(الفقر فى الوطن غربة، والغنى فى الغربة وطن)، بطل الفيلم عانى الغربة وعاش أيضا تحت وطأة الفقر.
المخرج السورى الشاب أمير فخر الدين يصنع سينما، تتجسد فيها خصوصية النظرة، وبراءة الحلم، وعفوية اللمحة، قرر أن يحيلها إلى ثلاثية، تتوافق مع محطات فى حياته، إلا أنها قطعا لا تتطابق، ليست بالضبط سيرة ذاتية بقدر ما هى استلهام لها، أنجز الجزء الأول قبل عامين (الغريب)، ثم قدم الثانى (يونان)، ولا يزال يحلم بالثالث، يشارك هذا الفيلم فى المسابقة الرسمية للبحر الأحمر.
للوهلة الأولى تعتقد أنه يحكى عن نفسه، هذا ما تلمحه فى القراءة الأولى، ثم تكتشف أنه يحكى عنى وعنك، واضعا الإنسان فى مقدمة المشهد الشاشة، تشير إلى تأثره بالمخرج الإيرانى عباس كيروستامى، هذا الخيط الذى يبدأ هادئا وعفويا ثم يثير أمامك العديد من الأسئلة ولا يتورط أبدا فى تقديم أى إجابة قاطعة.
عندما تمتزج الشاعرية مع الواقع نطلق بعدها العنان لأحاسيسنا، نغادر مقاعدنا أمام الشاشات لنجد أنفسنا جزءا من الحكاية، أنت فى هذه الحالة ترى لمحة من صورتك وأحلامك وإحباطاتك.
فى (الجولان) المحتلة منذ ١٩٦٧، عاش المخرج جزءا من طفولته، إسرائيل تعتبر (الجولان) جزءا من أرضها، إلا أن (الجينات) الوراثية تأبى سوى أن تكون سورية.
الشريط لا يتناول تلك القضية، ولكن تجد تلك التفاصيل لها مردود فى عمق رؤية للمخرج، تلك الدوافع تحرك أحاسيسه فهو يتناول الإنسان، مهما كان لونه أو جنسه أو عرقه أو دينه.
لا يقدم أمير أى إجابة مباشرة عن الأسئلة التى تفرض نفسها علينا بمجرد رؤية الشريط السينمائى الذى يمتزج فيه الخاص بالعام، عاشت سوريا فى حالة من الاغتراب بسبب ما كان يجرى على أرض الوطن، فى الحقبة (البشارية)، التى تولى فيها بشار حكم البلاد، دفع المواطن البسيط للرحيل، خارج الحدود، سواء للعالم العربى أو أوروبا، وألمانيا تحديدا شهدت عددا كبيرا من المهاجرين السوريين، الذين أثبتوا كفاءتهم فى كل المجالات التى أتيحت لهم، البطل اختار الرحيل لجزيرة نائية فى ألمانيا، وهناك يلتقى بالعديد من الأفكار والثقافات ليعود لنفسه، من خلال صاحبة الفندق السيدة المسنة التى تفتح له نوافذ مختلفة على الحياة.
الفيلم بطولة جورج خباز وهانا شيجولا وعلى سليمان، تصوير روناتلد بلانت، موسيقى سعاد بوشناق.
تحقيق الذات هو البداية، التى تحرك الإنسان، إلا أن البطل فقد الرغبة تماما فى الحياة ولم يمتلك القدرة لكى يُنهى حياته بطلقة مسدس يحمله فى يده، ربما ليذكرنا فى كل لحظة أنه يستطيع أن يقول نكتفى بهذا القدر إلا أنه لم يفعلها.
ما يربطه بالوطن اتصال عبر (النت) يأتى واهنًا مع أمه التى تمثل الذكرى والعمق، تعانى من (ألزهايمر)، وكأنها تنزع عنه ذاكرته، أصعب إحساس يعيشه الإنسان، عندما لا تعرفه أقرب الناس إليه أمه، وكأنه يشير بأسلوب رمزى إلى الوطن، الأم هنا هى سوريا.
اختار المخرج بإبداع تلك الجزيرة النائية فى ألمانيا، لتجرى فيها الأحداث، حيث يلعب المكان دوره فى زيادة الإحساس بالغربة.
تتعدد اللغات بالفيلم، والمخرج يحاول أن يعثر على حالة من التوافق البصرى والذهنى، ليصعد بنا إلى ذروة الإحساس.
فيلم (يونان) يحمل خصوصية وتفرد على مستوى السرد والتعبير، تجد نفسك تبحث عنه مجددا لرؤية أخرى وقراءة فنية أكثر عمقا، تتيح لك السباحة أكثر وأكثر فى هذا الشريط السينمائى الممتع حقا!!.
