لاري إليسون وترامب في البيت الأبيض، 21 يناير 2025 (أندرو هارنيك/ Getty)
قال الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، أمام رجال أعمال في البيت الأبيض أول من أمس الأربعاء: “أعتقد أن أي صفقة يجب أن تضمن، وبشكل قاطع، أن تكون شبكة سي أن أن جزءاً منها، أو تُباع منفصلة. لا أعتقد أنه ينبغي السماح للأشخاص الذين يديرون هذه الشركة حالياً، والذين يديرون سي أن أن، وهم مجموعة من الأشخاص المخادعين جداً، بالاستمرار في هذا الوضع”، وواصل اتهام الشبكة بنشر “السمّ” و”الأكاذيب”، مؤكداً أنه لا يريد بقاء مسؤولي “سي أن أن” الحاليين في مناصبهم.
تصريح ترامب أعلاه، إضافة إلى تأكيده أنه سيشارك شخصياً في تقييم صفقة بيع شركة وارنر براذرز ديسكفري، بدلاً من الاكتفاء بالاعتماد على تقييم وزارة العدل كما جرت العادة، يعكس رغبة واضحة في التأثير على ملكية شبكة إخبارية يعاديها منذ سنوات. خلف الكواليس، أبلغ ترامب حلفاءه خلال الأيام الماضية أن “سي أن أن” يجب إما أن تُباع أو تحصل على إدارة جديدة، حتى في حال الموافقة على عرض “نتفليكس”، وفقاً لـ”وول ستريت جورنال”. هذه المطالب ليست مجرد اعتبارات تجارية، بل محاولة سياسية لإعادة هندسة ملكية الشبكة التي لطالما كانت مصدر نقد مستمر له، إذ وصفها بـ”الأخبار المضللة” وهاجم مراسليها باستمرار.
“نتفليكس” ضد “باراماونت”
الصراع التجاري الأساسي يدور بين “نتفليكس” و”باراماونت”. وافقت “نتفليكس” على شراء استوديوهات “وارنر” ووحدة البث “إتش بي أو ماكس” في صفقة نقدية-سهمية قيمتها 72 مليار دولار، لكنها لا تشمل وحدة التلفزيون التي تضم “سي أن أن”. في المقابل، قدمت باراماونت عرضاً قسرياً قيمته 77.9 مليار دولار، يشمل الشركة كاملة بما فيها شبكات الكابل مثل “سي أن أن”، مما يجعل الأخيرة محوراً رئيسياً في مفاوضات الصفقة.
تصريحات ترامب في البيت الأبيض وحرصه على نقل ملكية “سي أن أن” إلى أيدٍ صديقة تصب في مصلحة “باراماونت”، رغم أن صفقة “نتفليكس” تتضمن خياراً لبيع الشبكة لمشترٍ لم يُكشف عن هويته بعد. فالأحد الماضي، علق ترامب على عرض “نتفليكس”، قائلاً إن عملاق البث التدفقي يمتلك حالياً “حصة سوقية كبيرة جداً”، مشيراً إلى أن هذا “قد يكون مشكلة”. وأضاف: “سأشارك في هذا القرار”، في إشارة إلى ما يمكن أن تتوصل إليه الهيئات الفيدرالية الناظمة لمكافحة الاحتكار بشأن الصفقة. لكنه أشاد بالرئيس التنفيذي المشارك لـ”نتفليكس” تيد ساراندوس الذي زار البيت الأبيض أخيراً، قائلاً إنه “قام بإحدى أعظم الوظائف في تاريخ السينما”.
ومن المتوقع أن يرد مجلس إدارة “وارنر” على عرض “باراماونت” الأسبوع المقبل.
علاقات شخصية وتشابكات اقتصادية
تزداد الضغوط السياسية في الصفقة تعقيداً عبر شبكة علاقات اقتصادية وثيقة بالبيت الأبيض. يلعب صهر الرئيس، جاريد كوشنر، دوراً مباشراً عبر شركة أفينيتي بارتنرز التي تمول جزءاً من عرض “باراماونت”، إلى جانب صناديق استثمارية في الشرق الأوسط تشكل قاعدة مالية ضخمة لدعم الصفقة.
إضافة إلى ذلك، يتمتع لاري إليسون
، ثاني أغنى شخص في العالم ووالد الرئيس التنفيذي لـ”باراماونت” ديفيد إليسون، بعلاقات وثيقة بالبيت الأبيض، واتصل بترامب بعد إعلان صفقة “نتفليكس” محذراً من أنها ستضر بالمنافسة، في خطوة تعكس النفوذ الشخصي المباشر على قرارات الرئيس.
من جهته، سعى ديفيد إليسون لكسب ود البيت الأبيض عبر تطمينات لمسؤولين في إدارة ترامب، مؤكداً أنه في حال استحواذه على “وارنر” سيُجري تغييرات جذرية على إدارة “سي أن أن”، وذلك خلال زيارته واشنطن في ديسمبر/كانون الأول الماضي. التقارب بين ترامب وإليسون الابن حديث نسبياً، فالأخير تبرع بنحو مليون دولار لحملة إعادة انتخاب جو بايدن العام الماضي، قبل أن يغير موقفه هذا العام ويبدأ بالتودد لواشنطن. وافق إليسون على تعيين أمين شكاوى في شبكة “سي بي إس نيوز” التي يملكها، وألغى كل السياسات التي تتعلق بالتنوع والمساواة والشمول، واستحوذ على منصة ذا فري برس اليمينية، وعيّن مؤسستها المشاركة باري وايس رئيسة تحرير “سي بي إس نيوز”. كما ألغت “سي بي إس” برنامج “ذا ليت شو” مع ستيفن كولبير، الناقد الشرس لترامب، ابتداءً من مايو/أيار 2026. كما وافقت “باراماونت” على دفع 16 مليون دولار لإنهاء الملاحقات القضائية التي أطلقها دونالد ترامب ضدها، بزعم الانحياز لمنافسته الديمقراطية في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، كامالا هاريس، خلال يوليو/تموز الماضي. وجادل خبراء قانونيون حينها بأن الدعوى القضائية لا أساس لها، وكان من الممكن أن تحقق “باراماونت” انتصاراً قانونياً سهلاً لو لجأت إلى المحكمة
صحيح أن جهود ديفيد إليسون لكسب رضا إدارة ترامب حديثة نسبياً، إلا أنها بدأت تؤتي ثمارها، إذ قال ترامب في أكتوبر/تشرين الأول الماضي عن الأب والابن: “إنهما صديقاي. وهما يدعمانني بشدة”. وفي مقابلة مع “سي إن بي سي”، تحدث إليسون عن طموحه لامتلاك “سي أن أن قائلاً: “كنا واضحين جداً بشأن ما نريد القيام به في مجال الأخبار؛ نريد بناء خدمة إخبارية شاملة تقوم على الثقة والحقيقة، وتخاطب 70% من الأميركيين في الوسط (يمين الوسط ويسار الوسط)”. وأضاف عند سؤاله عن دعم ترامب: “أجرينا محادثات رائعة مع الرئيس حول هذا الموضوع، لكني لا أريد أن أتكلم نيابة عنه”.
اعتبر البعض خطوات إليسون ممارسات تجارية ذكية، فيما وصفها آخرون بالاستسلام أمام نفوذ ترامب. وربما كان الرئيس التنفيذي لـ”وارنر براذرز ديسكفري”، ديفيد زاسلاف، يعبر عن الرأي الثاني حين قال صراحة أمام إليسون والرئيس التنفيذي المشارك لـ”نتفليكس”، تيد ساراندوس، خلال حفل أقيم في أكتوبر/تشرين الأول الماضي: “عندما تتحكم الحكومة في الأخبار تكون نهاية الديمقراطية”. كان سياق الحديث عن بولندا، لكن المتابعين رأوا أنه موجّه أيضاً نحو تملّق “باراماونت” لترامب.
تزايد نفوذ عائلة إليسون أثار قلق مجموعات إعلامية وحقوقية وبعض أعضاء مجلس الشيوخ الديمقراطيين، خصوصاً في ما يتعلق بدور لاري إليسون في خطة ترامب لنقل عمليات “تيك توك” في الولايات المتحدة لمجموعة مستثمرين أميركيين.
ومع ذلك، لا يخلو الأمر من تناقض واضح. ففي الوقت نفسه، يروّج ديفيد إليسون لبرنامج “60 دقيقة” الذي تبثه “سي بي إس” والذي ينتقد سياسات ترامب، وكذلك للمسلسل الكوميدي “ساوث بارك” الذي سخر بشكل لاذع من ترامب وإدارته هذا العام. بدوره، شن ترامب هجوماً على برنامج “60 دقيقة” الاثنين الماضي بسبب مقابلة مع النائب مارجوري تايلور غرين، حليفته السابقة، وادعى أنه منذ أن تولت عائلة إليسون السيطرة على “باراماونت”، أصبح البرنامج “أسوأ بالفعل!”.
نظرة إلى الخلف
هذه ليست المرة الأولى التي يحاول فيها ترامب، عبر المناورات التجارية، الضغط على “سي أن أن”. فعندما حاولت “إيه تي أند تي” شراء الشبكة وبقية “تايم وارنر” عام 2017، حاول ترامب ومستشاروه التأثير على تغطيتها، مستفيدين من مراجعة الجهات التنظيمية للصفقة. وانتشرت شائعات حينها عن إمكانية استبدال رئيس “سي أن أن” لإرضاء ترامب، وكذلك عن محاولات لشراء الشبكة من جانب قطب الإعلام، روبرت مردوخ، من أجل الهدف نفسه. لكن إدارة “تايم وارنر” دافعت عن استقلالية “سي أن أن”، ولم تتدخل أو تبيعها. الرئيس التنفيذي لـ”وارنر براذرز ديسكفري”، ديفيد زاسلاف، كرر دفاعه عن الشبكة وتأكيد حماية عملياتها الإخبارية. كما أكد الرئيس التنفيذي لـ”سي أن أن”، مارك طومسون، أن زاسلاف صادق في التزامه. إصرار ترامب على التحكم في مصير “سي أن أن” يضع الصفقة عند تقاطع المال والسياسة والعداء الشخصي، ويطرح أسئلة حول مستقبل ملكية الإعلام الأميركي، والقدرة على التدخل الرئاسي المباشر في صفقات القطاع الخاص، وتأثير ذلك على المنافسة في سوق الإعلام والبث التدفقي.
