قد يُصاب أبناء النجوم والمبدعين بعقدة “الظل الأبوي”، أمام هالة الأم الناجحة أو سطوة الأب اللامع مهنيًا، فتتولّد لديهم أزمة هوية، ويُصبحون ضحية تقليد باهت أو دوران فارغ في فلك ذويهم.
إلا أنّ زياد الرحباني، ابن العائلة الرحبانية، شكّل حالة استثنائية؛ إذ تذوّق وتشبّع بتجربة أهله، لكنّه لم يقدّسها ولم يتماهَ معها، ولم يحتج إلى وقت طويل حتى يهتدي إلى صوته الخاص، المستقلّ عن صوت أبيه وعمّه.
لم يُقلّد زياد ولم يتمرّد، ولم ينشغل أساسًا بأيقونية أمّه، ولم “يقتل” أباه عاصي الرحباني رمزيًا على الطريقة الفرويدية. فالفنّ عنده ليس فعل انتقام ولا وسيلة لإثبات الوجود، بل حالة وجودية بدأت في سنّ مبكرة، وفي الغالب من دون وعي منه.
وُلد زياد داخل الاستوديو والمسرح، وكانت طفولته بروفة لحياته المستقبلية. فصارت الموسيقى بالنسبة إليه حياة لا مهنة أو هواية، وأداة تأملية وجودية أساسية لا مجرّد ترفيه. وكانت أقرب إلى تعبير عن الأساس الجوهري المشترك بين كلّ الناس، أو ربما بين كل الموجودات، بحسب التعبير النيتشوي.
فالحب عنده قد يغدو فعلًا سياسيًا أو ثوريًا، والمشاعر الإنسانية لا تنفصل عن الواقع المأزوم ولا عن تفاصيل حياته اليومية؛ بل كان يأخذ كلماته من الشارع ويحوّلها إلى شعر. فكتب عن السوق، والبوسطة، وزحمة السير، وسعر الخس، بأسلوب ساخر من دون أن يفقد عمله شيئًا من عمقه أو جديّته.
وإذا كان عاصي الزوج قد صنع لفيروز قُدسيّتها وأيقونيتها، فإنّ زياد الابن أخرج أمه فيروز من إطارها الأسطوري، ليرسم لها صورة أكثر واقعية.
في ذروة نضجها الفني، كشفت فيروز عن مرونة هائلة، وغنّت الأمّ بروح ابنها الشاب؛ نزلت من قمم الجبال إلى قاع المجتمع، وانشغلت بالهمّ الفردي على حساب الجماعي، وعبّرت عن مزاج بشري أكثر منه ملائكي.
مع زياد، صارت فيروز امرأة قوية وواقعية ومتحرّرة. وعندما سُئلت عن رأيها في زياد، جاء جوابها على لسان إعرابية:
“يا حبذا ريح الولد، ريح الخزامى في البلد، أهكذا كل ولد، أم لم يلد مثلي أحد؟”.
فيروز الأمّ قالت إنّ زياد يحمل عندها معاني البيت والأسرة، لا معاني الفن فقط. أمّا موسيقيًا، فوجدت فيه عبقرية فنية أخذت ملامحها من رأيه في الحياة والإنسان والوطن والشعب.
أبرز أعمال زياد الرحباني الموسيقية
تكريمًا لزياد الرحباني الذي أوجع برحيله كثيرين، خصّه برنامج “عشرون” الذي يعرض عبر “العربي2” ومنصّة “العربي بلس”، بحلقة خاصة واستثنائية، استعرض خلالها قائمة متنوّعة من عشرين أغنية ومقطوعة موسيقية اختارها نقاد وموسيقيون وباحثون، وفق معايير الجودة الفنية والتأثير والتجديد، في إعادة قراءة لأعمال زياد.
وعشرون هو رقم ضئيل في فضاء ما قدّمه زياد الرحباني على مدار أكثر من 50 عامًا من الكتابة والتلحين والتوزيع.
الحلقة الكاملة من “عشرون” حول أعمال زياد الرحباني الموسيقية، يمكنكم مشاهدتها عبر هذا الرابط.
1- “كيفك إنت”.. أغنية مفصليّة في تاريخ زياد الرحباني
صدرت أغنية “كيفك إنت” في ألبوم بالعنوان نفسه مطلع التسعينيات، في انعكاس للحظة استثنائية في تاريخ لبنان العائد لتوّه من حرب أهلية دامية.
“كيفك إنت” ليست أغنية عادية، وإنّما موقف درامي مُلحَّن؛ مشهد عابر يحمل سؤالًا يوميًا بسيطًا، لكنّ الإبداع الزيادي قادر دومًا على تخليد المشاهد العابرة وتحويل التجربة الفردية إلى تجربة جماعية كبرى.
“كيفك إنت” أغنية مفصلية في تاريخ زياد الرحباني وفي تاريخ فيروز، بل في تاريخ الأغنية اللبنانية نفسها. هي إعلان عن ذروة النضج في مسيرة زياد الموسيقية، وعن قمّة الجرأة في شخصية فيروز الفنية.
هذه الأغنية هي نقطة اللقاء بين زمنين: الكلاسيكية الرحبانية والتجديد الزيادي. وبعد أكثر من ربع قرن، ما زالت تُوصَف بأنّها “مرادفة النوستالجيا اللبنانية أو الإنسانية، إن صحّ التعبير”.
زياد رحل وبقيت “كيفك إنت”. أغنية كتبت لفيروز ولادة فنية جديدة؛ ولادة أغضبت كثيرين، فقرّروا وأدها فورًا، فأدانوها ورفضوها وجلدوها، لكنّها بقيت إثباتًا على رؤية زيادية صادقة لم تخب.
لم يُقلّل زياد من قيمة فيروز ومكانتها في كل ما قدّمه لها، وإنّما أخذها معه إلى الواقع.
في الحرب وما بعدها، بدت الحياة أقسى من أن تُجمَّل؛ ولهذا اختار الواقعية. كل ما فعله زياد أنّه حمل مرآة على طول الطريق، وصار يكتب ما يراه في انعكاساتها، سواء أكانت زرقة السماء أم طين الطريق.
2- “سألوني الناس”..حين اجتمعت العائلة الرحبانية
العائلة الرحبانية كلها شاركت في هذه الأغنية: منصور كتب، زياد لحن، إلياس وزع، فيروز غنت، أما عاصي فكان بطلها الغائب، حين قالت له فيروز: لأول مرة ما منكون سوا.
لحّن زياد “سألوني الناس” وكتب عليها كلمات أخرى كي يؤديها المطرب مروان محفوظ. لكنّ عمه منصور أُعجب باللحن، وبعد مرض عاصي، طلبه من زياد ليُقدّمها في مسرحية “المحطة”، لكنّه غيّر كلمات الأغنية بما يتناسب مع غياب عاصي عن المسرح.
عن زياد الرحباني الذي لاحقه الشقاء طويلا وواجهه بالسخرية والموسيقى الثائرة – تقرير: جاد غصن (من أرشيف التلفزيون العربي)
وكانت أغنية “سألوني الناس” فاتحة التعاون بين زياد وفيروز. لحن دلّ على تشبّع زياد الابن بموسيقى عائلته، وفي الوقت ذاته على وعيه بصوته الخاص وذاته الأصيلة.
3- “ميس الريم”.. وثيقة ولادة لهوية فنية جديدة
مقدمة “ميس الريم” أكثر من مقطوعة موسيقية، وأكثر من افتتاحية مسرحية؛ إنّها وثيقة ولادة لهوية فنية جديدة ومستقلة، عنوانها زياد الرحباني.
بسبب مرض عاصي الرحباني، أُوكلت مهمة تأليف مقدمة مسرحية “ميس الريم” إلى ابنه زياد، فصاغ مقطوعة مُتحرّرة من القالب الرحباني الكلاسيكي.
منذ بداياته، كان زياد الرحباني صاحب مشروع، وصاحب رؤية متكاملة بالمعنى الجمالي والفني. ولهذا بدت كل أعماله المسرحية والغنائية والموسيقية والنقدية، أشبه بخط إبداعي متواصل يحكمها مزاج زيادي واحد.
تتأرجح إيقاعات هذه المقدّمة بين الحزن والبهجة، بين السؤال والجواب، بين التعبير والتأمل.
قُدّمت مسرحية “ميس الريم” عام 1975، أي في ذروة اكتمال التجربة الرحبانية ونضجها. كان لبنان مكتفيًا بالأخوين، وما من أحد يمكنه اختراقهما. لكن زياد الشاب اليافع فعلها، وألّف مقدمة المسرحية: ثلاث دقائق أدهش خلالها العائلة الرحبانية، قبل أن يدهش جماهيرها.
4- “أنا مش كافر”.. غياب العدالة الاجتماعية
في يوم ماطر، كان زياد ابن الثامنة في طريقه إلى المدرسة، حين رأى طفلًا في مثل سنه يقف تحت المطر، وينقر على شباك سيارتهم طلبًا للمال.
فتحت هذه اللحظة وعيه على معاناة الناس، وعلى غياب العدالة الاجتماعية. ولعلّ أغنية “أنا مش كافر” واحدة من آثار تلك اللحظة.
أغنية ” أنا مش كافر” تومئ إلى تأثّر زياد بشعر أحمد فؤاد نجم، وبحالة الشيخ إمام الذي كان المرشّح الأول لغنائها، قبل أن يؤديها زياد بصوته.
5- “بلا ولا شي”.. أغنية الحب اليساري الزاهد
في يوم رحيل زياد، مشى محبوه خلف نعشه في شارع الحمرا الذي أحبه وسكن فيه. مشى الجميع وفي الخلفية أغنية “بلا ولا شي”.
كتب زياد هذه الأغنية لكارمن لبّس؛ أغنية عن الحب، لكنّها تختصر حياة زياد الذي زهد في كل شيء، ثم رحل مُتعبًا كما يرحل الناس البسطاء في بيوتهم المتواضعة.
موهبة زياد لا تنحصر في الموسيقى فقط، وإنّما في الكتابة أيضًا. فقد بدأ حياته شاعرًا، إذ نشر ديوانه الأول “صديقي الله” وهو في الثانية عشرة من عمره
أغنية الحب عند زياد، لا تنفصل عن آرائه السياسية والاجتماعية. وهي تحوي كلمات من المستحيل أن تجدها في أغنيات عاطفية أخرى.
“بلا ولا شيء” هي أغنية الحب اليساري الزاهد، والمتقشف، والأصيل. غنّاها سامي حواط، ومن ثم رشا رزق، وصارت نشيد كل العشاق الأثرياء منهم والمفلسين.
كتب زياد أغنية “بلا ولا شي” لكارمن لبّس؛ أغنية عن الحب، لكنّها تختصر حياة زياد الذي زهد في كل شيء – غيتي
6- “وحدن”.. عالم خاص من التفكّر والتأمل
تعاون الشاعر طلال حيدر مع زياد وقدّما لفيروز واحدة من أجمل أغنياتها، “وحدن”.
نص “وحدن” محمّل بدلالات سياسية وإنسانية، وقد تكهّن كثيرون وحلّلوا معانيها وما إذا كانت أغنية عن المقاومين أم الأحبّة.
في أغنية “وحدن”، ترك زياد للبيانو وللوتريات المنخفضة أن يخلقا عالمًا من التفكّر والتأمل والاستغراق الذهني.
7- “ع هدير البوسطة”.. تحفة فنية قدّمها زياد الرحباني
تقول الحكاية إنّ زياد كان معجبًا بصبيّة كانت تُساعدهم في شؤون البيت، اسمها ليلى، فكتب لها: “يخرب بيت عيونك يا عليا شو حلوين”، للتمويه.
قدّم زياد الأغنية في مسرحية “بالنسبة لبكرا شو” بصوت جوزيف صقر. وعندما سمعها عاصي الرحباني، اشتراها منه بـ500 ليرة لبنانية وأعطاها لفيروز كي تغنّيها، بعد أن سرّع إيقاعها.
تبدأ “ع هدير البوسطة” بموال، ثم تنتقل إلى أجواء إيقاعية لا تخلو من الروك، وتُعدّ من التحف الفنية التي قدّمها زياد إلى الفنّ اللبناني والعربي.
8- “أبو علي”.. موسيقى زياد التي تشبهه
زياد هو تجربة فنية متكاملة في الكتابة والتوزيع والإخراج والتمثيل، ومع ذلك بقي زياد الموسيقي هو التعريف الذي يختصر هويته الفنية بتعدديتها. يكفي أن نسمع مقطوعة مثل “أبو علي” حتى نعرف حجم هذه الموهبة، وقدرته على ابتكار أنماط موسيقية جديدة، بل خارجة عن المألوف.
لا توحي موسيقى أغنية “أبو علي” بأنّها سقطت عليه بإلهام خفي، بل تبدو كأنّها خرجت من باطن الشارع اللبناني، من قلب الفوضى والسرعة والقلق.
زياد الرحباني.. محلّل الواقع المرّ بلغة ساخرة – من أرشيف برنامج “ضفاف”
موسيقى زياد تُشبهه؛ فهي حقيقية وبسيطة وعميقة، غير متوقّعة حينًا وصادمة أحيانًا.
9- “شو هالأيام اللي وصلنالا”.. “وريث سيد درويش”
كانت طفولة زياد الرحباني محاطة بالموسيقى الرحبانية، وبالموسيقى الكلاسيكية العالمية، وبالطرب المصري الذي كان يسمعه عبر إذاعة “صوت العرب” من القاهرة. وبرز هذا التأثير المصري في أعمال كثيرة، ومن أهمها “شو هالأيام اللي وصلنالا”.
تميّز مشروع زياد ببوليفونيّته أو تعدّديته الثقافية؛ فشرّق الجاز و”لبننه”، وأدخل الهارموني الغربية على المقامات الشرقية، ضمن نسيج محكم لا يُمسك بخيوطه إلا معلّم رحباني أصيل.
زياد، ابن العائلة الرحبانية المنفتح على موسيقى البلوز والجاز الأميركية والسامبا، هو أيضًا من أشدّ المتأثّرين بشيوخ الطرب المصري، بل إنّ كثيرين وصفوه بـ”الوريث الشرعي لسيّد درويش”، من ناحية الالتزام الفني والتجديد الموسيقي.
“شو هالأيام اللي وصلنالا” تعبير موسيقي عن رؤية زياد الاشتراكية للحياة وقضاياها الإنسانية والاجتماعية.
رحل زياد الرحباني مُتعبًا، “بلا ولا شي”، كما يرحل الناس البسطاء في بيوتهم المتواضعة – غيتي
10- “عودك رنّان”.. احتفاء بالموسيقى في زمن الرصاص
في ذروة الحرب الأهلية وانقسام بيروت بين شرقية للمسيحيين وغربية للمسلمين، قدّم زياد أغنية “عودك رنّان” بصوت فيروز.
تضمّنت الأغنية اسم “علي” ما أدّى إلى حساسية طائفية، وحُملت على دلالات مذهبية وتأويلات خاطئة.
“عودك رنّان” أغنية إيقاعية تحتفي بالموسيقى في زمن الرصاص، وبالحياة في زمن الموت، وبالسهر في زمن الخوف.
11- “سلّملي عليه”.. ثنائية زياد وفيروز وإبداعاتها
أنتجت ثنائية زياد وفيروز إبداعات لا تنتهي، وأغنية “سلّملي عليه” واحدة من أجمل تجلّياتها.
ولعلّ المقدّمة الموسيقية لهذه الأغنية هي في حدّ ذاتها مقطوعة موسيقية لا تتكرّر.
صدرت الأغنية في ألبوم “مش كاين هيك تكون”، وهي تُلخّص كل مشاعر الحب والشوق، من دون أي مبالغة أو تضخيم.
في ذروة نضجها الفني، كشفت فيروز عن مرونة هائلة، وغنّت الأمّ بروح ابنها الشاب – غيتي
12- “هدوء نسبي”.. بين أعمال زياد و”غنيمة” الحرب
سنوات الحرب الأهلية أسوأ ما في تاريخ لبنان المعاصر، لكنّ أعمال زياد الرحباني قد تكون الغنيمة الوحيدة التي خرج بها لبنان من هذه الحرب.
كي تفهم مشروع زياد الموسيقي، لا بدّ أن تتوقّف عند أعماله الموسيقية البحتة، ومنها طبعًا مقطوعة “هدوء نسبي” التي كتبها عقب إعلان وقف إطلاق النار بعد حرب المئة يوم.
زياد الرحباني ابن الحرب، وفنّه تأريخ لكل الحالات الإنسانية والسياسية والاجتماعية بين سبعينيات وتسعينيات القرن الماضي.
13- “قديش كان في ناس”.. لحن اشتراه عاصي من زياد
في طفولته، كان زياد يقلّد أهله ويلعب دومًا بالآلات مع أبناء عمّه منصور، وابن عمّتهم بشارة الخوري الذي صار موسيقارًا، وهو حفيد الشاعر الأخطل الصغير.
ألّف زياد لحنًا وكتب له مطلع أغنية يقول “قديش كان في ناس”، وسجّله بصوت ابن عمّه غدي الرحباني.
أُعجب والده عاصي باللحن، فاشتراه منه بـ250 ليرة، ثم أكمل الأخوان كلمات الأغنية.
من يصدّق أنّ أغنيةً ألّفها طفل قد تصير من أهمّ أغنيات فيروز وواحدة من أروع الأغنيات العربية؟
14- “عندي ثقة فيك”.. حكاية خاصة وبعد تأمّلي
فنّ زياد الرحباني هو مرآة حياته وتجاربه الشخصية؛ فهو من أكثر الفنانين الذين عبّروا عن حكاياتهم الخاصة فنيًا وموسيقيًا، وأغنية “عندي ثقة فيك” واحدة من هذه الأغنيات.
كانت الأغنية ضمن ألبوم “كيفك إنت”، وأدّتها فيروز بنضج المرأة الخمسينية ورومانسية الفتاة العشرينية في آن.
عُرف زياد بخفّة ظلّه، لكنّ أغنياته العاطفية كانت تحمل دومًا بعدًا تأمليًا يجمع بين الكثير من الجمال وشيء من الحزن.
غيّر زياد دور الآلة الغربية من مجرد مرافقة إلى محرّك أساسي داخل العمل الموسيقي.
15- “عايشة وحدا بلاك”.. “من مرا لمرا عم ترجع لورا”
“عايشة وحدا بلاك” واحدة من أشهر أغنيات زياد الرحباني وأقربها إلى قلب الجمهور، لا إلى قلب زياد نفسه.
في هذه الأغنية يستخدم زياد عبارة “من مرا لمرا عم ترجع لورا”، ليحاكي فشله المتكرر في علاقاته العاطفية.
رغم شهرتها ومحبة الجمهور لها، لم يجد زياد الرحباني محبة في قلبه لأغنية “عايشة وحدا بلاك”
فالمرأة في أغنيات زياد الرحباني كائن قوي ومستقل، وتقف غالبًا موقف الندّ للرجل. وفي هذه الأغنية تظهر شخصية المرأة المستغنية عن الرجل وعن حبّه وعن غزله.
وكانت هذه الأغنية ضمن أغاني مسرحية “بالنسبة لبكرا شو” التي قدّمها عام 1978، بصوت صديقه الفنان جوزيف صقر.
16- “آثار على الرمال”.. موهبة زياد التأليفية إذ تتجلّى
زياد الرحباني شخصية جدلية. قد يختلف كثيرون حول أفكاره وآرائه. أما إبداعه الموسيقي فلا يختلف عليه اثنان.
ولا يغيب حسّ السرد عند زياد الرحباني حتى في معزوفاته التي تخلو من الكلام؛ فهي تحمل المعاني نغميًا وهارمونيًا لتصنع عالمًا مليئًا بالنوستالجيا والمشاعر والأفكار.
“آثار على الرمال” ليست مجرد موسيقى بل هي بصمة باقية على ذاكرة القلب
“آثار على الرمال” هي من الأعمال التي دلّت على موهبة زياد التأليفية منذ سن صغيرة.
17- “وقمح”.. السخرية تُستخدَم في الموسيقى
“قمح” كلمة تدل على الرزق والخير والوفرة، ولكن مع إضافة حرف العطف، ومع وجود اسم زياد عليها، قد تأخذ معنى السخرية.
يستخدم زياد السخرية في الموسيقى كما في اللغة. فكرة انتظار الخير أو الفرج هي أشبه بانتظار غودو، هو انتظار عبثي متكرر، وهذا ما عبّر عنه موسيقيًا عبر مقطوعة ذات شكل دائري مكرر.
“وقمح” هي واحدة من إبداعات زياد في ألبوم “مش كاين هيك تكون”، الذي قدّمه مع فيروز عام 1999.
18- “حبيتك تنسيت النوم”.. أكثر لحن أحبّه زياد
أكثر لحن أحبّه زياد هو “حبيتك تنسيت النوم”. هذه الأغنية من ألحانه، وكلمات الشاعر جوزيف حرب.
والأغنية على مقام البياتي الطربي، وفيها يُثبت زياد تمكّنه من تلحين الأغنيات الطربية في قالب شرقي أصيل تمامًا، كقدرته على الدمج بين الشرقي والغربي.
“حبيتك تنسيت النوم” هي واحدة من أجمل الأغنيات المحفورة في ذاكرة الموسيقى اللبنانية والعربية
19- “صباح ومسا”.. حكاية حب عالق في الزمن
“صباح ومسا” هي نموذج عن التجربة الزيادية الجديدة في الأغنية العربية؛ إنّها حكاية حب عالق في زمن بطيء يدور من دون تغيير يذكر.
زياد من أهم الموسيقيين الذين اشتغلوا على الأغنية النفسية في الموسيقى العربية، وصوت فيروز كان الأقدر على التعبير عن كل هذه الحالات الدرامية بإتقان هائل وبساطة مدهشة.
“صباح ومسا” تجربة “زيادية” جديدة أخذت المستمعين في رحلة موسيقية فريدة مع صوت فيروز
ويستجيب لحن “صباح ومسا” للمعنى النفسي الذي تحمله الأغنية، عبر المزج بين الجاز الشجي والإيقاع الشرقي المنكسر.
20- “زعلي طوّل أنا ويّاك”..موسيقى في خدمة الشعر
كان زياد معجبًا بالشعر الذي ينظمه جوزيف حرب بالعامية، فاختار من نصوصه الشعرية ولحنّها. وكانت أغنية “زعلي طوّل أنا ويّاك” واحدة من أجمل تلك الأعمال.
زياد الموسيقي يحترم الكلمة إلى حد أنّه قد يضع موسيقاه في خدمة النص الشعري.
اختار زياد في أغنية “زعلي طوّل أنا ويّاك” لحنًا هادئًا مبنيًا على حركة أفقية، تُعطي شعورًا بالملل. كما استخدم الفراغ كعنصر موسيقي، يعكس ذلك الشعور بالقطيعة أو الزعل.
كان زياد الرحباني معجبًا بالشعر إلى حد أنه قد يضع موسيقاه في خدمة النص الشعري

يبقى زياد الرحباني واحدًا من أولئك الذين لا يمرّون مرورًا عابرًا في حياتنا. فنه لم يكن يومًا زخرفة موسيقية، بل مرآة عميقة لحالات البشر، لخيباتهم الصغيرة، لضحكاتهم المكسورة، ولأسئلتهم التي لا تجد جوابًا. في كل لحن تركه خلفه، شيء يشبه وجع مدينة كاملة، وشيء آخر يشبه دهشة طفل يكتشف العالم للمرة الأولى.
لم يكن زياد موسيقيًا فقط؛ كان صاحب لغة متفرّدة، وخيال قادر على تحويل الشارع إلى شعر، واليوميّ إلى دراما، والحبّ إلى فعل مقاومة. وربما لهذا السبب، لا نسمعه بآذاننا فقط، بل بذاكرتنا أيضًا. يعود إلينا في لحظاتنا الصعبة كما في لحظات الفرح، كأنّ موسيقاه جزء من جهازنا العاطفي.
في النهاية، هذه الأعمال العشرون بمثابة رحلة في قلب رجل كتب نفسه بلا تجميل، وكتب الناس كما هم، وكتب لبنان كما لم يجرؤ أحد على كتابته. وحين نعيد الاستماع إلى هذه الأغنيات اليوم، ندرك أن زياد ترك خيطًا سرّيًا يشدّنا إلى ما أحبّه وما آمن به، وترك موسيقى تحرس ذاكرتنا من النسيان.
