Published On 19/12/202519/12/2025
|
آخر تحديث: 23:49 (توقيت مكة)آخر تحديث: 23:49 (توقيت مكة)
انقر هنا للمشاركة على وسائل التواصل الاجتماعي
share2
منذ الإعلان عن فيلم “الست”، بدا واضحا أننا أمام محاولة سينمائية تقترب من واحدة من أكثر الشخصيات حضورا وهيمنة على الوجدان المصري والعربي؛ فيلم لا يسعى إلى إعادة سرد تاريخ أم كلثوم، بقدر ما يحاول تفكيك صورتها عبر لحظات منتقاة من حياتها ومسيرتها. غير أن هذا الاختيار وضع صُناع العمل أمام تحديات معقدة، تتعلق بتوجس المتفرجين تجاه أي عمل يتناول أيقونة لم تُنسَ، رغم مرور 50 عاما على وفاتها.
فيلم “الست” هو عمل سينمائي مصري ينتمي إلى الدراما والسيرة، من إخراج مروان حامد وسيناريو أحمد مراد، في تعاون جديد بينهما بعد تجارب سابقة ناجحة، على الأقل من الناحية التجارية. تقوم ببطولة الفيلم منى زكي في دور أم كلثوم، ويشاركها البطولة محمد فراج، وسيد رجب، وأحمد خالد صالح، وتامر نبيل، إضافة إلى عدد من نجوم الشرف.
الست وغياب وجهة النظر
منذ اللحظة الأولى، يتضح أن فيلم “الست” لا يتبع البناء السردي التقليدي القائم على بداية ووسط ونهاية. اختار أحمد مراد الابتعاد عن الحكي الخطي، وبناء الفيلم على مجموعة من اللحظات المفصلية في حياة أم كلثوم ومسيرتها الفنية، لينتقل بينها بحرية واضحة، ذهابا وإيابا في الزمن.
اقرأ أيضا list of 2 itemsend of list
منح هذا الاختيار الفيلم إحساسا بأنه مجموعة من المحطات المتجاورة، لا سردا متصاعدا، وكأن المتفرج أمام معرض لوحات تسعى كل منها إلى إضاءة جانب من شخصية أم كلثوم، لا تتبع تطورها الزمني الكامل.
وتحاول كل لقطة من الفيلم، تبعا لهذا الأسلوب، كشف ملمح إنساني من أم كلثوم: نجاح، أو انكسار، أو صعود، أو تحد، أو لحظة ضعف. التركيز هنا ليس على الاستقصاء التاريخي الدقيق، بقدر التقاط لحظات دالة تشرح الشخصية أكثر مما تشرح التاريخ. وبالتالي، لا يطمح الفيلم إلى أن يكون سيرة مكتملة، بل يحاول الاقتراب من الإنسانة التي تقف خلف هذه الأسطورة.
المفاجأة الإيجابية أن الفيلم لا يقع في فخ التقديس المعتاد عند تناول شخصية بحجم أم كلثوم، فالمعالجة تحاول التقريب لا التعظيم، ورؤية الإنسانة خلف الرمز من دون تهشيم الهالة المحيطة بها في الوقت ذاته. وهو رهان صعب، لأن أي معالجة لأم كلثوم تصطدم تلقائيا بتوقعات جاهزة لدى الجمهور، تتراوح بين الرغبة في التقديس والخوف من المساس بالصورة المتخيلة.
غير أن هذا الاختيار الأسلوبي، على جاذبيته، يوقع الفيلم في مأزق جوهري، وهو غياب وجهة النظر. فنحن أمام شريط من اللحظات المهمة، لكن من دون نسيج درامي حقيقي يربطها أو يقود المتفرج من نقطة إلى أخرى بوعي واضح. الإحساس العام الذي يتركه الفيلم أنه أقرب إلى ومضات متتالية، لا إلى عمل متكامل البنية.
والمحصلة أن المتفرج يخرج حافظا للمحطات، لكنه غير قادر على تفسير السبب وراء جمعها بهذا الشكل، أو ما الذي ينبغي أن يستخلصه منها، وكأن الفيلم اكتفى بتقديم “أهم اللحظات” بدلا من تقديم “معنى هذه اللحظات”.
يحيل هذا الأسلوب إلى طريقة معالجة مسلسل “التاج” (The Crown) لحياة العائلة المالكة البريطانية من خلال محطات متقطعة أيضا، لكن الفارق الجوهري أن المسلسل امتلك وجهة نظر خلف كل اختيار للحظة خُصصت لها حلقة كاملة، بالإضافة إلى رفاهية الوقت. فكل أزمة أو حدث حظي في “التاج” بحلقة كاملة سمحت بالتفكيك والتحليل وبناء التأثير. أما فيلم “الست”، وعلى الرغم من طوله، فإنه يظل محكوما بزمن محدود، مما يخلق إحساسا مستمرا بأن الفيلم يلهث خلف اللحظات الكبرى دون أن يمنح أيا منها حقها الكامل.
تتجلى أهم عيوب الفيلم في غياب وجهة النظر الواضحة تجاه الشخصية التي يروي سيرتها. يحاول الفيلم لمس عدد كبير من الأفكار حول أم كلثوم: المرأة القوية السابقة لعصرها، والفنانة الصلبة، والإنسانة الضعيفة أمام المرض والخوف من فقدان الجمال، والمرأة التي ترغب في الحب لكنها ترفض في الوقت ذاته ما يهدد مكانتها. كل هذه الأفكار حقيقية وموجودة، لكن تناولها جاء سطحيا ومتسرعا.
كل فكرة تظهر وتختفي بسرعة، وكأن مجرد طرحها كافٍ، ولا يمنح الفيلم أي فكرة الزمنَ والعمقَ اللازمين لتحويلها إلى موقف حقيقي وبناء رؤية تفسيرية للشخصية. بل يكتفي بتسجيل حضور السمات المعروفة عنها، دون تبني أي منها بوصفها محورا أساسيا.
ارتباك فكري يقود إلى آخر بصري
هذا الارتباك الفكري ينعكس بدوره على الشكل البصري للفيلم، وأبرز مثال على ذلك استخدام الأبيض والأسود عشوائيا إلى حد ما. كان يمكن لهذا الاختيار البصري أن يحمل دلالة واضحة أو وظيفة سردية محددة، لكن في “الست” يظهر الأبيض والأسود في الماضي، ثم يعود في فترات لاحقة دون منطق دلالي ثابت.
النتيجة أن المتفرج يعجز عن قراءة هذا الاختيار وفهم مغزاه: هل هو رمز للماضي؟ أم للحظات المفصلية؟ ولماذا يُستخدم هنا ولا يُستخدم هناك؟ يتحول الأبيض والأسود إلى عنصر جميل بصريا، لكنه بلا وظيفة حقيقية، ويكرس الإحساس العام بانعدام القاعدة التي تحكم الاختيارات.
تظهر أيضا مشكلة واضحة في بنية الفيلم تتعلق بالاعتماد المفرط على ضيوف الشرف. فبدلا من أن يكون ظهورهم إضافة حقيقية تخدم السياق، بدا أن الفيلم مصمم حول لحظات دخولهم، لتبدو الكثير من المشاهد كما لو أنها كُتبت لإبراز النجم الضيف، لا لخدمة الحكاية نفسها.
هذا التوجه انعكس على الإخراج، الذي مال إلى روح الإعلان التشويقي، من لقطات سريعة وكادرات لامعة ودخول متتالٍ لنجوم معروفين، في محاولة لإبهار المتفرج بالأسماء الرنانة أكثر من بناء سرد متماسك. وفي أجزاء كثيرة، يتحول الفيلم إلى ما يشبه “الفيديو كليب” الطويل المليء باللحظات اللافتة بصريا، لكنه فقير من حيث المضمون.
ويضاعف هذا الإحساس اعتماد الفيلم على مونتاج سريع للغاية، لا يتيح للمتفرج أن يتوقف أو يتنفس داخل المشهد ويستوعبه، بل يدفعه مباشرة إلى المشهد التالي.
تنعكس هذه المشكلات أيضا على مستوى الأداء، ليس بسبب ضعف الممثلين، بل نتيجة لضيق المساحة الممنوحة لهم. فشخصيات محورية في حياة أم كلثوم، جسدها ممثلون بارزون مثل سيد رجب، وأحمد خالد صالح، ومحمد فراج، وتامر نبيل، تظهر في لقطات سريعة ومقتضبة، دون بناء درامي حقيقي.
تتحول هذه الشخصيات إلى ملامح وأيقونات عابرة، بدلا من أن تكون عناصر فاعلة في السرد، وهو خلل خطير، لأن تهميش العالم المحيط بالشخصية المركزية يضعفها بدوره، ويجعلها معزولة داخل فيلم يُفترض به رصد مسيرة إنسانية.
في المجمل، ورغم العيوب الواضحة في الكتابة والإخراج، لا يمكن وصف فيلم “الست” بأنه عمل متواضع. على العكس، هو فيلم مسل وسريع الإيقاع، كما أن نوعية الأفلام التي تتناول الشخصيات التاريخية في السينما المصرية ليست في أفضل حالاتها من الأساس، وبالتالي لا تملك تراكما كافيا أو نماذج مرجعية قوية.
