في لحظة عالمية تتصاعد فيها التحديات التنموية وتزداد فجوة التمويل التي تفصل الدول النامية عن أهدافها، يبرز “مؤتمر التمويل التنموي” (مومنتوم 2025) الذي بدأ أعماله الثلاثاء في الرياض، بصفته أحد أهم المنصّات الدولية وأكثرها طموحاً لإعادة صوغ مشهد التمويل التنموي العالمي. فالمؤتمر الذي يختتم أعماله اليوم في العاصمة السعودية بحضور أكثر من مئة دولة ومئات الخبراء وصنّاع القرار، لم يكن مجرد تظاهرة اقتصادية كبرى فحسب، بل خطوة جديدة في مسار يهدف إلى تحويل الرياض إلى مركز مؤثر في معادلات التنمية، وإلى منصة تجمع بين رأس المال والخبرة والسياسات العامة لإنتاج حلول قابلة للتنفيذ، في زمن يحتاج فيه العالم إلى تلك الحلول أكثر من أي وقت مضى.

يأتي المؤتمر في سياق عالمي يتّسم بتعاظم الفجوة التمويلية التي تقدّرها الأمم المتحدة بأكثر من أربعة تريليونات دولار سنوياً، وهي فجوة تتسع كل عام مع تزايد الطلب على الاستثمارات في البنية التحتية، والطاقة النظيفة، والتحول الرقمي، وتنمية رأس المال البشري. ووسط هذا المشهد، اختارت الرياض أن تخطو خطوة متقدمة عبر صندوق التنمية الوطني ومنظومته الواسعة من الصناديق والمصارف المتخصصة، لتطرح نموذجاً يستند إلى توحيد الجهود التنموية، وابتكار أدوات تمويل جديدة، وجذب الشراكات الدولية، ووضع القطاع الخاص في قلب العملية التنموية بدلاً من أن يكون مجرد عنصر مساعد فيها.

ما يميّز مؤتمر “مومنتوم” هذا العام هو قدرته على الانتقال من الخطاب إلى الفعل. قدّمت الجلسات والحوارات رؤى عملية حول تحويل الطموحات إلى استثمارات، والأفكار إلى تشريعات، والالتزامات إلى أثر اقتصادي واجتماعي ملموس. وجرى عرض تجارب ناجحة في تكامل الأدوار بين الصناديق والمصارف التنموية السعودية التي موّلت خلال السنوات الماضية مشاريع محورية في الصناعة والإسكان والزراعة والسياحة، لتؤكد أن نموذج التمويل التنموي الوطني قادر على تحقيق نتائج واقعية، وأن توسيع نطاقه ليشمل شراكات إقليمية ودولية على غرار ما طرحه المؤتمر يُعَد خطوة منطقية في مسار النمو.

 

كذلك يبدو واضحاً أن الرياض تسعى، من خلال هذا المؤتمر، إلى وضع نفسها في موقع قيادي في مسائل التمويل التنموي، بما يوازي الدور الذي تؤديه دبي في التكنولوجيا أو واشنطن في المالية الدولية. فالجمع بين مصارف تجارية كبرى وصناديق حكومية وجهات تنظيمية ومستثمرين دوليين في منصة واحدة، يعكس توجهاً جديداً يستند إلى تجاوز الفصل التقليدي بين التمويل التجاري والتمويل التنموي، وعلى صوغ نموذج تكاملي يتيح حشد الموارد نحو مشاريع ذات أثر تنموي مباشر وقياس هذا الأثر وإبرازه.

وإلى جانب البعد المالي، يحمل المؤتمر دلالات سياسية وتنموية مهمة. فهو يُظهِر أن المملكة تنظر إلى التمويل التنموي بصفته أداة استراتيجية لبناء شراكات دولية جديدة، وخصوصاً مع الدول العربية والإسلامية والدول النامية في أفريقيا وآسيا، وأن الدور السعودي في منظومة التنمية العالمية لا يقتصر على المساعدات والتمويلات التقليدية فحسب، بل يتجه نحو بناء بنية مالية مستدامة مستندة إلى الشراكة والأثر. كذلك سلط الضوء على قضايا المستقبل مثل الذكاء الاصطناعي والاقتصاد الأخضر وتمويل المناخ، مؤكداً أن التنمية في القرن الحادي والعشرين لا يمكن أن تستمر بأساليب الأمس.

يقدّم مؤتمر “مومنتوم” صورة إيجابية عن الإمكانات السعودية وقدراتها المتنامية على جمع الأطراف وصوغ أجندة جديدة للتمويل التنموي، في وقت تتسابق فيه العواصم الكبرى على أداء أدوار قيادية في الاقتصاد العالمي. وتبرهن الرياض مجدداً أن لديها الأدوات والمؤسسات والرؤية لتكون طرفاً محورياً في هذا المجال، وأن تعزيز دور صندوق التنمية الوطني وتحويله إلى منصة دولية سيشكل إضافة نوعية للنظام العالمي للتمويل، الذي يحتاج إلى مراكز جديدة تمتلك الإرادة والقدرة على الابتكار والتأثير.

ومع اختتام أعمال المؤتمر، يبدو واضحاً أن العالم بحاجة إلى مبادرات مماثلة، وأن التمويل التنموي لم يعد مجرد نقاش تقني حول السياسات والقروض، بل أصبح ركيزة للاستقرار والازدهار. وفي هذا السياق، نجح “مومنتوم 2025” في أن يعكس طموح المملكة ويثبت أن الرياض باتت رقماً صعباً في معادلة التنمية العالمية، وأن دورها في السنوات المقبلة سيكون أكثر حضوراً وتأثيراً، سواء في تمويل المشاريع أم في صوغ الأفكار والسياسات التي تشكل مستقبل التمويل التنموي.