
يقف لبنان اليوم أمام لحظة مفصلية لم يشهد ما يشبهها منذ عقود. فمُجمل التحوّلات العسكرية والأمنية والسياسية التي أصابت المنطقة منذ 7 تشرين أول/أكتوبر، والخسارة التي أصابت «محور إيران» في غزة ولبنان وسوريا، والضغط الأمريكي الساعي إلى إعادة رسم الشرق الأوسط، تُشكِّل عوامل تضع «بلاد الأرز» أمام سؤال محوري: هل لبنان على أبواب إعادة بناء مقاربته تجاه إسرائيل عبر تفاوض منظَّم تدرَّجَ من مستوى عسكري إلى مستوى سياسي بتكليف السفير سيمون كرم رئاسة وفد لبنان إلى اللجنة الخماسية -الميكانيزم» المُشكلة لمراقبة تنفيذ اتفاق وقف الأعمال العدائية؟ أم أن البلاد مهدّدة بأن تصبح الحلقة الأضعف في ترتيبات هندسة أمن إسرائيل لعقود مقبلة؟
لعلّ الدعوات للعودة إلى اتفاقية الهدنة لعام 1949، وما يُرافقها من نقاش حول القرار 1701 ومخرجاته، واتفاق وقف الأعمال العدائية الموقع في تشرين الثاني/نوفمبر 2024، ليست تفصيلاً، بل تعبيراً عن حاجة لبنانية إلى إعادة تعريف قواعد الاشتباك، وقواعد التفاوض، وقواعد السيادة. فالمشهد الإقليمي لم يعد يسمح بالاستمرار في سياسات «الانتظار»، كما أنّ الداخل اللبناني يعيش أخطر انهيار اقتصاديّ وماليّ في تاريخه، يفرض عليه إعادة التفكير في أدواته واستراتيجياته.
في هذا السياق، يصبح من الضروري إعادة قراءة المسار التفاوضي اللبناني ـ الإسرائيلي منذ تأسيسه بعد الحرب العربية ـ الإسرائيلية الأولى، مروراً بمحطّات 17 أيار/مايو، ومحادثات واشنطن ما بعد مؤتمر مدريد، والانسحاب الإسرائيلي عام 2000، ثم القرار 1701 الذي جاء ليوقف حرب 2006 وصولاً إلى منعطف 2024 ـ 2025 الذي شهد تدمير قوة «حزب الله». هذه القراءة ليست فهرساً للأحداث، بل محاولة لفهم كيف تؤثر التحوّلات الإقليمية والدولية والاقتصادية والأمنية على مستقبل لبنان وخياراته السياسية.
هدنة 1949:
لحظة تأسيس لم تدُم
كانت اتفاقية الهدنة في 23 آذار/مارس 1949 أول وثيقة رسمية تنظّم علاقة بين لبنان وإسرائيل. لم تكن اتفاق سلام، بل وقفاً دائماً للأعمال العدائية، أسَّس لخط الهدنة الذي سيصبح لاحقاً مرجعاً لترسيم الحدود البرية بعد الانسحاب الاسرائيلي أو ما يُعرف بـ«الخط الأزرق» بعد العام 2000. نصَّت الاتفاقية على احترام سيادة لبنان ووحدة أراضيه، وعلى منع أي أعمال عدائية عبر الحدود. لكن لبنان، الذي لم يكن طرفاً فاعلاً في الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، بل بقي أسير تقلبات المنطقة، ولم يستطع تحويل الاتفاقية إلى مظلة استراتيجية تحميه من الانزلاق إلى ساحات الآخرين.
جاء «اتفاق القاهرة» في عام 1969 ليُشكِّل تحوّلاً مفصلياً في مسار الدولة اللبنانية، إذ منح منظمة التحرير الفلسطينية وضعاً خاصاً يُشرعن العمل الفدائي انطلاقاً من المخيمات والمناطق الحدودية. وللمرة الأولى، قبلت السلطة اللبنانية بوجود قوة مسلّحة غير تابعة لها ضمن أراضيها، مع استقلالية أمنية داخل المخيمات وحرية حركة تنظيمية للفصائل الفلسطينية، ما مثّل – عملياً – تقويضاً مباشراً لسيادة الدولة على جزء من جغرافيتها.
وعقب اندلاع الحرب الأهلية عام 1975، ظهرت بوضوح التداعيات الأعمق للاتفاق، إذ أصبحت الساحة اللبنانية مفتوحة أمام تعدّد القوى المسلحة والتدخلات الخارجية، فيما فقدت الدولة القدرة على ضبط أمنها الداخلي أو إدارة حدودها الجنوبية. وقد بقيت آثار «اتفاق القاهرة» حاضرة في الذاكرة السياسية اللبنانية كأحد أهم اللحظات التي أضعفت سلطة الدولة ومهّدت لسلسلة من الأزمات التي حكمت لبنان لعقود لاحقة.
الفرص الضائعة لإقفال ملف الجنوب
عقب الاجتياح الإسرائيلي للبنان في حزيران/يونيو 1982، شكّل اتفاق «17 أيار» 1983 أول محاولة لبنانية لتثبيت «علاقة أمنية – سياسية» مع إسرائيل. جاء الاتفاق برعاية أمريكية. لكن الاتفاق سقط سريعاً أمام ضغط داخلي مما كان يُعْرف بـ«الحركة الوطنية» المتكئة على دعم سوري ومظلة سوفياتية، والمناهضة لما فرضه خروج «منظمة التحرير الفلسطينية» والاحتلال الإسرائيلي من موازين قوى تُمسك بخيوطها تل أبيب وواشنطن. وعليه، لم يكن سقوط اتفاق «17 أيار» مجرّد فشل سياسي، بل محطة مفصلية رسَّخت معادلة لطالما حكمت لبنان: أي تفاوض مع إسرائيل لا يمكن أن يمرَّ دون توافق داخلي شامل يعكس تفاهماً إقليمياً – دولياً وإلاَّ أصبح ساحة صراع لتلك القوى بأيدٍ لبنانية.
بعد مؤتمر مدريد للسلام عام 1991، شارك لبنان في مسار تفاوضي ثنائي مع إسرائيل في واشنطن. لم ينجح المسار، وبقيت دمشق اللاعب الأساسي، واستخدمت الورقة اللبنانية لتحسين شروط سوريا كحاجة إقليمية في المنطقة. وفي أيار/مايو 2000، خرجت إسرائيل دون اتفاق، وتركت خلفها ساحة سمحت لإيران و«حزب الله»، عبر سوريا، بترسيخ معادلة «سلاح المقاومة» المستندة إلى بقاء الاحتلال في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا. كان يُمْكِن للانسحاب أن يكون لحظة ذهبية لإقفال ملف الجنوب كمنصة للصراعات الإقليمية، ولإعادة بناء الأمن اللبناني على قاعدة الجيش والدولة. إلاَّ أن غياب الاستراتيجية الوطنية، واستمرار الوصاية السورية، سمحا بتمديد الدور العسكري لـ«حزب الله»، الذي أصبح لاعباً إقليمياً أكثر منه جزءاً من منظومة الدفاع الوطني. وعَـوَض أن يُشكّل الانسحاب نهاية لدور الجنوب كـ«ساحة صراع بالوكالة»، أعاد إنتاجه على نحو مختلف. صار الجنوب – عبر «مزارع شبعا» – مساحة مفتوحة لإبقاء «شرعية السلاح»، ولربط الجبهة اللبنانية بمسارات التفاوض السورية. وبذلك، تحوَّل ملف الحدود من قضية سيادية لبنانية إلى ملف متعدد الأبعاد، تُمسك مفاتيحه دمشق وطهران أكثر مما تُمسكه بيروت.
القرار 1701: غياب الإرادة والقدرة
في 12 تموز/يوليو 2006، أَسر «حزب الله» جنديين إسرائيليين على الحدود اللبنانية – الإسرائيلية في عملية أسماها «الوعد الصادق»، وقال إنها تهدف إلى إطلاق سراح الأسير اللبناني سمير القنطار، ما أدى إلى «حرب لبنان الثانية» وفق التسمية الإسرائيلية. خلال 33 يوماً، تحوَّل لبنان إلى ساحة مواجهة مفتوحة، استهدفت فيها إسرائيل البنية التحتية والجسور والمرافئ والضاحية الجنوبية والجنوب والبقاع، فيما واجه «حزب الله» الهجوم بقصف صاروخي مكثّف طاول عمق الجليل، وبمعارك برّية عرقلت تَـقدُّم القوات الإسرائيلية نحو القرى الحدودية.
كشفت الحرب، على المستوى العسكري، حدود القوة الإسرائيلية التقليدية أمام نمط قتال يعتمد على اللامركزية والتحصينات تحت الأرض، وأظهرت في المقابل قدرة «حزب الله» على الصمود وإدارة معركة طويلة رغم اختلال موازين القوى. حين اغتالت أمريكا قائد «فيلق القدس» في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني، كشف الأمين العام لـ«حزب الله» السيّد حسن نصرالله عن أن سليماني كان يُدير بنفسه المعركة من غرفة عمليات «الحزب». جاءت كلفة الحرب البشرية والمادية والاقتصادية هائلة، لكنها أدت سياسياً إلى إعادة إنتاج معادلة «توازن الردع» على الحدود الجنوبية، ورسَّخت حقيقة أن الساحة اللبنانية باتت مرتبطة مباشرة بمعادلات إقليمية تتجاوز قدرة الدولة على التحكّم بمسارها.
اختُـتمت الحرب بالقرار 1701، الذي وضع آليات جديدة للانتشار في الجنوب، وعاد ليُحدِّد نظرياً نطاق السلاح ومنطقة العمليات العسكرية، غير أنه ترك سؤالاً مفتوحاً حول مستقبل سيادة الدولة ودورها في إدارة الصراع. وهكذا، تحوَّلت حرب 2006 إلى نقطة مفصلية تُقرأ على أنها نهاية مرحلة وبداية أخرى في بنية القوة داخل لبنان وفي شكل المواجهة بين «حزب الله» وإسرائيل، مع ما رافقها من تداعيات سياسية وأمنية على الداخل اللبناني والمحيط.
كان يُفترض أن يُشكِّل القرار 1701 محطة مفصلية في التحوّلات التي رافقت مسار النزاع اللبناني ـ الإسرائيلي، حيث وضع للمرة الأولى إطاراً شبه متكامل لانتشار الدولة اللبنانية جنوب نهر الليطاني، عبر تعزيز قوات «اليونيفيل» وزيادة عديد الجيش اللبناني، مقابل انسحاب القوات الإسرائيلية خلف الخط الأزرق. إلا أن جوهر القرار لم يكن فقط وقف الأعمال الحربية، بل محاولة إنتاج «نموذج أمني جديد» للجنوب، قوامه منطقة خالية من أي وجود مسلح غير شرعي، ما يعني نظرياً إنهاء دور «حزب الله» العسكري جنوب الليطاني.
لكن الوقائع سرعان ما أثبتت صعوبة تطبيق هذا النص. فـ»الحزب»، وإن انسحب تكتيكياً عن الخطوط الأمامية، أعاد إعادة بناء بنيته العسكرية في العمق الجنوبي، محافظاً على خطوط تواصل معقّدة بين القرى والوديان، ومانحاً القرار 1701 وظيفة «تنظيم التماس» أكثر مما هو «تفكيك القدرات». ومع مرور السنوات، تحوَّل الجنوب إلى مساحة مزدوجة: دولة رسمية منتشرة اسميّاً، و«حزب الله» مُمسك بعمق القرار الميداني. هذا التباين بين النص والواقع عاد بعد «حرب الإسناد»، التي فتحها «حزب الله» على الحدود مع إسرائيل تحت شعار «دعم غزة» في اليوم التالي لعملية «طوفان الأقصى»، ليُشكِّل أحد أهم عناصر التفاوض بعد 2024، مع بدء الولايات المتحدة وإسرائيل بالحديث عن «التطبيق الكامل للقرار 1701» كشرط أساسي للاستقرار. ويذهب الرغبة الأمريكية إلى ما هو أبعد: الانضمام إلى الاتفاقيات الإبراهيمية والحديث عن منطقة ترامب الاقتصادية التي تشكل منطقة عازلة على الحدود.
الانتقال من الميدان إلى الطاولة
اليوم، بعد انكسار «محور إيران» في سوريا وإضعافه في لبنان، تشهد البلاد لأول مرة احتمالاً لانتهاء وظيفة الجنوب كمنصة صراع إيراني – إسرائيلي، ما فتح الباب أمام مقاربة جديدة تتجاوز ما عُرف بالمعادلة الثلاثية الذهبية (جيش ـ شعب ـ مقاومة) والتي غابت للمرة الأولى عن البيانات الوزارية التي كانت تُشرعن المقاومة، تلاها إعلان مجلس الوزراء اللبناني في 5 و7 آب/أغسطس 2025 قراراً بتكليف الجيش اللبناني بإعداد خطة شاملة لحصر السلاح بيد الدولة قبل نهاية العام الحالي. فما عاد «حزب الله» يحظى بشرعية رسمية بعد هذا التاريخ.
لكن المقاربة الجديدة، التي تعكس مناخاً لبنانياً لغالبية اللبنانيين معطوفاً على مطالبات دولية وضغوطاً على السلطة الحاكمة كي لا تتملص من التزاماتها الدولية، أظهرت انقساماً سياسياً داخلياً يعكس صراعاً حول طبيعة الدولة اللبنانية نفسها، بين مَن يُطالب بجعلها وحدها صاحبة الحق والمهمة في حمل السلاح، ومَن يعتبر هذا التصوُّر تهديداً للمكوِّن الشيعي الذي ينظر بغالبيته إلى «المقاومة» على أنها الضمانة، ليس في وجه إسرائيل حيث أثبتت حرب الـ66 يوماً بين 27 أيلول/سبتمبر و27 تشرين الثاني/نوفمبر فقدانه لدور الردع وصون الجنوب، بل في وجه الداخل علّه يُحافظ على هيمنته التي امتدت لسنوات طويلة بفعل «فائض قوة السلاح» التي كان يمتلكها «حزب الله».
في واقع الأمر، وضع القرار الحكومي في 5 و7 آب/أغسطس إطاراً سياسياً جديداً تجاه «حزب الله»، والدولة، والسلاح، وإسرائيل. وأصبح جزءاً لا يتجزأ من سردية التفاوض اللبناني ـ الإسرائيلي المبني على اتفاق 27 تشرين الثاني/نوفمبر 2024 وما سبقه من قرارات دولية ولا سيما القرار 1701.
المطالبة اليوم بالعودة إلى «اتفاقية الهدنة» كمرجعية تاريخية قد تُعيد إلى لبنان جزءاً من حقه القانوني وتؤسِّس لمفاوضات متوازنة، وتجنّبه الدخول في معاهدة سلام كاملة – غير واقعية لبنانياً – مقابل فرض هدنة طويلة الأمد تُنظّم الحدود وتضبط السلاح، وتوفّر لإسرائيل «طمأنينة استراتيجية». لكنّ العودة إلى هدنة 1949 ـ إن حصلت- لا تعني إنهاء الصراع، بل إنتاج صيغة «سلام مؤجّل»، تُجمِّد البنود الخلافية الكبرى وتمنح المجتمع الدولي وقتاً لإعادة صياغة الإقليم بعد انتهاء حرب غزة وإطلاق «خطة ترامب للسلام الإقليمي». غير أنّ العودة إلى «اتفاق الهدنة» تأتي في ظرف بالغ التعقيد، ويتطلب ذلك موازين قوة داخلية متماسكة ودولة قادرة على تنفيذ التزاماتها الدولية، وهما شرطان يواجهان تحديات عميقة.
السلاح بين
التفكيك الطوعيّ أو القسريّ
لا شك في أن الملف الأكثر حساسية في خلفية أي تفاوض راهن هو مستقبل سلاح «حزب الله». وربما هي المرة الأولى التي يبدو فيها هذا الملف وكأنه خرج من دائرة «المحظور» في النقاش الدولي. ترفع إسرائيل سقف تهديداتها مُعلنة أن نزع السلاح جنوب الليطاني لم يعد مطلباً، بل شرطاً لعدم الذهاب نحو مواجهة شاملة؛ وتبدي الولايات المتحدة وضوحاً أكثر في القول إن أي دعم اقتصادي للبنان يجب أن يترافق مع خطوات تُعيد إلى الدولة السيطرة الفعلية على أراضيها. وهذه حال عواصم عربية، خصوصاً في ظل المشاريع الإقليمية الجديدة التي تقودها واشنطن لإعادة رسم خرائط الطاقة والنقل والاستثمار من الخليج إلى البحر المتوسط.
أصبحت المعادلة علنية: تطبيق كامل للقرار 1701، وضبط الحدود، وتفكيك تدريجيّ للبنية العسكرية لـ«الحزب»، مقابل إطلاق مسار إعادة إعمار لبنان ودعمه اقتصادياً. وإذا لم تتحقق هذه المعادلة بالاتفاق، فإسرائيل تلوِّح بفرضها بالقوة. الخطر هو أن لبنان قد يجد نفسه بين خيارين أحلاهما مرّ: إما التفاوض من موقع الضعف، أو مواجهة قد تُدمِّر ما تبقى من دولته.
ففي ظل التبدلات الإقليمية، ومع مشروع إدارة دونالد ترامب للسلام في غزة والمنطقة، يبرز هاجس لبناني أساسي: هل يصبح لبنان خارج المشهد إذا لم يُواكب هذا التحوُّل؟ فالإقليم يتّجه إلى ترتيبات اقتصادية – سياسية ضخمة، من الممر الاقتصادي الهندي – الأوروبي إلى الاتفاقيات الإبراهيمية، مروراً بإعادة هندسة أمن الخليج، وكل ذلك يجري فيما لبنان غارق في أزمته. لذلك، بات التفاوض على الحدود الجنوبية جزءاً من مشروع أوسع: إعادة دمج لبنان في الخريطة الاقتصادية والسياسية، شرط أن يستعيد حدّاً من الاستقرار.
ماذا يريد لبنان؟
وإذا كان مطلب البعض أن تبقى المفاوضات اللبنانية – الاسرائيلية في إطار الترتيبات الأمنية التي يمكن ربطها بمرجعية قائمة تحفظ ماء وجه لبنان، فإن ذلك لا يمنع القلق الكامن في أنها تُكتب في ظل انهيار داخلي وتفكك إقليمي وتحالفات جديدة، بحيث إن السؤال لم يعد: ماذا يريد لبنان؟ بل: ماذا يستطيع أن ينتزع، وماذا يستطيع أن يمنع، وما هو الثمن إذا لم يدخل في التسوية؟ من هنا تبرز الدعوات إلى تحضير الداخل اللبناني أرضيته نحو البحث عن «سلام ما».
فحين ينقل الأمريكيون عن الإسرائيليين أن التفاوض سيكون تحت النار وأنه مسار منفصل عن مسار التصعيد، ينشأ الخطر الأكبر بأن يكون لبنان ذاهباً إلى الحل المفروض من الخارج، لا إلى الحل الناتج عن تفاوض داخلي – خارجي متوازن. فالناقورة قد تكون بوابة لحل تاريخي، لكنها قد تتحوَّل أيضاً إلى مدخل لإعادة رسم كيان لبنان إذا استمر الفراغ السياسي والانقسام الداخلي وتمسّك إيران باستخدام «حزب الله» والشيعة ولبنان واللبنانيين كورقة لتحسين شروط التفاوض حول النووي والنفوذ والصواريخ الباليستية وحتى مستقبل النظام.
بات مسار التفاوض اللبناني – الإسرائيلي اليوم انعكاساً لميزان القوى الجديد في الشرق الأوسط. فبعد عقود كان فيها الجنوب ساحة للصراع الإقليمي، يبدو أنّ اللحظة الحالية قد تكون الأخيرة التي يقف فيها لبنان أمام خيار: إمّا أن يرسم دوره، ويستعيد سيادته، وينمو اقتصاده، ويخلق مكانه في الشرق الأوسط الجديد، أو أن يتحوَّل إلى ملعب تُرسم حدوده وأدواره من الخارج. فلم يعد الأمر يتعلق فقط بالحدود أو القرار 1701 أو الهدنة، بل بمستقبل لبنان نفسه.
«الناقورة» ليست إلا البوابة الأولى إلى هذا التحوُّل الكبير، الذي قد يأخذ لبنان إلى استقرار تاريخي… أو إلى إعادة رسم شاملة لكيانه السياسي والأمني.
