عام 2011، اندلعت الثورة في الميدان، قابلها انفجار ثوري آخر داخل فن الصورة، التي تفجرت في كل مكان؛ على الجدران عبر الجرافيتي، في الشوارع الممتلئة بالمعارك والدماء، وفي الفوتوغرافيا التي خلدت التظاهر الحي، وكذلك في صيغ سينمائية جديدة كسرت الأطر الروائية التقليدية وأعادت صياغة الذاكرة البصرية للحدث. حتى في الفضاء الافتراضي، امتدت هذه الفنون إلى كل شبر، مؤسِّسة شبكة من الأثر البصري والرمزي الذي يعيّن الحدث ويخلده.
في الأدب، ظهرت موجة شعرية جديدة، نسائية غالبًا، بينما تراجع السرد الروائي التقليدي، ليفسح المجال أمام فنون لا تهتم بالضرورة بتقديم الشهادة المباشرة، بل بصناعة الأثر الذي يبقى ويؤشر على الحدث الذي سيصبح جزءًا من الماضي، (بعد وقت سيفسح المجال للكتابات غير التخيلية التي تبحث عن الحقيقة). هذه الفنون تتمتع بالقوة التكثيفية والضراوة، استجابةً لفعل الثورة العنيف، الذي طالب بفن يوازيه في وضوحه وشدته الرمزية مثل الشِعر أو فن الصورة، فكما تقول سوزان سونتاج في كتابها «عن الفوتوغراف»: ثمة شيء من الضراوة في التقاط صورة، تصوير الناس، هو الاعتداء عليهم، هو أن نراهم كما لم يروا أنفسهم أبدًا، أن نمتلك معرفة عنهم لا يمكنهم أن يمتلكوها أبدًا، إنه يحول الناس إلى أشياء يمكن الاستحواذ عليهم رمزيًا، تمامًا مثلما تحاكي الكاميرا البندقية، فإن التصوير هو قتل مريح، ملائم لزمن حزين، ومرعب».
ويمكن، لأن الأحداث الكبرى، التي تمر بها الشعوب، وتعيد إنتاج الذاكرة الجماعية، يشكلها الأثر، لا الحدث نفسه. كما يوضح لنا بول ريكور في كتاباته الأساسية عن (الذاكرة، التاريخ، النسيان والزمن والسرد) أن الذاكرة الجماعية لا تُبنى من الحدث في ذاته، بل من الأثر الذي يتركه الحدث. فالحدث عابر، ينتمي إلى الماضي الذي لا يمكن استعادته كما وقع، بينما الأثر هو العلامة التي تبقى، وتُستدعى، وتتحول إلى مادة للذاكرة والتأويل. بهذا المعنى، تصبح الصورة -فوتوغرافية كانت أو سينمائية- ليست مجرد تمثيل للواقع، بل وسيط تأسيسي للذاكرة، وشرط لإمكانية أن يُعاد سرد الماضي ليتم تداوله في الحاضر.
من هنا، يمكن، فهم لماذا تظل الصورة هي الأثر الجليّ لثورة 25 يناير، الأثر الذي لم يكتف بحفظ اللحظة، بل حاول إعادة تشكيل الذاكرة وتأطيرها. لقد أدركت السلطة خطورة هذا البُعد الأثري للصورة، فسعت منذ السنوات الأولى للثورة إلى استهداف عيون المصورين، لأن السيطرة على الصورة تعني السيطرة على السردية الجماعية، أي على مستقبل الذاكرة ذاتها.
والسينما، حتى حين تحاول ادعاء وظيفة أخرى، كالتسلية أو المتعة، فإنها تظل، في جوهرها، سلسلة من الصور الفوتوغرافية المتعاقبة (24 صورة/ثانية). كل لقطة فيلمية تحمل خاصية الأثر: تجميد لحظة زمنية، وإعادة استدعائها ضمن تدفق سردي. بهذا المعنى، يمكن النظر إلى السينما بوصفها تكثيفًا جماعيًا للفوتوغرافيا، ليست صورة واحدة لماضٍ متوار، بل حركة مستمرة من الغياب إلى الحضور، ومن النسيان إلى التذكّر، من الماضي إلى بزوغ الذاكرة.
من هنا، قد يلتقي منظور ريكور مع ما طرحه المفكر جيل دولوز عن فكرة صورة-الزمن، حيث رأى أن السينما الحديثة لم تعد مجرد ربط بين صور-حركة متتابعة تُمكّننا من إدراك العالم في استمراريته، بل غدت فضاءً لتجسيد زمن خالص، زمن مشروخ وممزق بفعل الصدمات والأحداث الكبرى التي تعيشها الإنسانية. إن الأثر الفوتوغرافي الذي يراكمه الفيلم لا يستدعي الماضي فحسب، بل يكشف أيضًا عن فراغاته وانكساراته، أي عن ما لا يُقال وما لا يُمثل. هكذا تتحول السينما إلى وسيلة لإبراز ما تسميه الذاكرة الثقافية «الفجوات» التي تخلّفها الصدمة، بحيث لا تعيد بناء الماضي كما كان، بل تقدّمه كنسيج هش، مليء بالانقطاعات والغياب. ويمكننا رؤية تمثل ذلك المفهوم، الفجوات الزمنية، والنسيج السينمائي المتقطع، داخل السينما المستقلة التي بزغت بعد الثورة، والتي سنتطرق إليها لاحقًا.
لكننا نستطيع القول، إن السينما، في هذا الإطار، هي فنّ تكثيف فوتوغرافي للزمن والذاكرة، يحوّل الأثر الفردي (الصورة) إلى سردية جمعية، قادرة على تمثيل الصدمات والأحداث الكبرى، وفي الوقت نفسه تعيد خَلق العلاقة بين الحضور والغياب، وتأويل الماضي ليصلح للعرض في اللحظة الآنية، كـ«زمن، وأثر» متوتر بين التذكر والنسيان، بين ما نعيشه وما يتعذر علينا استعادته.
من هذا المدخل عن الأثر وتشكيل الذاكرة، بعد الثورة، يمكننا ملاحظة أن السينما المصرية راحت في اتجاهين متناقضين تمامًا. فمن ناحية، برزت سينما تجارية استهلاكية، تنكرت للحدث الثوري، سكتت عنه وأزاحته إلى التناسي، أو غلّفته بالإنكار. يمكن النظر إلى هذا الاتجاه السينمائي بوصفه تعبيرًا عن إرادة سلطوية لطمس الذاكرة، لكنه أيضًا قد يُقرأ كردّ فعل متوتر على حدث زلزل البنية الاجتماعية والسياسية، حتى بدا الحديث عنه أمرًا لا يُطاق، فاختارت الصناعة التهرب والمراوغة. هذا التوجه أفضى إلى انحدار سريع نحو الكوميديا السطحية، وأفلام الأكشن المقتبسة عن المزاج الأمريكاني الرديء. وحتى التجارب التي حاولت، بدرجات متفاوتة، الجمع بين التجاري والحد الأدنى من الصناعة الفنية -كما في أعمال طارق العريان أو شريف عرفة أو عمرو سلامة أو مروان حامد- انتهت إلى فراغ سردي أو إخراجي، وانشغلت بمدى النجاح التجاري فقط، ليُفسَح المجال، في المقابل، أمام ميلودراما سياسية زاعقة، أو وصفات سينمائية تعتمد على الإثارة الرخيصة عبر خلط الدين بالجنس بالمحرمات على طريقة خالد يوسف سابقًا، وصعود نموذج البطل الذكوري القادم من عوالم البلطجة، يحبه الجماهير لكنه يُعَاقب في النهاية على خطيئته الاجتماعية والقانونية، يظهر ذلك جيدًا في أفلام محمد رمضان -«عبده موتة» (2012)، و«جواب اعتقال» (2017)-، وتصديره كنموذج سينمائي رابح ينتمي لمؤسسة النظام الجديد.
إلى جانب ذلك، جاء غياب جيل من السينمائيين الكبار الذين شكّلوا، في لحظة ما، معادلة دقيقة بين الفني والجماهيري، بين الخاص والعام: وفاة يوسف شاهين، وتعثر مسيرة محمد خان ووفاته بعد ذلك، وتعثر خيري بشارة وأسامة فوزي سينمائيًا. هذا الغياب ترك فراغًا لم تستطع السينما التجارية أن تملأه إلا بابتذالٍ مضاعف: كوميديا خفيفة تنحدر أحيانًا إلى التهريج، وأفلام أكشن مستنسخة عن هوليوود بسطحية، أو فانتازيا مبتورة الصلة بالتاريخ، أو رومانسية باهتة لا تحمل أي أثر للواقع ولا للذاكرة. من منظور جيل دولوز، سنجد أن السينما التجارية المصرية، بعد 2011، أعادت إنتاج الصورة-الحركة السطحية، المكرّرة، التي تكتفي بتدفق زائف للزمن دون ترك أي أثر.
في المقابل، راحت السينما المستقلة -وهي ما يعنينا هنا- تنشغل بمسعى آخر تمامًا: تكثيف الزمن عبر لغة بصرية أكثر شِعرية، تقصى أثر الفرد وسط مجتمع عنيف، وتعيد رسم العلاقة بين الذات والحدث. الثورة، وما فتحته من فضاء نقدي صاخب على وسائل التواصل الاجتماعي، منحت الجيل الجديد فرصة للتعبير عن ذاته، وإنتاج سينما تشبهه، تخرج من لحم الأفكار الكبيرة، لكنها أيضا مشدودة إلى حساسية فردانية، تبحث عن أثر الإنسان العادي، وهو يعبر عن هشاشته، في زمنٍ مُنهَار.
هكذا ظهرت تجارب مثل «الخروج للنهار» (2012) و«أخضر يابس» (2016) و«ورد مسموم» (2018)، التي لم تُحاكِ الحدث مباشرة، بل ذهبت إلى ما هو أعمق، استبطان زمن الفرد، حيث تتكثف لحظات الصمت والوهن والانتظار كأنها استعارات للثورة المؤجلة. إلى جانبها، جاءت أعمال أخرى اختارت الاشتباك المباشر مع الحدث الكبير، مثل «الميدان» (2013)، «بعد الموقعة» (2012)، و«فرش وغطا» (2013)، لتجعل من الصورة الأرشيفية أو الجسدية وسيطًا للذاكرة الحية.
بعد 2016، تقريبًا، وموت الحدث السياسي نهائيًا، واليقين بالفشل الثوري، خرج عدد من الأفلام، أُزيح معها الاشتباك المباشر مع الثورة، وتمت هزيمتها تدريجيًا، لتطفو على السطح سرديات سلطوية مضادة، تسعى إلى نزع الشرعية عن الحدث الثوري، وتصويره كخديعة جماعية. يتجلى ذلك بوضوح في فيلم «عيار ناري» (2018) (إخراج كريم الشناوي)، الذي يتناول قصة «شهيد» وُجد مقتولًا في الميدان، قبل أن تكشف الحبكة أنه لم يكن ثائرًا أصلًا، بل بلطجي قُتل على يد شقيقه، فاختلقت له الأسطورة الثورية. بهذا الخطاب البصري، سعت السينما التجارية، التي تحاول تزييف فنيِّتها، إلى إعادة كتابة الذاكرة في اتجاه معاكس، يطمس أثر الثورة ويحيله إلى سوء تفاهم تاريخي.
في المقابل، توارى الاشتباك المباشر مع الحدث العام داخل السينما المستقلة، بعد محاولات أولى جريئة مثل «الميدان» و«فرش وغطا». إذ فضل المخرجون لاحقًا الانصراف نحو الحكاية الفردية، حيث المأساة اليومية للفرد داخل مدينة مأزومة، تُحاصرها الكوارث السياسية والاجتماعية دون أن تعلنها صراحة، مثل فيلم «ريش» (2021)، أو تجارب تسجيلية تتشابك مع أسئلة الفن ومجتمعات الأقليات وصورة المرأة مثل «رفعت عيني للسما» (2024). بعد التجارب الأولى التي اشتبكت مباشرة مع الحدث، تراجع المشهد السينمائي المستقل، ليتأرجح بين عدم الاشتباك المباشر، أو الاكتفاء بالتلميح، إلى أن جاء الفيلم الوثائقي «أبو زعبل 89» (2023)، ليعيد قلب المعادلة: إذ انطلق من حدث سياسي مباشر -قضية عمال أبو زعبل الشهيرة- واتخذ منه مدخلًا إلى معاناة الفرد وتجربته الحسية، لا العكس. بهذا المعنى، بدا الفيلم كأنه محاولة لإعادة وصل ما انقطع، من خلال الرجوع إلى ماضٍ أعمق، ليس إلى لحظة الثورة 2011، لكن إلى لحظة سبقتها، وربما كانت سببًا لقيام هذه الثورة، الثمانينيات، وانهزام جيل الآباء وانهزام اليسار في العالم كله، هكذا تربى جيل الأبناء، الذي خرج في ميدان التحرير عام 2011، ليبحث عن نفسه.

من فيلم «أبو زعبل 89» (2023)
انحسار الصوت
من خلال هذه المقدمة السريعة، نحاول أن نشتبك مع ما حاولت السينما المستقلة صناعته بعد ثورة 2011، ويمكن من الضروري الوقوف على موضوعاتها الأساسية، بعد حدث مفصلي وكبير مثل ثورة 25 يناير. يمكن أولها وأهمها هو الغرق في الصمت السينمائي.
يتعدد الصمت في السينما المستقلة، بعد 2011، بين إسكات تام لصوت الشخصيات، وإفساح المجال للضجيج العام أن يسرح في خلفية الحدث. صمت تام ومُطبِق، أو إفساح المجال لضجيج العالم كي يتقدّم كحدث موازٍ يغطي على الفاجعة، فيتحول إلى ستار كثيف يخفيها. يُختزل الحوار إلى أدنى حدّ، فيما يتضخم ضجيج الخارج حتى يغدو هو الفاعل الأساسي. هنا، يصبح الصمت ليس غيابًا للقول، بل استراتيجية جمالية وأخلاقية، تترك المجال لما لا يُقال كي يطلّ، ولما يستحيل تمثيله كي يُلمَح في الهامش.
في هذا السياق، يشكّل فيلم أحمد عبد الله السيد، «فرش وغطا» (2013) علامة فارقة؛ يلاحق رحلة سجين يفرّ في أثناء الانفلات الأمني زمن الثورة، فيختار المخرج أن يجعل الصوت شريطًا شبه صامت، كميتافور عن حالة الخرس الجماعي التي تصيب المدينة وساكنيها. في غياب الحوار، تبرز الصورة كأثر وحيد، هشّ ومثقّل بطبقات من محاولات الكلام المكبوتة بينما الضجيج المشوش على الحياة، يصحب الحكاية، فيبدو أن المدينة صماء، تحاول قول شيء، من تحت طبقات ثقيلة، ولا تصل.

من فيلم «فرش وغطا» (2013)
أما «الخروج للنهار» (2012) لهالة لطفي، فيغرق في لقطات طويلة وصمت ممتلئ بأصوات البيت والشارع. هنا يتحوّل الصمت إلى تجربة فردانية: صمت البطلة المحاصَرة بأصوات الآخرين، صمت يُفرض عليها أكثر مما تختاره. الفكرة نفسها يعيد محمد حمّاد صياغتها في «أخضر يابس» (2016)، حيث يُستَثمر التكرار والصمت المديد في رسم عزلة داخلية خانقة للشخصية الأنثوية.
ويختار فيلم «آخر أيام المدينة» (2016) لتامر السعيد، سماع الصوت من وجهة نظر ذاتية، من وجهة نظر لصيقة بالبطل، لا مسافة بين الصورة والصوت، بين الذات والعالم. كأن المدينة بأصواتها جزء من جسد الإنسان، من لحم التجربة نفسها.
أما في «ورد مسموم» (2018) لأحمد فوزي صالح، تنعدم الموسيقى التقليدية لصالح طبقات الضجيج الصناعي/المديني، مشاهد المدابغ المغمورة بالاختناق والروائح الصوتية المكثّفة تُحوِّل السمع إلى تجربة حسية تتجاوز فكرة الموسيقى التصويرية، لتجعل المدينة مادة ملموسة ضاغطة على الجسد.

من فيلم «ورد مسموم» (2018)
هكذا يبدو أن اختيار الصمت، أو الضجيج المشوش، في السينما المستقلة ليس خيارًا فنيًا محضًا، بل هو خيار أخلاقي وسياسي أيضًا: ترك المجال للأصوات الخام، للارتجال، أو حتى للصمت المطبق، كجزء من جدل «التمثيل بعد الكارثة». ما يذكّرنا بتحذير أدورنو من البلاغة السهلة بعد المذبحة؛ أن لا يجوز تحويل الفاجعة إلى خطاب مكتمل، بل إلى فراغ دالّ، وإلى أثر يظلّ يذكّرنا بما لا يمكن قوله أو استعادته. أثار ثيودور أدورنو سؤالًا مهمًا، بعد الحرب العالمية الثانية، وعقب المحارق النازية، عن كيف يمكن للفن أن يتعامل مع العنف الجماعي أو المذابح دون أن يحوّلها إلى سلعة جمالية؟
ظل ذلك السؤال مطروحًا، ومتجددًا، مع كل كارثة إنسانية جديدة، ومع كل حدث كبير ومزلزل تمر به المجتمعات، ليطرح دائمًا معضلة، كيفية التعبير عن الكارثة، أو إعادة إنتاجها فنيًا، دون الوقوع في فخ صيغ تمثيل تجميلية تجعل الفاجعة قابلة للهضم أو الاستهلاك. ويمكن السينما المستقلة اختارت بعد 2011 تجسيد هذا المأزق، حيث تراجع كثير من المخرجين عن الاشتباك المباشر مع صور المذبحة أو مشاهد القمع، وفضّلوا الصمت، أو ضجيجًا مشوشًا، أو التركيز على الفرد في مدينة مختنقة. كأنها تجسد تَحفُظ أدورنو عن بلاغة التمثيل المباشر.
إعادة النظر في الأنثوي والذكوري
أيضًا، وبالضرورة، شكلت الثورة، والفجيعة اللاحقة لها، بالهزيمة، إعادة النظر لرؤية الأنوثة والذكورة على يد جيل جديد يفتح أفقه على زمن يتفكك فيه كل تقليد، وكل مؤسسة، العمل والزواج والعائلة، حتى الأدوار الجندرية، لم تعد تحمل نفس شكلها أو وظائفها القديمة، فاتجهت السينما أيضًا إلى فحص هذه المعضلة، لطرح سؤال عن كيف ترى المرأة نفسها؟ عبر توسيع مساحات السرد النسوي من خلال معالجات واقعية متقشِّفة جماليًا (لقطات طويلة، اقتصاد في الحوار، أصوات مكانية) وغياب فارس الأحلام، أو غياب الذكر المنقذ المُخَلِّص، بدت السينما مشغولة بالتعبير عن هشاشة النساء، من موقع إنساني أوسع. وفُتِح أيضًا المجال للتحدث عن الذكورة الهشة في عصر سائل.
لعلَّ من أهم التجارب التي تطرقت لسرديات المرأة، فيلمي «الخروج للنهار» و«أخضر يابس» اللذين اشتركا في مقاربة يومية متقشّفة تضع المرأة في مواجهة البنية الاجتماعية، لا عبر خطاب صاخب، بل من خلال تفاصيل الصوت المكبوت والبطء والانتظار. الأول يرسم بورتريه لابنة ترعى والدها المريض، حيث تتحوّل لقطات البيت والمدينة إلى فضاء شاعري، لكنه غير منقذ. الثاني يشتغل على غياب الرجل أو حضوره الشكلي، ليكشف عن شبكة قمع غير مرئية تُعلِّق المرأة بين القانون والعرف، ويحوّل التفاصيل اليومية إلى مرآة لنظام أبوي متجذّر.
بينما تختار أفلام أخرى، توسيع زاوية السرد النسوي، لتنخرط حيوات أبطالها من النساء، في فضاءات أوسع، سواء فضاءات عامة أو فضاءات افتراضية. فتظهر تجارب لافتة مثل «سعاد» (2020) لآيتن أمين، و«أمل» (2017) لمحمد صيام، و«عاش يا كابتن» (2020) لمي زايد. في «سعاد» تُطرَح الحياة المزدوجة للفتيات بين صورة افتراضية على وسائل التواصل وأخرى مسكوت عنها تحت ضغط الشرف والرقابة، بينما يوثّق فيلم «أمل» أثر السياسة على الجسد الأنثوي ومساحته في الشارع، عبر مسار حياة فتاة تنطلق مع الثورة في عمر المراهقة، وتظل في الشارع لسنوات. وفي «عاش يا كابتن» تتحوّل رياضة رفع الأثقال إلى موقع للمقاومة والهشاشة في آن.

من فيلم «سعاد» (2020)
في المقابل وعيت السينما بتغير صورة الرجولة المُكرسَّة في مدينة ضاغطة اقتصاديًا، وبعد هزيمة كبرى، وتفكيك للأُطر الراسخة. تتوارى صورة الرجل المهيمن على العالم، لصالح الرجل الهَشّ الذي يحاول النجاة هو الآخر.
في «آخر أيّام المدينة»، ينطلق مخرج رجل عاجز عن صناعة فيلمه، عاجز عن «الفعل»؛ يتجلى ذلك التيه عبر حركة الكاميرا المهتزة، التي لا تستطيع رؤية الصورة واضحة أو كاملة. كأن المخرج أراد رثاء الذات الذكورية المحاصرة في فضاء سائل، وقبل ذلك أراد رثاء المدينة كما عرفها. في «علي معزّة وإبراهيم» (2016) لشريف البنداري، يتطرق المخرج إلى فكرة الرِقَّة الذكورية، الممزوجة بحس مبهج، عبر رحلة صداقة وعلاج نفسي بين رجلين، بجروح نفسية عميقة تتجلى في الفقد والهشاشة، فيطرح الفيلم صورة مضادة للبطولة الصلبة. وفي «ورد مسموم»، رغم الحِسيَّة التي تغلف بها الذكورة، يظل البطل مكبلًا بجحيم المدابغ وبعلاقته المُرتبكة مع أخته وباقتصاد المكان الخانق. الحسية هنا تبرز فشل الرجل في النفاذ.

من فيلم «علي معزّة وإبراهيم» (2016)
هذا التغير، أو التوجه نحو إعادة النظر في الأنثوي والذكوري، أظن أنه ليس مجرد توجه جندري فقط، مؤسس على خطاب عالمي، لكنه يحتمل فكرة سياسية، قد تتقاطع مع فكرة الفيلسوف جاك رانسيير، عن سياسة الأدب-الفنون، حول إعادة توزيع ما هو مرئي ومسموع، والذي يمكن أن يُروى، لتصبح تفاصيل البيت والشارع والجسد فضاءً لمساءلة السلطة. وهذا لا ينفصل بحال من الأحوال، عن التغير الكبير، الذي أحدثته الثورة في صناعة موجة سينمائية مغايرة.
النظر في الهامش
بعد هذا الحراك السينمائي الزخم، الذي انشغل بالسؤال السياسي، ولم يفصله عن صناعة السينما، بعد الثورة، وارتبط بطرح السؤال الجمالي أو الأخلاقي، الذي تساءل عن كيفية تمثيل الحياة بعد الحدث السياسي الكبير، لكنه توارى قليلًا بعد استقرار هزيمة ما، لاحت في الأفق، بعد القمع السياسي الكبير الذي لحق 2013، وصعود النظام الجديد، فأزاحت السينما المستقلة السياسي لشكل أكثر مُبطَّن، أو دُفِعت الصناعة المستقلة للتركيز على الذوات الإنسانية الصغيرة، كحل فردي للنجاة. هنا يمكن استدعاء ما يسميه رانسيير بـ«إعادة توزيع المحسوس»، حيث يصبح الهامش، أو ما كان غير مرئي/غير مسموع، موضوعًا جماليًا وسياسيًا في آن. من هذا المنظور، يمكن من هنا، نلمح جنوحًا أكبر للتجريب الفردي، أو الذهاب إلى الهامش، من حيث تمثيل مجتمعات أصغر، أقليات جندرية أو عرقية، كان أبرزها فيلم «رفعت عيني للسما» لندى رياض وأيمن الأمير، الحائز جائزة من مهرجان كان، وتجارب مراد مصطفى القصيرة، التي يرسم من خلالها القاهرة من منظور لاجئين/مهاجرين أفارقة: «حنة ورد» (2020) عن حلّاقة سودانية في بيت مصري، و«أعدك بالجنة-عيسى» (2023)، وفيلم «ريش» لعمر الزهيري، الذي يتلاقى مع فكرة الذكورة الهشة، ويرسم صورة للمدينة موازية، خيالية لكنها مستمدة من الواقع.
وصل المجال العام لحائط سد، واحتكرت الشركات المملوكة للنظام السياسي، صناعة الدراما والإعلام والسينما، وفرضت رقابة متشددة على المحتوى المكتوب والمرئي، فلم يكن هناك بُد من تنامي حساسية ما تجاه السرديات المُبطنة، وبرزت حاجة ملحّة للبحث عن منافذ بديلة للتعبير. هكذا اتجهت السينما المستقلة نحو الذوات والأمكنة التي كانت خارج الكادر: الجغرافيا النائية، المهن الدنيا، الأقليات الدينية والإثنية، الأنوثة الشابة، والمهاجرون الأفارقة. شكل ذلك انعطافًا دالًا في التوجهات السينمائية، المستقلة، التي تكثفت، في الخطابات الهامشية، فخرجت تجارب لافتة، غير أن هذه الحركة لم تخلُ من محاولات أخرى لتقديم أعمال تغازل الخطابات المانحة، وتفرغ الفن من دوره السياسي، وهو إعادة تمثيل المهمش، وتحويله إلى مجرد خطاب زاعق، أو بكائيات فجة.
في هذا المناخ، جاءت تجربة مثل «رفعت عيني للسما» بوصفها علامة لافتة استحقت التقدير. الفيلم وهو وثائقي طويل صُوّر على مدار أربع سنوات في قريةٍ نائية، في محافظة المنيا، من صعيد مصر، يتابع مجموعة فتيات يُنشئن فرقة مسرح نسائية، ويصطدمن بأعراف العائلة والقرية والدين والعمل. اعتمد المخرجان على لقطات تمثيلية روائية أدتها فتيات الفرقة أنفسهن، بما منحهنّ سلطة تمثيل ذواتهن وكشف مأزقهن الحياتي من الداخل. هذا المزج بين الارتجال وإعادة تمثيل الحقيقة صاغ تجربة أقرب إلى الـautofiction، حيث يتوزّع المتلقي بين مستويات متعدّدة للصورة: عاطفية، توثيقية، وجمالية.
تلك المراوحة بين الذاتية والواقعية، بين السيرة والتمثيل، هي ما منح الفيلم فرادته وفتح أفقًا جديدًا أمام سينما الهامش في مصر. من هنا يضيء الفيلم، فكرة رانسيير حول إعادة توزيع المحسوس، إذ يمنح فضاءً بصريًا وسمعيًا لفتيات من الهامش الاجتماعي، لم يكن مسموحًا لهن من قبل بالظهور أو تمثيل أنفسهن. هنا يصبح فعل التصوير ذاته، وإعادة تمثيل الحياة اليومية على نحوٍ هجين بين التوثيق والخيال، ممارسة سياسية بامتياز: ليس عبر رفع شعارات مباشرة، بل من خلال تغيير من يُسمح له بأن يُرى ويُسمَع.
بهذا المعنى، لا يعود الفيلم مجرد حكاية عن فرقة مسرحية نسائية في صعيد مصر، بل يصبح اقتراحًا جماليًّا لإعادة تشكيل حدود المرئي والمسموع في المجال الثقافي، أي إعادة كتابة السياسة من موقع الهامش. كما أنه سيطرح سؤالًا حول سينما «الحقيقة» أو سؤال أكبر عن فن الحقيقة ككل، في لحظة تاريخية فارقة. سيتقاطع هذا السؤال مع تجارب أخرى مهمة، مثل فيلم «أبو زعبل 89» الذي سيطرح سؤالًا مهمًا عن الجيل السياسي، وعن الأبوة بتمثيلها الواقعي أو الرمزي. يسبقه أيضًا، فيلم « ريش» إلى مسألة الأبوة، بمعناها الخفي والمُلغِز، عبر فيلم روائي تجريبي، تدور قصته الصادمة، حول تحول أب، يوم عيد ميلاد ابنه إلى دجاجة.
يدور فيلم «ريش» في إطار فانتازي، مستمد من الواقعي، يرسم ملامح مدينة غرائبية، غارقة في الفقر، والإيمان بالسِحر، تتحرك فيها البطلة، زوجة الرجل الذي تحول إلى دجاجة، بفِطنة الأنوثة المقموعة، في مدينة أكبر منها، لتنجو مع طفليها، وتطرق كل السبل، لاستعادة روح زوجها المتحول، حتى تبلغ مرادها. تُفرَش المدينة على التواطؤ بين الجميع، وتختلط الغرائبية بالبَداهة، الوهمي بالحقيقي، والموت بالحياة.
المثير للسخرية أن هذا الفيلم «ريش»، الذي حاز جائزة مرموقة في مهرجان كان، تعرّض لهجوم عنيف عند عرضه في مهرجان الجونة السينمائي المحلي، حيث يلتقي سنويًا العدد الأكبر من الفاعلين في المشهد السينمائي التجاري مع بعض الصناع المستقلين. لم يقتصر الأمر على الهجوم الكلامي، بل انسحب العديد من الممثلين وصنّاع السينما من القاعة، موجهين للفيلم تهمة «تشويه صورة مصر». تكشف هذه الواقعة مجددًا عن الكيفية التي تُقصي بها السينما التجارية الحدث الكبير، وتنكر المأساة المجتمعية، مفضّلة التماهي مع الخطاب السلطوي أو الاحتماء من أي تغيير حقيقي قد تُحدثه السينما المستقلة.

من فيلم «ريش» (2021)
يستفز «ريش» هذا النوع من المتلقين، ليس فقط لأنه يواجه الخطاب الرسمي بواقعه القاسي، لكن أيضًا لأنه يتعامل مع موضوع الأبوة بطريقة مزعجة وصادمة. الأب، رمز السلطة، الراعي، والمهيمن على البيت، يتحول إلى دجاجة، أي كائن مخفي، منزوع النطق، اللغة والفاعلية، ليكشف الفيلم عن هشاشة الذكورة المهيمنة، ويسخر من المؤسسة الأبوية بتحويلها إلى رمز عبثي. يبدو أن هذا التفكيك لن يظل حدثًا معزولًا، بل سيجد امتدادًا في أعمال أخرى، سواء لفنانين رجال أو فنانات نساء، لنشهد -على غرار ما سبق في موجة تفكيك الأمومة داخل الفن المصري- لحظة موازية لتفكيك الأبوة، بوصفها بنية سلطوية لا تُساءل إلا عبر الفن. وهو ما سنراه جليًا في الفيلم التسجيلي «أبو زعبل 89» للمخرج بسام مرتضى، الذي لاقى اهتمامًا نقديًا واسعًا، وعرض مؤخرًا ضمن برنامج «أيام القاهرة السينمائية» بسينما زاوية. وقد فاز بثلاث جوائز في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي: أفضل فيلم وثائقي، وجائزة لجنة التحكيم لأفضل فيلم إفريقي، وتنويه خاص من مسابقة أسبوع النقاد الدولية، كما عُرض دوليًا في مهرجان أمستردام الدولي للفيلم الوثائقي (IDFA).
يتناول الفيلم، لحظة اعتقال والد المخرج، ضمن جماعة من المثقفين عام 1989، في قضية سياسية شهيرة، استمرت ثلاث سنوات، على خلفية تضامنهم مع إضراب عمال مصنع الحديد والصلب، هذه القضية الشهيرة التي اعتقل فيها وزير الداخلية الأسبق زكي بدر، في نظام مبارك، خمسين من المثقفين والعمال، وتعذيبهم، في قضية هزت الرأي العام، واعتُبرت نهاية خط فاصل في تاريخ الحركة اليسارية المصرية.
يختار المخرج أن ينفذ بهذا الحدث السياسي الكبير، الذي يشكل عنوان الفيلم، من زاوية شخصية وذاتية، لينطلق منها في سردٍ بصري يتسع إلى البُعدين العائلي والتاريخي الاجتماعي، عبر تشريح علاقته المعقدة مع والده ووالدته. علاقة تَشكّل مسارها المُرْتَبِك منذ لحظة اعتقال الأب، وما خلّفته تلك اللحظة من غياب وشرخ ممتد في بنية العائلة والذاكرة معًا.

من فيلم «أبو زعبل 89» (2023)
لو بدت موجة الأفلام المصرية المستقلة في السنوات الأخيرة منحازة إلى الهامش -الاجتماعي، أو الديني، أو الطبقي، أو الجندري- فإن «أبو زعبل 89» يختار بوعي الانطلاق من مركز سياسي صلب، كاشفًا طبقة مثقفي السبعينيات، في مستويين متوازيين: داخل الإطار الخاص، أي العائلة، وخارجها، في العلاقة مع السلطة السياسية وتحولات اللحظة التاريخية العالمية. في مغامرة محفوفة بالمخاطر، إذ كان من الممكن أن ينزلق الفيلم نحو التوثيق الصارم على حساب الرؤية الفنية، غير أن العمل ينجو من هذا الفخ بحساسية سردية تمكّنت من الموازنة بين البُعد التوثيقي والتعبير الجمالي، في تجربة تمزج بين الذات والحدث، والذاكرة والفن.
يبدأ الفيلم باستعادة المخرج ذكرى رحلته، في سن الخامسة، مع والدته إلى سجن أبو زعبل لزيارة والده المعتقل. لحظة تأسيسية يبني عليها سرديته البصرية، إذ يفتتح الفيلم بمساءلته الصريحة للأم: «لماذا أخذتِني معكِ إلى السجن؟» سؤال يفتح بوابة الذاكرة المربكة، لا على مستوى الطفولة فحسب، بل أيضًا على مستوى الهوية والعلاقة مع الأب. من هذه البوابة الشخصية، يتفرّع السرد تدريجيًا إلى الفضاء السياسي الأوسع: إلى لحظة نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات، مع ما رافقها من انهيار المعسكر الشرقي وتراجع المشروع الاشتراكي عالميًا، وما تبع ذلك من انعكاسات حادة على الواقع المصري والعربي والعالمي ككل.
في النبذة المرافقة لتريلر عرض الفيلم في مهرجان قرطاج 2024، يعلّق المخرج بوضوح على دوافعه: (بأن الابن الآن، يعود مع الأب لزيارة الأصدقاء والأماكن والمشاعر، في محاولة لإعادة تشكيل الذاكرة المنقوصة بسبب الغياب. بين هجرة الأب ومرارة الأم، ليجد الابن نفسه ممزقًا بين روايتين) يعلن بذلك عن نية الفيلم: ترميم العلاقة الثلاثية المتصدعة بين الأب والأم والابن، بعد تجربة الاعتقال والانفصال.
إذًا هو يمهد لنا هذا السرد البصري، باعتباره رحلة لترميم العلاقة مع الأب، لا بوصفه رمزًا، بل بوصفه حضورًا مفقودًا ومربكًا. فالأب، رغم ظهوره الجسدي في الفيلم، يظل غائبًا رمزيًا: لا يعبّر عن ندم تجاه ابنه، ولا يبدو معنيًا باستعادة دوره كزوج أو كأب. وهو ما يجعل تلقي الفيلم في بدايته يوحي بانحيازٍ ضمني له؛ إذ يسعى المخرج، كما يبدو، لتبرير تنصل الأب من مسؤولياته، استنادًا إلى هزيمته السياسية والعنف الذي تعرض له في المعتقل.
لكن من خلال نظرة أبعد، قد يحمل هذا الانحياز الظاهري، بُعدًا آخر، فالمخرج لا يمنح الأب عفوًا سهلًا، بل أيضًا يشرك المتلقي في هذا الجُرح الناجم عن فقدان الأب، ويقحمه في الحيرة ذاتها. هل يغفر للأب فعلًا أم يكشفه أمام المتلقي، بأنانيته وهزائمه؟
يتحول الفيلم من سردية مهادِنة إلى مساحة تأملية مفتوحة، يتقاطع فيها الخاص بالعام، ويتردد فيها سؤال البنوة المجروحة: هل أراد الابن أن يغفر؟ أن ينحاز للأب فعلًا؟ أم فقط أن يفهم؟ يترك الفيلم هذا الجدل دون حسم، مفتوحًا على احتمالات التأويل، خاصة بعد سرده لوجهة نظر الأم، التي تقول كلمتها الشجاعة، ثم تموت. هذه هي «زوجة السَجين» التي هُجِرت، وتركتها الأبوة الهشّة تلعب دور الأم المناضلة المغدورة.
يبدو أن المخرج، يختار، إذًا، أن يجعل فيلمه الوثائقي ليس كأداة لقول «الحقيقة عن الآخر/ الأب»، بل لطرح سؤال ممتد وغير مُجاب عنه.
يبدو أن المخرج، يسعى من خلال أدواته السينمائية إلى خلق معنى ذاتي عبر سرد متعدد الطبقات، يتنقل بين الشخصي والسياسي، المحلي والعالمي، الداخل والخارج. في محاولة منه لكسر الوثائقية الخطية والتقريرية، التي كانت ستُستخدم للحديث عن تجربة مثل تجربة السجن. بل على العكس، حاول مرتضى، من خلال هذا الموضوع العام جدًا، خلق فضاء شِعري ذاتي، يدمج فيه الصوت والتعليق الذاتي والقطع البصري غير المتسلسل، والمشاهد التمثيلية، ليخلق تجربة تأملية، تقفز بين الشخصي والسياسي، بين بنوة جيل ما بعد (الربيع العربي) المعطوبة وأبوة السبعينيات المهزومة التي كانت تطمح في مجد يوتوبي، لم يتحقق، فآثرت الهرب.
يستخدم «أبو زعبل 89» التقنيات السردية الهامشية، فهو على خلاف الوثائقيات السياسية التقليدية التي تكتفي بعرض الأرشيف وشهادات الناجين، يذهب إلى تعليق ذاتي، يضع صوته (المخرج/الابن) في قلب السرد، ليواجه الحدث لا من موقع المؤرخ، بل من موقع الجرح الشخصي. بهذا، يكسر الفيلم التراتبية المعتادة بين الأرشيف والحاضر، بين الموضوع والراوي، ليصبح صوت الابن نفسه، بوصفه شاهدًا ومجروحًا، أداة قراءة فنية وتاريخية. يتخطى الصوت أيضًا، ليؤدي الابن اللقطات التمثيلية، التي يتمثل فيها الأب السجين، ليضع نفسه في نفس الموقع، المسجون والمنهزم، إعادة زمنية للمغفرة، أو استعارة عن عدم التحرر من هذه العلاقة الصعبة. وهي أيضًا، اللقطات التمثيلية، فعل درامي يعيد توزيع السلطة السردية. إذ يُقصى الأب -رمز التجربة والذاكرة السياسية- عن تمثيل ذاته، ليحل الابن مكانه، مجسدًا فجوة عاطفية وذاكرة منقوصة. هنا يتحول التمثيل داخل الوثائقي إلى أداة مزدوجة: من جهة، يعلن عن استحالة إعادة بناء «الحقيقة» كاملة، ومن جهة أخرى، يمنح الابن سلطة إعادة تشكيل صورة الأب، كأنه يعيد حبك الذاكرة الممزقة بخيوطه الشخصية.

من فيلم «أبو زعبل 89» (2023)
ومن هنا يتخذ الفيلم بنيته الدائرية، حيث يبدأ الحدث من الطفولة ويعود إليها، في مشهد ختامي حين يجتمع مع الأب، في أرض الفردوس، ليتخلى عن الدور الذي فُرِض عليه، بغياب الأب، دور الابن الذي يرعى العائلة، ليعود في هذا الختام، إلى طفولته، التي ما زالت تحتاج إلى يد الأبوة الحنونة.
يتعدد سؤال البنوة والأبوة في فيلم أبو زعبل وهو ما يميزه ويمنحه طبقات متعددة، أولها السؤال الذاتي، بين المخرج وأبيه، والسؤال الفني، حيث يضيء مرتضى على تجارب فنية أخرى من جيل سابق، بالذات تجربة أسامة فوزي السينمائية، حيث يعيد، مرتضى مع أبيه، تمثل، مشهد من فيلم «عفاريت الأسفلت» (1996)، حين يتأبط البطل (محمود حميدة) ذراع أبيه (جميل راتب)، يتمشيان أمام الحديقة اليابانية. ليصنع مرآة مزدوجة، يرى فيها نفسه داخل الكادر مع أبيه، ويكشف في الوقت نفسه عن علاقته الحميمية بذاكرته السينمائية المفضلة.
كذلك يمكن قراءة «أبو زعبل 89» كمساءلة أوسع، إذ يتحول إلى سؤال أبناء ثورة 2011 الموجَّه إلى آباء السبعينيات: مساءلة عن لحظة تاريخية أسبق، عن هزيمة ممتدة. حيث يتجلى العجز الأكبر، فهؤلاء الآباء السياسيون بدوا غير قادرين على تقديم رواية مقنعة أو صادقة لأبنائهم. هكذا يصبح الفيلم مساحة للتأمل في الميراث المجروح، أكثر مما هو مساحة لتلقّي إجابة أو حقيقة.
يمكننا القول إن «أبو زعبل 89» يدخل في تقاطع حاسم مع تيار ما يُعرف بالوثائقيات ما بعد الحقيقة (Post-Truth Documentary). فالفيلم لا يدّعي تقديم «الحقيقة» كأمر بديهي، بل يقدمها كسردية هشة، ويحاول إعادة بنائها من خلال تداخل الذات والحدث، والذاكرة الشخصية بالسياسية، من خلال التوثيق والتمثيل. هنا يتدخل منظور ترينيه ت ميناها (Trinh T. Minh-ha) ليفتح نافذة نظرية مهمة. تقول ترينيه إنها لا ترى الأعمال الوثائقية كأدوات لنقل الحقيقة، بقدر ما هي أدوات لإعادة تكوين وعينا بالذات والحقيقة معًا، من خلال التوترات والتداخلات بينها، أو بمعنى آخر «الوثائقي لا يصوّر الحقيقة، بل يصنع وعينا بها»، وهو ما نجده بصورة بارزة في «أبو زعبل 89»: الفيلم لا يعرض سردية سياسية مفروضة أو متكاملة، بل يعمل كهيكل بصري وجمالي يسائل منطق الحقيقة نفسها، ويضع فكرته عن الأب والأحداث الكبرى في لحظة ما بعد الحقيقة.
يبدو أن سرديات ما بعد الحقيقة تبرز الآن بشكل متنامي، سواء من خلال الأوتوفيكشن الذي يضع الذات الصانعة للفن موضوع لمنتجها، أو من خلال الكتابات غير التخييلية nonfiction في الأدب والابتعاد إلى حد ما عن الروايات أو القصص التقليدية. يمكن لأن الشكل الفني لا ينفصل عن شرطه التاريخي، فأصبح سؤال الحقيقة مُلِّحًا، بعد ثورة 2011 وما تلاها من انكسار جماعي، وأحداث إقليمية مفجعة، فدأب الفن للتعبير عن الذات ووضعها داخل الأحداث، لأن الحقيقة لم تعد تُطلب في الأرشيف الرسمي أو الوثائق الصارمة، بل في تلك المساحة الملتبسة بين السيرة الشخصية والذاكرة العامة. لذلك مالت السينما، كما الأدب، إلى الأوتوفيكشن أو إلى أشكال الكتابة غير التخييلية التي لا تدّعي الحياد، بل تحمل عبئًا أخلاقيًا، وهو البحث عن حقيقة ما، حتى لو كانت مجروحة وهشة. سنرى ذلك، في تجارب حديثة داخل الأدب، من جيل التسعينيات، مثل تجارب إيمان مرسال وياسر عبد اللطيف وهيثم الورداني وفاطمة قنديل، وغيرهم، اللذين انحازوا للشكل غير الروائي، بمزج الذات في البحث الخيالي أو في المُساءلة الاجتماعية، أو في التفكيك السلطوي.
لكننا نجد تجربة أسبق من هذه الأسماء، تتقاطع بشكل أكبر مع تجربة «أبو زعبل 89»، مزجت السياسي المباشر مع الذات، وهي تجربة للكاتب الكبير صنع الله إبراهيم، الذي فارقنا مؤخرًا، وقدّم نموذجًا مبكرًا لما يمكن أن يُسمى اليوم بالأوتوفيكشن، حتى إن لم يُستخدم المصطلح حينها. في كتابه «يوميات الواحات» (2005) أو في نصوصه الأولى مثل «تلك الرائحة» (1966)، حيث يضع إبراهيم نفسه مباشرة داخل النص، بوصفه سجينًا سابقًا، ومراقَبًا من السلطة، كاشفًا هشاشة العلاقة بين الذات الفردية والبنية السياسية القمعية. هذه الكتابة لا تتوقف عند السيرة الذاتية، بل تُحوّل تجربة الاعتقال والاغتراب إلى سرد جماعي عن جيل كامل.
نجد صنع الله، مثلًا، في «تلك الرائحة» (1966)، يختار تحطيم الأشكال السردية التقليدية، ليكتب نصًا مُراوغًا أقرب إلى الأوتوفيكشن، ينطلق من تجربة السجن وفقد الأم، ليخلق من الجسد والذاكرة، زمنًا مُشوَّهًا، يسير في فراغات وانقطاعات، يفضح السلطة ورقابتها، فإن فيلم «أبو زعبل 89» يلتقط الخيط ذاته بعد نصف قرن تقريبًا، في وسيلة تعبير مختلفة، لكن داخل سؤال متشابه: كيف يمكن تمثيل الذات بعد فجيعة جماعية وسياسية كبرى؟
في الحالتين، لم يسعَ النص إلى «توثيق» الحدث (السجن أو الاعتقال السياسي) بصفته حقيقة خارجية، بل إلى بناء سردية ذاتية مشروخة، تنقل أثر الفقد والغياب أكثر مما تنقل الوقائع. صنع الله كتب ضد التوثيق الخطابي المباشر، عبر الجمل التلغرافية، واللا نهجية الزمنية، ومراوغة الرغبة. أما بسام مرتضى في «أبو زعبل 89»، فمزج الصوت الذاتي بالتمثيل الوثائقي، وسمح لابنه أن يحل محل الأب.
يمكننا هنا رؤية أن الأوتوفيكشن قد يتخطى فكرته عن شكل سردي «مزج بين السيرة والتخييل»، إلى نوع فني يسعى إلى مقاومة جمالية بعد الفجيعة. فالحدث السياسي الكبير (السجن، الهزيمة، انهيار مشروع، موت الأم/غياب الأب) يُفقد اللغة قدرتها على قول الحقيقة كاملة، ويفرض شكلًا جديدًا من التعبير. في هذه اللحظة، يصبح «التخييل الذاتي» أو «الكتابة غير التخييلية» -سواء في الأدب أو السينما- فعلًا أخلاقيًا، لا لأنه يقدّم حقيقة بديلة، بل لأنه يكشف هشاشة كل سرد جاهز، ويعيد إلينا تجربة الفقد في بنيتها الممزقة.
في النهاية إذا كان سؤال إعادة تشكيل الذاكرة الجماعية، هو ما يحرك الفنون بعد الأحداث السياسية الكبرى والفجائع الإنسانية، وهو ما حرّك الموجة الأحدث من السينما المستقلة في مصر بعد 2011، فإننا سنجد أن فيلم «أبو زعبل 89» يمثّل أحد أكثر أشكال هذا السؤال نضجًا وتوترًا في آن. فالأفلام التي خرجت من رحم الثورة وهزيمتها، لم تَعُد تكتفي بإعادة تمثيل الواقع أو تسجيله، بل راحت تُفكك بنيته، وتظهر هشاشته. هكذا وصلنا إلى ما يمكن وصفه بـ«سينما ما بعد الحقيقة»، حيث لم يعد الهمّ توثيقًا حرفيًا للأحداث، بل مساءلة ذاتها كأحداث، وكيف جرى تَمثيلها وتَذكّرها، ومن يملك سلطة روايتها. يضيء الفيلم مع غيره من الأفلام المستقلة الأخرى، أسئلة مُلحة ومزعجة تحاول تفكيك السلطة، تحاول المزج بين الوثيقة والتخييل، ليس بوصفه اقتراحًا جماليًا فقط، لكن أخلاقيًا أيضًا، وتطرح سؤالًا كبيرًا، ليس فقط حول تطوير دور الفن والسينما في الإمتاع، بل أيضًا عن كيف يمكن للفن أن يرمم فجوات الذاكرة، لا بإغلاقها، بل بتركها مفتوحة، على آخرها؟
