكنّ أنفسهن. الفيلم يعرّي النظام الصناعي والاجتماعي الذي يُحاصر الشعر الأفريقي في قوالب حديثة هي في حقيقتها محاكاة لبياض الآخر، إذ تلجأ النساء إلى مواد كيماوية قاسية لإخفاء طبيعة شعرهن في محاولةٍ للاندماج أو للهروب من التنمّر أو كنوع من الاعتذار غير المعلن عن لون بشرتهن وذاكرتهن العرقية. إنها استعارة كاملة للاستعمار الثقافي حين يتحوّل الجسد إلى ساحةٍ لتأديب الذات لا لتعبيرها.
في حادثة قريبة نسبيًا، رفض مهرجان “كان” إدخال مخرجٍ كندي إلى صالة العرض لأنه ارتدى حذاء الموكاسان الذي يُعد رمزًا من رموز السكان الأصليين في كندا. بدا المشهد كأنه امتدادٌ ساخر لدولة الحريات العامة. المظهر المختلف مرفوض ما لم يُعاد إنتاجه ضمن شروط العالم الأول.
من الشَّعر إلى الحذاء، تتكرّر اللعبة ذاتها. إننا نرتدي ما يحاكي الذوق العام لنشعر بالانتماء إلى كود حضاري واحد أو نرتدي لباسًا يحمل رسالة احتجاجية أو سياسية أو سوسيولوجية ليصبح الجسد بيانًا مؤدلجًا في ذاته، وبالنهاية نظل نتأرجح بين الحالين.
عمي كاسر
لدي الكثير من الذكريات المغرقة في الجمال، لكن يظل أجملها، السقوط في حضن عمي كاسر. لم يكن في ذاك الحضن ما هو عادي، إذ يرتدي عمي اللبيسة والشروال، ويجلس على فراش مريح على الأرض، فتتّسع دائرة حضوره إلى ما لا نهاية، ويصير الجلوس في تلك الدائرة كالهبوط في غيمة. على قماش متماسك منهدل، وكثير الطبقات اللا نهائية، وخياطة متقنة، تنزل عليه حطة بيضاء ناصعة كالثلج، ودفء كبير، وهيبة لأبوة لا تُقاس بفرح العالم. لكن، وبعد حضوره زفاف ابنته في الشام، كل هذا تغيّر برفّة عين. توقّف عمي عن ارتداء الشروال، وأنا كبرتُ عن ذلك الحضن الذي كان يتّسع للعالم بأسره.
منذ سنوات كثيرة، منعتُ نفسي من الانغماس في الذكرى، لأني كلما استدعيت تلك الصورة أمام الآخرين قوبلت بالسخرية. اتُّهمتُ بالفولكلورية وبأنني أتزيّن بالحنين كما يتزيّن بعضهم بالأزياء الشعبية في المهرجانات. في شبابي الدمشقي لم تكن التهمة أقل قسوة، بل انعكست في الاتجاه المعاكس. من يتحدّث بالفرنسية أو يزرع كلمتين إنكليزيتين في حديثه يُتّهم بالتغريب وتقليد الغرب. كأننا في كل الاتجاهات محكومون بلعنة التمثيل. إما فلكلوريون في عيون الحداثة أو مستغربون في عيون التراث.
أتذكّر أن صديقًا دافع عني يومها حين اتّهمني أحدهم بالتغريب فقال ضاحكًا: “عبير عمّتها اسمها مرشي”!
كانت جملةً بسيطة لكنها أزالت الحاجز بين الاتهامين معًا، وكشفت تلك المسافة المعلّقة التي نعيشها نحن أبناء ذلك المكان المعلّق بين العوالم، حيث لا يُسمح لك أن تكون كما أنت.
يأتي الوعي اليوم ليخبرنا أن اللباس انعكاس لنظام اجتماعي ومعرفي.
في الأزمنة الكولونيالية كان أداةً في يد المستعمِر لفرض مفهومه عن التمدّن والتحضّر. القبعات والمعاطف الأوروبية استخدمت كرموز للترقي الطبقي، بينما أُقصي الزيّ المحلي باعتباره بدائيًا. في الهند، سعى البريطانيون إلى تقليص انتشار لباس الساري معتبرين أن اللباس المتحضّر هو جزء من مهمتهم التمدينية. في الجزائر أُجبر الرجال على نزع الجلابيب في المؤسسات الحكومية لتكريس مظهر المواطن المتناغم مع الجمهورية الفرنسية. لم يكن ضربًا من المبالغة حين اعتبر فرانز فانون هذا الفعل تطهيرًا رمزيًا. حين يُجبر الفرد على التخلي عن لباسه ليحصل على حق الوجود في الفضاء العام.
سعاد حسنى العام 1985 خلال تصوير مسلسل “هو وهي”- حلقة “جلابية بارتي”
زوجان مصريان في المتحف الكبير
انتشرت في وسائل التواصل صورة لزوجين مصريين يزوران المتحف الكبير بملابسهما التقليدية فأثارت جدلًا حول ما يليق وما لا يليق ارتداؤه في أروقة الحضارة. البعض رأى المشهد غير لائق بالمكان، والبعض الآخر -وأنا منهم- دافع عنه بشراسة، عن وسامة الرجل والأنس في ملامح زوجته، ثم باغتتني الريبة.
هل أدافع عن الحرية فعلًا أم عن صورة فولكلورية تريح ذائقتنا في تمجيد الاختلاف دون قبوله؟
أتذكّر كيف التقط صلاح جاهين هذا الاحتفاء الفولكلوري في اسكتش “جلابية بارتي” من مسلسل “هو وهي”، ولم أنسَ سعاد حسني وهي تدور بالجلابية وتحولها إلى ديكور احتفالي في سهرة برجوازية.
اللعبة القديمة ذاتها
ما يُسمّى اليوم “الفاشن” هو الوجه الناعم للعولمة. نظام صارم في مظهره، هشّ ومتهالك من داخله، يُنتج اختلافًا مروّضًا صالحًا للتسويق. تُسوَّق الأزياء الإفريقية في أسبوع الموضة بباريس، بينما تُمنع الفتيات في بعض المدارس من تصفيف شعورهن بالجدائل. يُعرض الكيمونو في المتاحف بوصفه تحفة ثقافية، لكن ارتداءه في الشارع ما زال يدير الرؤوس نحوه كما لو أنه اقتحام غير مأذون.
تحت هذا البريق تعمل صناعة كاملة على اقتطاع حصصٍ من ذاكرتنا. تُحوِّل الطمأنينة القديمة والحنين إليها، إلى علامة تجارية. كل شيء يُعاد إنتاجه بلغة المال. تُباع الذكريات مفصَّلة بالمقاس، ويُشترى من الماضي ما يصلح للتجارة بالرموز وبالانتماء.
وما يُشترى في النهاية ليس الثوب، بل الوهم بأننا ما زلنا من نحن عليه.
