ثلاثة أفلام شهدها برنامج العروض الخاصة هذا العام ضمن فعاليات الدورة الخامسة من مهرجان البحر الأحمر السينمائي (4-13 ديسمبر) هي الفرنسي الإسباني حاد الإشعاع “صراط” للمخرج أوليفر لاكس، والأميركي “كيل بيل” في نسخة خاصة من صياغة كوانتين ترانتينو بعد 20 عاماً من صدور الثنائية الخارقة، والتونسي الفذ “صوت هند رجب” من إخراج كوثر بن هنية، والحائزة على جائزة الأسد الفضي من مهرجان فينسيا الأخير في دورته الـ 82، وهو ترشيح تونس الرسمي هذا العام ضمن فئة الفيلم الدولي لنيل جائزة الأوسكار في الليلة 96.

يمكن تصنيف “صوت هند رجب” على اعتبار أنه فيلم (هجين) يجمع بين الشكل الروائي والعناصر الوثائقية القائمة بالأساس على التسجيل الصوتي للطفلة الفلسطينية هند رجب ذات الـ 6 سنوات والتي ظلت محتجزة عدة ساعات مع جثث أفراد من عائلتها، بينما تتواصل معها تنسيقية الهلال والصليب الأحمر في رام الله لتأمين مسار سريع بعيداً عن القصف، لدخول سيارة الإسعاف من أجل إنقاذها من وابل الرصاص الإسرائيلي في 24 يناير 2024 وقت ذروة الحرب على غزة.

ويمكن أيضاً النظر إليه على اعتبار أنه وثائقي – درامي قائم على أثر صوتي – وهو التسجيل المذكور- يٌستخدم فيه التمثيل كأداة استحضار وليس لإعادة خلق! أثر صوتي لا يجوز إعادة تمثيله، ليس فقط لأنه موجود ولكن لأن أي محاكاة له مهما كانت فلن تصل أبداً إلى مستوى صدق اللحظة ومآساويتها، اللذين يفوحان من صوت الفلسطينية الصغيرة في ساعات رعبها الطويلة قبل أن يصمت هاتفها إلى الأبد.

ألفة وهند

العام الماضي وخلال الدورة الرابعة لمهرجان البحر الأحمر، حصلت كوثر بن هنية على جائزة الشرق التي تمنحها قناة “الشرق” لأحسن فيلم وثائقي في المهرجان، عن فيلمها “بنات ألفة”، وهذا العام تعود بفيلم “صوت هند رجب” لكي تكلل تفرد أسلوبها المتين والخاص في القدرة على تحويل الواقع إلى دراما، مع الاحتفاظ بأكبر قدر من الحقيقة، وعبر كسر الإيهام المستمر الذي تمرره إلى وعي المتفرج ولا وعيه في نفس الوقت، ما يخلق الحالة المؤثرة والصادمة في كثير من الاحيان لأفلامها في الفترة الأخيرة.

تبدو الخبرة التي اكتسبتها كوثر من تجربة “ألفة” شديدة الوضوح والنمو في التجربة الجديدة، وهي الخبرة التي بدأت في مراكمتها منذ أنجزت تجربتها الفريدة في الأفلام العابرة للأنواع؛ “شلاط تونس”، قبل أكثر من عقد.

كان فيلم “ألفة” مبني بالكامل على الحكايات المعاد تمثيلها بشقيها الواقعي والمجازي؛ لأسرة الأم التونسية التي انضمت ابنتاها إلى تنظيم “داعش” في هوجة اللجوء إلى الجنة المزعومة؛ وجمعت فيه كوثر بين “ألفة” الحقيقية وبين قناعها التمثيلي الذي قدمته الممثلة هند صبري، في مكاشفة عارية وصادمة، مع وجود جانب مجازي واضح يخص جمع شخصيات الرجال الذين مروا في حياة الأم وابناتها عبر تجسيدهم في رجل واحد مثله مجد مستورة.

أما في “هند رجب” فثمة عناصر صوتية وبصرية أكثر زخماً وحضوراً، على رأسها التسجيل الصوتي والمقاطع المصورة لفريق الهلال الأحمر الفلسطيني الذي حاول إنقاذ الفتاة لساعات قبل أن ينتهي كل شيء، بل ويمكن أن نضيف لهذا تحدي معرفة الجمهور بسياق الموقف، إذ سبق له أن استمع إلى صوت الطفلة المغدورة وقت أن تعرض دمها الصغير للسفك.

ما فعلته كوثر هو اختيار مجموعة ممثلين يشبهون الشخصيات الحقيقية لرباعي الهلال الأحمر الذي حاول إنقاذ الفتاة، وذلك لخلق أكبر قدر إيهامي للجمهور الذي يعرف الشخصيات الحقيقية، وهم الممثلين كلارا خوري، وسجا كلاني، ومعتز مليحس، وعامر حليحل، وهو الشبه الذي ظهر جلياً ليس فقط في نهاية الفيلم عندما عرضت صورة المجموعة، ولكن عندما كسرت هذا الإيهام وجعلتنا نشاهد أمام الكاميرا المقاطع الحقيقية التي أخذ عنها الفيلم بينما يؤديها الممثلون؛ في مغامرة تجريبية وسردية فائقة الجرأة والقوة، وتعكس إحساساً بالسيطرة على المادة وتوجيهها، لخلق أكبر قدر تأثيري لدى الجمهور، والذي ربما رأى المقاطع الحقيقية بالفعل على السوشيال ميديا وقت الحادثة.

قبل بداية الفيلم لعبت كوثر على شريط الصوت بدقة، دامجة صمت الشاشة التي لا تحتوي سوى على شكل ذبذبات الصوت، مع صوت البحر الذي يبدو بعيداً يتنهد في حزن؛ هذه اللعبة الدراما/صوتية يتبين لنا مغزاها في النهاية عندما نسمع صوت أم هند وهي تحكي عن حب الصغيرة للبحر؛ وأنها كانت ترغب حين يذهبون بها إليه وهي في سنواتها المبكرة، أن يتركوها تلعب عنده إلى الأبد، لينتهي الفيلم بمقطع لها وهي صغيرة – كانت وظلت صغيرة – تلعب على الشاطئ، بينما صوت الموج يغمر مشاعر الشاشة نفسها، معلناً عن نفسه بعدما كان مجرد تنهيدة خافتة في البداية، وبهذا تحقق كوثر بناء صوتي دائري، كأنها تمنح هند الخلود الذي تستحقه على شاطئ بحر بعيداً عن الرصاص والدبابات والجثث والرعب الدموي.

تمهد كوثر بن هنية للحدث القادم سريعاً عبر كتابة مكثفة على الشاشة عن خلفية الحدث، ثم تنتقل إلى مكتب الهلال الأحمر، حيث تدور عملية التوثيق كاملة، وكما في ألفة، تحاصر كوثر شخصياتها في المكان بصرياً بشكل أساسي، ليصبح هو ساحة المعركة الشعورية، لا تغادره، أو تقطع حالة الكبت التي تتولد لدى المتفرج من وجوده الأثيري داخل مكان واحد طوال الوقت خلال المشاهدة، لا تذهب إلى أي مكان يخص الموقف، سوى في النهاية، حين تعرض مقاطع لعملية انتشال جثث الصغيرة وعائلتها، والمسعفين اللذين فقدا حياتهما في الطريق إليها، رغم تأكيد الصهاينة على الضوء الأخضر للعبور والإنقاذ، وكأنهم استدرجوهم لكي يقتلوهم مع الفتاة.

لا تكتفي المخرجة بهذا الحصار المكاني، ولا تدعنا نعرف سوى الوجوه الأربعة التي خاضت محاولة الإنقاذ، حيث تقترب بالكاميرا في أحجام قريبة جداً من الوجوه أثناء المكالمات الطويلة والعديدة التي تبادلها موظفو الهلال الأحمر مع هند، اقتراب يحتاج أولاً إلى ممثلين في حالة توحد كامل مع الشخصيات التي يقدمونها، لكي يبدو الألم والعذاب والقهر والعجز باذخ الحضور على ملامحهم، ومتدفقاً من عيونهم وأصواتهم، وثانياً إلى دقة إيقاعية  في حساب زمن كل لقطة قريبة للوجه، وحركة الكاميرا غير المستقرة عليه – ما يسمى حركة الكاميرا الإخبارية التي تسجل الحدث دون اهتمام بالتكوين أو نقاء الصورة أو عدالة ميزانها – وهو ما يرجح أيضاً أن يكون السبب في اشتراك كوثر بن هنية – كما في “بنات ألفة” – في عملية مونتاج الفيلم؛ خاصة أن الشريط يحتاج إلى حساسية إيقاعية دقيقة جداً في التعاطي مع الأسلوب الذي اختارته لتقديم هذا النسيج المغزول من الدراما والواقع.

استخدام الكاميرا المحمولة غير المستقرة أو المرتبكة استطاع أيضاً أن يعكس حجم القلق والتشتت والمفاجأة التي انتابت الجميع في مكتب الهلال الأحمر، والتي لم يكونوا على استعداد لها بأي شكل رغم خبراتهم الطويلة وتدريبهم الواضح، فكل شيء جرى ارتجاله على الهواء، وكل الانفعالات انفجرت دون قدرة على توظيف التدريب أو التماسك، فقدان السيطرة حد التشنج، والصراخ، وتكسير الأشياء، وبالتالي كانت حركة الكاميرا الحرة غير المرتبة أو المستقرة هي الوسيلة التي يمكن أن تحشر هذا بشكله العنيف في لاوعي المتفرج، فلا مجال لترتيب الصورة ولا تنسيق الكادرات أو رسم التكوينات المعبرة.

 الخصم في الداخل

أكثر المعادلات الدرامية الذكية والملفتة للتأمل في أسلوب كوثر بن هنية بالفيلم هي استخدامها تقنية يمكن أن نسميها الخصم في الداخل؛ فالكل سواء شخصيات أو متفرجين يعلمون من هو الخصم الرئيسي والأساسي في الأزمة الكبرى – الجيش الصهيوني – ولكننا لا نراه؛ وإن كنا نسمع صوت آلته الحربية التي تنتظر أن تقبض روح الصغيرة، والصوت أكثر عمقاً من الصورة كما حدثنا المخرج الفرنسي روبير بريسون؛ لأن الأذن أعمق من العين وصفير قاطرة واحدة يكفي لاستدعاء محطات قطار بأكملها، أما لقطة قطار فهي لا تصور في النهاية سوى قطار واحد.

ولصياغة صراع مادي واضح وملموس على الشاشة عملت كوثر على تطويع الأحداث – ولا نقول تغييرها – عبر الصياغة والإيقاع، لكي تمنحنا خصماً في الداخل يمكن أن تتجه إليه مشاعرنا بالغضب أو الضيق أو الخوف منه او الانحياز ضده، ونعني به (مسؤول تنسيق حركة سيارات الاسعاف) الذي يرفض من البداية وبشكل قاطع أن يمنح سيارة الاسعاف، التي على بعد 8 دقائق فقط من مكان اختباء هند -داخل سيارة عمها المهلهلة بالرصاص – إذناً بالحركة والتوجه لإنقاذ الصغيرة، إلا بعد أن يمنحه الصليب الأحمر الضوء الأخضر القادم من جيش الاحتلال، وذلك بجواز المرور دون التعرض للقصف أو إطلاق النار.

خلال الفصلين الأول والثاني يصبح هذا الموظف هو الخصم الذي تصب عليه الشخصيات ومن خلفها الجمهور جام الغضب والحقد تجاه بيروقراطيته، والتي تعكس بيرواقراطية دموية يستخدمها العدو، من أجل التذرع بقتل المسعفين أو اتهام الهلال الأحمر بأنه يعمل مع المقاومة وليس جهة إنقاذ محايدة.

الدراما في أصلها هي صراع بين إرادتين أو أكثر، لكل منهم منطقها وأسبابها ودوافعها وأغراضها، وكلما كانت هذه الإرادات مجسدة في شكل شخصيات من لحم ودم كلما بدا الصراع أكثر سخونة وقوة، وكلما تحققت الدراما في خدمة الفرضية أو فكرة العمل.

هنا تنجح كوثر في تشكيل خصم مجازي – وهو ليس خصماً بل فرد في فريق الإنقاذ – لكن موقعه وحركة الشخصيات الانفعالية من حوله وضعته بشكل درامي في موقع الخصم، وجاءت هنية بذكاء والتقطت هذه الخصومة غير المباشرة، وبلورتها مشكلة بها عنصر لتفجير صراع واضح بين مسؤولي الاستجابة على الهاتف المتحدثين مع الفتاة، وبين المنسق مسؤول التأمين والحركة والإنقاذ.

لخصت لنا كوثر – كما فعلت في “ألفة” عندما جمعت كل الرجال الذين مروا على بيت السيدة في ممثل واحد – كل خصوم هند في هذا الموظف، مع منحه كامل المساحة في أن يعبر عن أسباب تمسكه بالإجراءات التي تبدو شكلية جداً في لحظة طلب الفتاة للمساعدة، فهو يرفض حركة السيارة لمدة 8 دقائق لأن هناك احتمالية أن يتم قصفها أو إطلاق النار عليها كما سبق أن حدث مع مجموعة من زملائه المسعفين، الذي يعلق صورهم خلف مكتبه، ويعلن أنه أقسم أن يستقيل لو أضيفت صورة جديدة من الطواقم إلى صور شهداء الواجب هؤلاء.

استطاعت تقنية الخصم في الداخل – والداخل المقصود هنا هو مكان الحدث وبؤرة الصراع – أن تحقق غرضها الأسلوبي، وهو تفجير الكثير من لحظات الانفعال والصدامية الحادة جداً، وفي نفس الوقت وجود شخصية تتلقى عدم الانحياز لمنطقها أو رفضها أو حتى الحقد عليها والغضب منها بسبب التأخر في كسر الروتين ورفض اتخاذ قرار مغامر ربما ينقذ الفتاة. 

ثم تأتي الذروة أو عملية التصعيد المحسوبة والماهرة جداً عندما يصبح قرار الموظف/ الخصم أو بمعنى أدق دوافعه هي الأكثر صدقاً وتحققاً، إذ أنه بعدما حصل المسعفون على الضوء الأخضر من الصليب الأحمر والجيش (المغولي)، يتم قصف السيارة بالفعل وبشكل عنيف – كما شاهدنا لقطات لحطامها المفتت في النهاية – وقتل البنت الصغيرة التي كانت في انتظارهم كي ينتشلوها؛ فنعود لننسى الخصومة التي وجهتنا المخرجة كي نصبها عليه، وتتجه مشاعرنا كمتفرجين – ونحن حقاً متفرجين سواء واقعياً أو سينمائياً – للغضب والحقد والكراهية تجاه الخصم الحقيقي والواقعي الذي يستحق كل غلظتها ونفورها الهائل.

أكثر من حقيقة 

كما سبق وأشرنا إلى استخدام كوثر أسلوب عرض الفيديو الحقيقي داخل المشهد السينمائي كما نرى في الفصل الأخير، حيث نشاهد واحد من الفيديوهات الأصلية معروض على شاشة موبيل أثناء المشهد السينمائي المعاد تمثيله، محققاً فكرة الحقيقتين أو الحقيقة المزدوجة التي يحتاجها الحدث لكي تؤكد على فداحة قسوة، بهذا الأسلوب تخلق كوثر ضغطاً مضاعفاً على مشاعر المتلقي عندما تريه المشهد مكرر مرتين، حتى كأننا داخل أكثر من حقيقة واحدة، وهو ما يحتاجه موقف مزلزل ودموي مثل مقتل فتاة صغيرة في سيارة تلقت أكثر من 300 رصاصة، ودمرت عربة الإسعاف التي كانت ذاهبة لإنقاذها! فما حدث يحتاج إلى أكثر من حقيقة لكي نصدق أنه حدث، لا من باب التكذيب، ولكن من باب دحض أي إنكار سواء دعائي من جهة الخصوم أوشعوري من جهتنا كمتلقين لقسوة ما حدث.

هذا الأسلوب يحقق درجة عالية من كسر الإيهام، بعد أن نكون تشبعنا بعملية تحويل الواقع لدراما وإعادة التمثيل من ناحية، ومن ناحية أخرى ونحن نقترب من ذروة المأساة عقب فشل سيارة الإسعاف في الوصول إلى هند، ومحاولة التأكد من أنها سمعت صوت الرصاص خارج مخبأها، لكي نعرف في ما بعد أنه كان موجهاً ناحية سيارة الإسعاف. 

كان لدى هنية فرصة استخدام هذه الأسلوبية من البداية حيث تملك الحرية التي يوفرها النوع وشكل الفيلم في أن تُضمن أي مواد مصورة من الواقع، ولكنها اختارت تأجيل هذا بشكل واع، وتركتنا مع إيهام الممثلين وواقعية الصوت، تفجر الصراع، وقسوة الانتظار، إلى حيث أو حين يصبح دخول الصورة الواقعية أو الفيديو الحقيقي قرب النهاية صدمة مطلوبة في تلك اللحظات العصيبة، والتأكيد أن ما حدث يحتاج إلى صورة داخل صورة وحقيقة داخل حقيقية لكي نتمكن من استيعابه او التشبع به حد الألم.

أخيراً يمكن القول إن “صوت هند رجب” واحد من أكثر التجارب السينمائية العربية المغامرة على مستوى النوع، بما يستحق معه أن يعتبر نموذجاً يدرس في سينما ما بعد الصدمة، السينما الدعائية التي تعمل لصالح قضية عادلة، أي الدعائية الإيجابية، خاصة مع توظيف الشكل أو صياغته من خلال عناصر تقنية وأسلوبية تعكس إبداعاً حقيقياً، ومهارة ملفتة تتجاوز حدود الصنعة إلى الحميمية الإنسانية، فالقدرة على عصر القلوب دون أماتتها ليست بالسهلة، والتوثيق العميق لا يتم من أجل المعلومة والتأريخ فقط، ولكن عن دراية بأن ما يحرك المشاعر هو ما يُبقي القصص حية في أرض الذاكرة.

* ناقد فني